lundi 5 novembre 2007

وشروه بثمن بخس...


أطفال للبيع


وشروه بثمن بخس...

(عدنان المنصر)

مقال صادر بالعدد 426 من جريدة الموقف التونسية بتاريخ 9 نوفمبر 2007 وبجريدة الحياة اللندنية بتاريخ 26 جانفي 2008

أثارت قضية محاولة ترحيل أكثر من مائة طفل تشادي إلى فرنسا بدعوى أنهم من أيتام الصراع في دارفور موجة كبيرة من الاستياء في أوساط المنظمات الإنسانية الدولية وكذلك لدى كل من لم يتوقع أن تعمد منظمة تنشط في المجال الإنساني إلى محاكاة أساليب عمل منظمات الجريمة المختصة في اختطاف البشر والمتاجرة بهم.


لقد فتحت هذه القضية أبواب الجدل حول أساليب عمل المنظمات الإنسانية في إفريقيا على مصراعيها مجددا وبدا أن العمل الإنساني سيكون أكبر المتضررين. قد لا يكون الدفاع عن العمل الإنساني في هذه الظروف وفي المطلق أمرا حكيما، فالعمل الإنساني يخضع أيضا لقوانين الطبيعة والسياسة. وقد لا يكون الناشطون في هذا المجال ملائكة نسيتهم الآلهة على الأرض، غير أن ذلك ليس داعيا لإلقاء جميع الأطفال مع ماء الغسيل. ففي تشاد تنشط حوالي 80 منظمة إنسانية يقوم عدد كبير منها بجهد كبير من أجل مساعدة الشعب التشادي، والأمر ليس مقتصرا حتما على تشاد. هذا هو نوع الجدل الذي أراد إدريس ديبي أن يؤسس إليه عندما قام بإنجازه العظيم كاشفا تلك الجريمة البشعة في حق الطفولة التشادية المعذبة. كانت المسرحية ناجحة في نظر من لا يعرفون الوضع في تشاد: رئيس في فورة غضبه يهدد الجميع بأقسى التتبعات "مهما كانت جنسياتهم"، يربت على ظهور الضحايا ويغمرهم بحنان لم يخطر ببالنا أنه يملك منه شيئا. رئيس هصور يرتعد الجميع خوفا من احترامه للمؤسسات "التي يجب أن تقوم بدورها"، يضبط بالجرم المشهود بعض البيض الذين كادوا أن يحرموا وطنه من رجال الغد. المشهد مربك فعلا. فمعه تعود إلى الذاكرة أكثر الصور إيلاما: تجار الرقيق يشحنون بضاعة بشرية إلى بلاد بعيدة ليستغلوهم بعد أن ضمنوا ثمنا مجزيا. ولكن هيهات. فالعبيد تحرروا، وأصبح لهم الآن أب وزعيم يرفع لواءهم، ويضعهم تحت جناحه ويقف متحديا الجميع، بمن فيهم السادة البيض الذين اعتقدوا أن بإمكانهم إذلال شعبه الأبي.

المسرحية ناجحة فعلا، وريعها سيعود دون أدنى شك لمنتجها. وأول الغيث سيكون حتما تقييد نشاط الجمعيات العاملة في المجال الإنساني. قد يكون ذلك نتيجة طبيعية لفضيحة الترحيل، ولكن لنمعن النظر قليلا. فتشاد التي تحرقها الحرب الأهلية والديكتاتورية منذ استقلالها تمثل عقدة أساسية من عقد الصراع في وسط إفريقيا، ذلك الصراع المتصل في آن واحد بالحرب في دارفور وبالحرب على الإرهاب. ونتيجة لذلك فقد انخرطت حكومة إدريس ديبي في مسار يهدف إلى تأجيج الصراع في دارفور بمساندة وتسليح العشائر المنتفضة ضد الخرطوم، فساعدت على تجنيد اللاجئين في المخيمات المقامة على أراضيها في الحركات المسلحة الدارفورية. وليس للمسألة علاقة بحق الشعوب في تقرير المصير، فإدريس ديبي انخرط بذلك في صراع عرقي يتجاوز السودان، حيث أنه يواجه هو الآخر مجموعات مقاتلة تدعمها الخرطوم وتتخذ من شرقي البلاد معقلا لها. وتختلط في هذا الصراع عوامل عديدة، عرقية وقبلية ودينية وإستراتيجية ونفطية. وقد أدت الأوضاع في دارفور وطريقة ديبي في التعامل معها في استيطان عشرات المنظمات الإنسانية الدولية للمنطقة حيث لم تعد تراقب ما يفعله الجنجويد فقط بل أضحت شاهدا مزعجا عما ترتكبه القوات النظامية التشادية من عمليات ضد سكان المنطقة الشرقية من البلاد، حيث تقوم مثل القوات المتمردة عليها تماما، بتجنيد الأطفال وإرسالهم إلى الجبهات للموت. لذلك فإن ديبي الذي وافق مكرها على قدوم قوات أوروبية في ديسمبر 2007 إلى شرق تشاد سيكون في موقع شديد الحرج عندما تصبح الانتهاكات التي تقوم بها قواته ضد المدنيين في شرق البلاد تحت طائلة المحاسبة المباشرة. هل استبق ديبي ذلك بمسرحيته؟ الفكرة واعدة بالنسبة إليه، فهي تمكنه في الوقت نفسه من الظهور بمظهر المدافع عن الطفولة البريئة التي يتهم بإرسالها وقودا لحرب طاحنة، ومظهر المدافع أيضا عن شرق البلاد الذي يمقته ويمقت حكمه، كما أنه يقيد عمل المنظمات الإنسانية التي كانت باستمرار تفضح أساليبه ضد معارضيه، وتضع القوات الأوروبية في موقع شديد الحرج حتى قبل حلولها بالبلاد. أما فرنسا، فستدفع فيما يبدو الثمن الأكبر. سينقلب اتجاه البخار فيما يبدو، ويصبح المضغوط عليه ضاغطا. لن يكون بإمكان برنارد كوشنير بعد اليوم إعطاء دروس لأحد حول حقوق الإنسان، وستسقط ادعاءاته بحق التدخل الإنساني في مواطن النزاع ولو كرهت الحكومات. لن يكون بإمكان الفرنسيين، مثلما فعل شيراك أخيرا، التهديد بسحب القوات الفرنسية التي تحمي نظام ديبي بمناسبة أو بغير مناسبة. وسيطير إليه المكوك ساركوزي مثلما طار سابقا إلى طرابلس في قضية أطفال الإيدز الليبيين، فحل في عشر دقائق مشكلة استعصى حلها سنين عددا.

لنعد إلى أطفال تشاد. لم يكونوا أيتاما فيما يبدو، بل أبناء عائلات فجعت بفقدهم وبحثت عنهم دون شك وربما توقفت في لحظة ما عن البحث خوفا من أن يكون اختفاء أبنائها "ضرورة وطنية". هل بحثت عنهم حكومة ديبي؟ ماذا فعلت من أجل أقرانهم منذ تسلم الجنرال ديبي الحكم بعد انقلاب ديسمبر 1990؟ ماذا فعلت من أجل آبائهم وأمهاتهم الذين تطحنهم الأمراض والمجاعات والحروب؟ إدريس ديبي في الحكم منذ حوالي العقدين، ولا يبدو أنه يعتزم الرحيل قريبا. فقد نسج علاقات مصلحة قوية مع الشركات الأمريكية المستثمرة في بترول تشاد وانخرط إلى جانب البنتاغون في الحرب على الإرهاب مغازلا في الوقت نفسه طرابلس والجزائر. ما هو دور هذه المعطيات في تمسك القوى الكبرى بحكم إدريس ديبي وغضها الطرف عن انتهاكاته لحقوق مواطنيه وقمعه الصحفيين وتزييفه للانتخابات (1996 و2001) واستغلال الحرب الأهلية لتصفية معارضي حكمه؟ إنه يشعر دون شك أنه يقوم بدور مهم وأنه لا يمكن التخلي عنه.
لننظر الآن للأمر من زاوية أخرى. لو قدر لهؤلاء الأطفال أن يعيشوا بالرغم عن سوء التغذية والأوبئة والحروب وبلغوا سن الشباب، هل سيشكرون ديبي أم سيلومونه؟ أغلب الظن أنهم لن يكونوا سعداء هم وعائلاتهم. فقد حرمهم من حيث لا يدري من فرصة الانتقال إلى "الفردوس الأوروبي" بعد أن كادوا يصلون إليه لبداية حياة جديدة. سيتوجب عليهم أو على بعضهم آنذاك أن يدفعوا لوسطاء الهجرة السرية من أجل قطع نفس المسافة، وربما انتشلت جثث بعضهم في الأطلسي أو في المتوسط. سيكرهون إدريس ديبي أكثر وأكثر وسيرون أنهم كانوا عملة مقايضة سياسية تتجاوز أحلامهم الصغيرة وأنه باعهم بثمن بخس من أجل مصلحة نظامه. لينتظر أهلهم الآن وقد وقع ما وقع أن تعمل المؤسسات. سيهتم القضاء بالأمر كما كان يفعل دائما. لقد أقسم ديبي أنه لن يتدخل في عملهم. ومن يعرف ديبي يعلم أنه "الصادق الأمين" الحريص على مؤسسات دولة المؤسسات. ألم يخطب في التشاديين عند دخول قواته إلى نجامينا في ديسمبر 1990 أنه "لم يأتهم لا بالذهب ولا بالفضة وإنما بالحرية"؟
في الوقت نفسه بدأ الوسطاء، الذين فقدوا آخر ذرة حياء، يعرضون خدماتهم مستندين إلى "نجاحاتهم" السابقة، عندما شغلوا شعوبهم بقضية مشابهة للوصول إلى أهداف مشابهة. أما الأوروبيون، فلا يمكن أن نتوقع منهم أن يحترموا ذلك القضاء، وسيدخلون اللعبة ويمزجون الضغط بالترغيب مثلما يحسنون فعل ذلك دائما. أما الأطفال، يتامى دولهم وحكوماتهم، فسيعانون ويموتون طيلة حياتهم، صغارا وشبانا وكهولا، جوعا أو غرقا أو حربا أو بالإيدز،وما بدلوا تبديلا..

jeudi 13 septembre 2007

ما فقدناه بتصفية اليوسفية

ما فقدناه بتصفية اليوسفية

عدنان المنصر

تقديم كتاب:

"اليوسفيون وتحرر المغرب العربي"، تأليف عميرة علية الصغير، المغاربية للطباعة والإشهار، تونس 2007، 300 صفحة.

صدر صحيفة الموقف التونسية العدد 418 بتاريخ 14 سبتمبر 2007.

صدر للباحث عميرة علية الصغير كتاب جديد خصصه لتتبع تاريخ الحركة اليوسفية بتونس ومساهماتها في مسيرة تحرر المغرب العربي. ولمن لا يعرف الكاتب فهو مؤرخ جامعي وأستاذ محاضر بالمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية بتونس وقد صدرت له دراسات عديدة حول مسائل متعددة من التاريخ المعاصر لتونس وبصفة خاصة حول موضوع المقاومة المسلحة والحركة اليوسفية.

بعض فصول هذا الكتاب منشورة كما أشار إلى ذلك المؤلف في مجلات تاريخية وندوات علمية نظمت خارج تونس، ولعل نشرها اليوم يتيح لجمهور أوسع من المتتبعين مطالعة أبحاث شديدة الالتصاق بإشكالات تهمنا كتونسيين بشكل مباشر. خصص المؤلف الفصل الأول من كتابه لدراسة الظاهرة اليوسفية، وهو فصل لم ينشر سابقا. وقد جعل المؤرخ من هذا الفصل الذي استحوذ على ثلث الكتاب تقريبا، مدخلا لبقية فصول الكتاب التي جاءت متراوحة بين دراسة بعض المسارات الفردية لمناضلين في التيار اليوسفي وبين دراسات أخرى يمكن القول أن الرابط بينها هو الرغبة في دراسة ما أسماه عميرة علية الصغير بالتواصل النضالي بين شعوب المغرب العربي. في الفصل الأول، يبدو لنا حرص المؤرخ على إتباع منهجية صارمة مكنته في نظرنا من تقديم دراسة هي من أفضل فصول الكتاب. لم يسقط المؤرخ في التعاطف مع اليوسفية بل تناول هذه المسألة بحرفية عالية. فالقارئ وإن لاحظ أحيانا "تقريعا" للشق البورقيبي فإن ذلك لم ينتقل إلى تبرئة للجانب اليوسفي في الصراع الذي قسم البلاد نصفين وألقى بخيرة أبنائها في أتون الحرب الأهلية. يبدو المؤرخ مهتما بمسألة أخرى مختلفة تماما، حيث نراه يحاول إثبات أن اليوسفية كانت حركة معارضة وطنية، وأن عوامل عديدة دفعت الأمور في الاتجاه الدموي المعروف الذي أخذته بعد ذلك. هل حقق بورقيبة استفادة ما من هذه المعارضة في مفاوضاته مع الفرنسيين؟ لا يشك المؤلف في ذلك بتاتا بل يرى أن كثيرا من الفضل في حصول البلاد على استقلالها التام في ظرف وجيز كان بفضل التهديد الذي شكلته اليوسفية على المسار السابق حيث بدا بورقيبة في حاجة شديدة لمكاسب سياسية ملموسة تنقذ شعبيته في نظر مواطنيه، وهو ما اضطرت فرنسا إلى القبول به في نهاية الأمر. ماقيمة التأكيد على أن اليوسفية كانت حركة معارضة وطنية؟ الأمر في منتهى الأهمية من زاوية نظر تاريخية لأن ذلك يعني القطع مع ما حاولت الإيديولوجيا الرسمية باستمرار أن تنشره عن اليوسفية بوصفها "فتنة"، و"عصابات مجرمين"…إلخ. كما أن الأمر هام أيضا من منطلق وطني جامع يرى أن ما تحقق من مكاسب في نهاية العهد الاستعماري كان إنجازا مشتركا بين جميع أبناء الوطن، لا أحد يملك حق الاستئثار به لنفسه وإقصاء الآخرين منه.

ماذا فقدت المسيرة الوطنية وتجربة الدولة من القمع الذي طال هذا الفصيل الوطني حتى قضى عليه؟ الكثير. فقد قضي بذلك على أكبر فصيل معارض للحكومة وللخيارات البورقيبية و لم يبق على الساحة أية زعامات أو أحزاب يمكن أن تفرض صيغة ديمقراطية ما قائمة على وجود حزبين كبيرين يتنافسان على الحكم. ولكن هل يجوز لنا أن نتساءل عن الإمكانية الحقيقية لنشأة حياة ديمقراطية بوجود زعامتين كبورقيبة وبن يوسف؟ هل كان بن يوسف أكثر ديمقراطية من بورقية؟ هل كان يقدم ضمانات أفضل من تلك التي قدمها بورقيبة للتونسيين من أجل بناء الدولة العادلة والديمقراطية المنشودة؟ لا أحد بإمكانه الجزم بهذا الخصوص ولكن هناك شيئا أكيدا: لقد فقد التونسيون القدرة على الاختيار منذ ذلك الوقت وأصبحوا تحت التصرف المطلق لطريقة واحدة في الحكم تصورها وصاغها ونفذها بورقيبة، في تجاهل كامل للمؤسسات ودون أي اعتبار لما يسمى بالإرادة الشعبية.

أما الإشكالية الثانية الأساسية في الكتاب فتتناول مسألة الكفاح المغاربي من أجل التحرر ودور اليوسفيين فيه. لا أحد يمكن أن ينكر أن اليوسفيين كانوا أكثر إيمانا والتزاما برؤية تجعل من كفاح التونسيين من أجل التحرر جزءا من كفاح أكبر في إطار المغرب العربي، وأن وحدة ذلك الكفاح إحدى ضمانات نجاحه الأكيدة. قدم اليوسفيون شهداء كثيرين على هذا الدرب، وامتزجت دماء الكثيرين منهم بدماء إخوانهم الجزائريين، في إطار هياكل مستحدثة كجيش تحرير المغرب العربي الذي أنشئ في القاهرة بحرص مباشر من جمال عد الناصر وأوكل أمر الإشراف عليه إلى القائد الميداني الشهير الطاهر لسود. والمؤلف لا يقف عند هذا الحد في استقرائه لطبيعة العمل المغاربي المشترك من أجل التحرر، بل يعود إلى دراسة الذهنية التونسية على سبيل المثال من خلال بحثين حول تفاعل التونسيين مع أحداث المغرب الأقصى وبحث آخر حول جيش التحرير الوطني الجزائري بتونس، ليخلص إلى تأكيد فكرة بدت له شديدة الوضوح، وهي أن الحس المغاربي حس أصيل لدى أجيال الوطنيين التونسيين وأنه بالرغم من ذهاب البعض أحيانا إلى اتهام اليوسفية بأنها استوردت الهم المغاربي من مصر الناصرية، فإن اليوسفيين لم يستحدثوا هذا الحس وإنما تفاعلوا معه باعتباره نتاجا طبيعيا لمسيرة تاريخية طويلة. لم يغبط المؤرخ البورقيبية حقها بهذا الخصوص عندما أكد على ما قامت به مؤسسات الدولة الوليدة من مساندة حثيثة للمقاومين الجزائريين المستقرين بتونس، (وإن كان ذلك من باب مكره أخاك لا بطل)، غير أنه أكد على طبيعة الظرف وخصوصية الحسابات التي حتمت على حكومة الاستقلال القيام بذلك.

هل أدت هزيمة اليوسفيين إلى نهاية التيار المؤمن بالوحدة المغاربية في تونس؟ قد يكون ذلك أول ما يتبادر إلى الذهن غير أن ما يمكن التأكد منه أكثر هو أن البلاد فقدت إمكانية أخرى للتعامل مع هذه المسألة غير تلك التي أرسى أسسها الزعيم بورقية وطبقها بعد أن استحوذ على سلطة القرار السياسي بالبلاد. من هنا فإن انتصار بورقيبة في خاتمة الصراع كان فاتحة لتنفيذ سياسة قطرية بحتة جعلت من البناء المغاربي أمرا ثانويا وإن لم تخل الأدبيات الرسمية من تأكيد العكس. انتصرت القطرية إذا على الاتجاه الوحدوي الذي عبر عنه التيار اليوسفي، وقد لقي بورقيبة مساندة متحمسة من الفرنسيين من أجل إلحاق الهزيمة بخصمه، وهو ما تم في النهاية. من هنا نشأت فكرة أخرى كان وراءها اليوسفيون، وهي أن بورقيبة كان "عميلا للإمبريالية المتضايقة من المد القومي". يمكن تفهم ذلك في الإطار المخصوص للصراع، ولكن أن يتواصل الإيمان بذلك في بعض الأوساط إلى حد اليوم، فأمر يدعو للرثاء حقا. قد يرد آخرون: ولكن قطرية بورقيبة حمت البلاد من الوقوع فريسة الفشل المدوي لذلك المد القومي، وسمحت بالشروع في بناء دولة حديثة على أسس أكثر عقلانية مما وقع في بلدان أخرى "أقل تبعية للإمبريالية"، وأسست لنظام سياسي مستقر إلى حد ما.

تلك بعض من الأفكار التي توحي بها مطالعة كتاب الأستاذ عميرة علية الصغير الذي جاء تتويجا لجهد توثيقي كبير ومحاولة لتقديم قراءة لظاهرة سياسية لا تزال تحتفظ إلى اليوم بكثير من الإثارة. لم يسقط المؤلف في هذه الإثارة بالتأكيد بل حاول القيام بعمل المؤرخ القائم على احترام المسافة بينه وبين الموضوع، ونحسب أن نجح إلى حد كبير في تقديم مرجع أساسي لمن رام دراسة هذه الظاهرة.

dimanche 9 septembre 2007

ردود فعل على مقال "قرف العولمة"

Merci à Bassem et à crazyfrog d'avoir réagi à un article qui traduit plus une exaspération et une révolte qu'une réflexion sur la question. j'admets que je suis allé un peu loin dans cette expression d'éxaspération, et que j'ai failli jeter l'enfant avec l'eau du bain... vos réactions me donnent envie de revenir sur cette problématique, pour rectifier le tir... une chose est pourtant sûre, la réflexion sur ce genre de questions n'est jamais définitive...

La réaction de Bassem Khlaf

http://bassemkhlaf.space-blogs.com/

Si je savais quelque chose qui me fut utile et qui fut préjudice à ma famille, je la rejetterais de mon esprit. Si je savais quelque chose utile à ma famille et qui ne le fut pas à ma patrie, je chercherais à l’oublier. Si je savais quelque chose utile à ma patrie et que fut préjudiciable à l’Europe ou bien qui fut utile à l’Europe et préjudiciable au genre humain, je la regarderais comme un crime. MONTESQUIEU Cher Adnan, Je viens de lire ton exaspération et ta révolte contre la mondialisation. Et contre une certaine élite, qui se dit « très moderniste » qui a vendu son âme à un occident, qui n’est pas disposé à faire aucun effort, pour aider les opprimés contre des pouvoirs tyranniques.Le ton était fort et dur, ce n’est pas ton style. Et peut être c’est ce qui explique un certain simplisme dans ton exposé.Est il judicieux d’hiérarchiser, voir d’opposer les droits ?Qui décide que la cause des homosexuels est ou non une priorité ?Posons la question à un homo. Et voyons ce qu’il pense. A moins qu’on considère qu’i s’agit d’une infime minorité, et que les droits se traitent en fonction du nombre des opprimés. C’est généralement l’attitude de l’homme politique. Et le rôle de l’intellectuel est justement de lui rappeler, qu’il s’agit là d’un aveu d’échec.Je comprends ton exaspération vis-à-vis d’une pseudo élite, qui justifie tout acte, toute position et toute proposition du moment qu’elle provient de l’occident. Seulement, ce n’est pas pour autant qu’il faut jeter le bébé avec l’eau du bain.Les droits ne sont guerres opposables. Là une leçon que l’occident qu’on aime, qu’on prenne pour exemple, l’occident des lumières nous a donné.Je comprends aussi, cher Adnan, ta révolte contre une mondialisation sauvage, capitalistique, ou l’intérêt des maîtres du monde prime sur tout le reste. Par leurs égoïsmes et leurs ignorances, on assiste à la destruction pure et simple de ce monde. De la terre.Faire ce constat est une chose. Appeler à un retour en arrière en est une autre.Qu’on le veuille ou pas, La mondialisation s’est installée et pour un bon moment. C’est le sens de l’histoire. Refuser cette réalité, revient à se condamner à rester à la marge de l’histoire. Et être sujet de cette mondialisation et jamais acteur. Montesquieu, disait dans son chef d’œuvre DE L’ESPRIT DES LOIS : « considérés comme habitants d’une si grande planète, qu’il est nécessaire qu’il y ait différents peuples, ils ont des lois dans le rapport que ces peuples ont entre eux ;et c’est le DROIT DES GENS. Considérés comme vivants dans une société qui doit être maintenu, ils ont des lois dans le rapport qu’ont ceux qui gouvernent avec ceux qui sont gouvernés ; et c’est le DROIT POLITIQUE. Ils en ont encore dans le rapport que tous les citoyens ont entre eux ; et c’est le DROIT CIVIL. »
Depuis, l’homme a fait du chemin, comme il ne l’a jamais fait dans son histoire. Et cette « si grande planète » comme disait Montesquieu est devenu un petit village.Il est évident qu’on s’achemine vers un ordre mondial ou le DROIT DES GENS n’aura plus raison d’être. C’est dans cette optique qu’il faut raisonné. Montesquieu d’aujourd’hui, aurait dit : Si je savais quelque chose qui me fut utile et qui fut préjudice à ma famille, je la rejetterais de mon esprit. Si je savais quelque chose utile à ma famille et qui ne le fut pas au
MONDE je la regarderais comme un crime.



La réaction de crazyfrog


http://exipestien.blogspot.com/2007/09/propos-de-la-mondialisation.html

A propos de la mondialisation

Après la lecture de l'article de Mr Adnen Mansar à propos de la mondialisation, je me permet d'exprimer mon avis et ma perception vis à vis de cette mondialisation. Elle n'est pas à mes yeux une incarnation diabolique comme tend à exprimer Mr Mansar, mais une manifestation d'une certaine accélération de l'histoire humaine, basée sur l'information.


La mondialisation ne représente qu'une étape -celle en cours- de la globalisation: un énorme processus évolutif qui a commencé à l'aube de l'humanité et qui n'a cessé d'agir de manière transparente et inaperçue jusqu'à ce qu'il est devenu assez marquant, définissant ce que nous appelons "mondialisation". Ce processus est traduit par une tentation continue à franchir les barrières "naturelles" et ethnique, à connaitre les autres, à les dominer.. Je prend ici, à titre d'exemple loin d'être restrictif, les conquêtes d'Alexandre le Grand: ne s'inscrivent elles pas dans cette vision globalisante et dans cet énorme processus d'évolution des sociétés?


L'Homme n'a pas cessé ses mouvements à travers le monde. Différentes civilisations et différentes cultures se sont rencontrées. A chaque fois, c'était la conquête et la guerre les principaux moteurs de ces échanges. A chaque fois, il y avait des interaction culturelles qui ont marqué plus ou moins sérieusement les groupes concernées et participé à l'évolution des traditions et des moeurs. L'identité d'une société n'est alors que le résultats de siècles d'évolution et une combinaison d'apports d'origines assez complexes, et elle ne cessera d'évoluer. La notion d'identité, à caractère nationaliste, n'a eu droit à ses moments de gloire que grâce à une instrumentation politique visant à réunir les foules autour de l'idée d'une destinée commune, alors que les réalités historiques sont plus que réfutant cette justification.


Ce qui marque la mondialisation en tant qu'étape historique de la globalisation, c'est l'avènement des "nouvelles" technologies de l'information. Commençant par le téléphone et le télégraphe et finissant par Internet et ses différents paradigmes, ces moyens ont réduit de façon plus que significative le temps que prend une information pour arriver, notamment aux décideurs, chefs de guerre, dirigeants d'entreprises..
L'information est au coeur de cette mondialisation qui en tire son énergie inépuisable. Elle a toujours été le moteur de l'histoire humaine même. C'est la vitesse de passage de cette information qui détermine notre perception du temps, donc de l'histoire. Si on a l'impression aujourd'hui que le temps s'écoule plus rapidement qu'auparavant, c'est parce que notre conscience traite un nombre énorme d'informations par rapport à ce qu'il en était usage. Si on admet que les actions humaines sont des réactions par rapport aux informations qu'on reçoit, on pourrait imaginer l'accélération de l'histoire que cela pourrait engendrer. Pour illustrer, imaginons un échange entre deux leaders, loins l'un de l'autre de quelques milliers de kilomètres. L'un voulant imposer des conditions à l'autre afin d'avoir un pretexte de déclarer une guerre dès que l'autre commet une faute à son égard. Plaçons la situation dans deux époques: la notre et 5 siècles auparavant .. Le temps que prendrait l'échange de lettres -avant une déclaration de guerre - dans l'époque lointaine pourrait s'étendre sur des mois.. Alors qu'à notre époque, il suffit d'échanger quelques pauvres "sms" en quelques minuscules minutes pour pouvoir le faire.. Bien sûr, ce n'est qu'une illustration simpliste et ironisante. Regardez l'exemple de la "petite" crise boursière le mois d'août, si les informations concernant la chute des prix de l'immobilier aux Etats Unis ne s'étaient pas propagées avec une telle vitesse et une telle ampleur, serait on passé par cette crise? certes non! Nous sommes ici face à une compression du temps, ou plutôt une intensification des actions humaines dans le temps.

La mondialisation n'a fait qu'accélerer l'histoire, ce qui se passait durant des siècles se passe aujourd'hui dans quelques heures. Dans un monde ou tout se virtualise de plus en plus..

vendredi 7 septembre 2007

قرف العولمة


قرف العولمة


عدنان المنصر

مقال صادر بصحيفة الموقف التونسية بتاريخ 7 سبتمبر 2007، العدد 417

من الممتع حقا اكتشاف الأبعاد التي تأخذها العولمة كل يوم. لم تعد المسألة مقتصرة على الاقتصاد ولا على التبادل التجاري ولا على التصدي للاحتباس الحراري، فقد بدأ مفهومها في التوسع بطريقة مربكة وسريعة ليشمل تقريبا كل ميادين حياتنا اليوم. وفي موازاة ذلك أصبح من الصعب الاتفاق على تعريف واحد وجامع لها، حيث تكاد التعريفات الموضوعة تتعرض لنتائجها وانعكاساتها أكثر من انطباقها على هذه الظاهرة كمسار متحرك. يبدو ذلك نتيجة منطقية لزئبقية الظاهرة التي غدت ترمز اليوم إلى ضياعنا التاريخي. أين ذهبت الدول، وإلى أين رحلت القوميات، وماذا حل بالأمم والأوطان؟ إلى أية حدود ستصل درجة التحلل في الهياكل التي نظمت حياة البشر منذ عشرات القرون؟ ليس بالإمكان توقع درجة السوء التي ستوصلنا إليها العولمة وعمق البئر التي تردينا فيها.

لم تعد الثقافات والخصوصيات الحضارية للأمم وكذلك الإيديولوجيات الضحايا الوحيدة لغول العولمة، بل إن الدول، التي استغرق إنشاؤها وعملية بنائها قرونا عديدة من حياة البشرية، قد أضيفت هي الأخرى لقائمة الضحايا. هل يشعر أي منا بجدية بحماية الدولة له من الأخطار العابرة للحدود أو بقدرتها على وقاية مجتمعها من جشع الشبكات التي غدت تسيطر على أبسط مظاهر حياتنا اليوم وأكثرها روتينا. وأكثر من ذلك، هل لازالت الدول دولا، بمعنى هل مازال بإمكانها التباهي بمقولات مثل السيادة والاستقلال.لم تعد تلك أولويات بالنسبة لها، بل إنها فقدت حتى القدرة على تحديد ما يسمى بالأولويات أصلا، وعوضا عن ذلك أصبح مطلوبا منها بإلحاح كل يوم أن تتخلى عن المزيد، وأن تزيد في الارتباط بالشبكات العابرة للحدود، بل أن تلغي منطق الحدود نفسه.

أين الحدود اليوم في الاقتصاد، حيث نفقد مواطن الشغل كل يوم بسبب عجزنا المتراكم عن تحمل المنافسة القاسية التي تسلطها علينا بضائع الدول الأخرى. كان بالإمكان في السابق توجيه الاقتصاد إلى توفير البضائع للسوق الداخلية وكاد ذلك ينجح أحيانا في بناء نموذج للتنمية. لم يعد بإمكان الدول أن تتبجح بالتحكم في السوق الداخلية لأنه لم تعد هناك سوق داخلية، أصبحت هناك سوق واحدة، معولمة، لا أحد يملك التأثير المنفرد فيها صعودا أو هبوطا. أين الحدود في حروب اليوم ؟ مازالت هناك حتما بعض النزاعات الباقية من الزمن الماضي حيث يتنازع مساكين من هنا وهناك السيطرة على بعض الصحاري والأودية، ولكن حروب اليوم من نوع جديد: حروب لا ترى فيها خصمك وتدار من وراء شاشات كبيرة في قواعد بعيدة، حروب لا بطولة فيها ولا رجولة، حيث لا ترى الضحية سفاحها، ولا تسمع فيها أنات ولا صرخات. وأكثر من ذلك، أين الحرب في حروب اليوم، حيث العدو مجهول، وحيث لا خطوط ولا جبهات. حروب لا مكان فيها لأية أخلاقيات، ولا احترام فيها لأعراض أو حرمات.

هل غدا التفريق بين الخير والشر، تلك القيمة التي تربينا عليها ونربي عليها أبناءنا، أمرا مستحيلا ولا تاريخيا؟ من بإمكانه اليوم القول أن إسرائيل مصدر الشر في العالم دون أن يخشى قيام بعض "الموغلين في الموضوعية" من بني جلدته، المقهورين مثله، باتهامه بالتسويق للظلامية والإرهاب ؟ ومن باستطاعته اليوم أن يثبت أن شمعون بيريز من أكبر المجرمين في تاريخ البشرية وأن لا علاقة له مطلقا بأي نوع من أنواع الطيور غير الجارحة، دون أن ينبري له أحد "التقدميين جدا" ليقول له أن منطق السلام اليوم يفرض علينا أن نسامح وننسى ونضحي من أجل هدف نبيل وأسمى من "الصراعات المتخلفة" و"الشوفينية العمياء": بناء بحيرة سلام تتعايش فيها، دون أية مشاكل، الدلافين وأسماك القرش.

إلى أي مدى يمكن أن يصل بنا الإحباط، وإلى أي حد ستواصل القيم وما تربينا عليه من بديهيات انقلابها وتحللها؟ هل بإمكان عاقل أن يتوقع من اجتماع فرع منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان أن يتناول، من كل المصائب والتعديات المسلطة على هذه الحقوق في كل أصقاع الأرض، مشكلة زواج المثليين والتصويت بشبه إجماع على أن ذلك من حقوق الإنسان (ينبغي أن نتوقع تنظيم الفرع لمظاهرات جماهيرية لفرض احترام هذا الحق باعتباره أولوية نضالية، وسيقع لوم الجميع واتهامهم بالرجعية حتما إن لم يشاركوا فيها بحماسهم المعهود). وهل بمقدور أحد منا بعد حرب الصيف الماضي في لبنان أن يتوقع قيام منظمة أخرى لحقوق الإنسان بترتيب عقد مؤتمر في بيروت بالذات، لتناول "جرائم" قصف المقاومة اللبنانية للمدن الإسرائيلية، أو أن يتصور أن إسرائيل تسلم أسرى عربا لدولهم حتى يقضوا باقي عقوبتهم فيها وتلك الدول تقبل بذلك وتنفذه بحذافيره والأرض لا تكاد تسعها فرحا وحبورا.

أي واقع يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من القرف والعدمية؟ على ماذا سنربي أبناءنا اليوم، على قيم اليوم المتحللة أم على قيم الأمس التي يبدو أن تاريخ صلاحيتها قد انقضى؟ هل نربيهم على الافتخار بالانتماء لأوطانهم وهم يرون كل يوم أن الوطنية قد أضحت تهمة أو مدعاة للسخرية؟ وهل ننشئهم على الثقة في الدول التي من المفروض أنها ترعاهم وتحميهم وهم يرونها رأي العين تتآمر عليهم وتصادر حاضرهم ومستقبلهم؟ هل نواصل إقناعهم بالمجهود والعمل كقيمة وهم يكتشفون في كل يوم تغلب الغش وسيادة التحيل وانتصار الفساد؟

ولكن العولمة قد تخفي بعض الإيجابيات، وأولها أنه لم يعد من جدوى لتعويل المقهورين على أحد لتخليصهم مما هم فيه من استبداد وأن مسؤولية ذلك تقع على عاتقهم وحدهم. لقد أضحوا في العراء تماما، لا يملكون سوى ما توحي به إليهم غريزة البقاء التي لم يقض عليها بعد. كل شيء في العولمة يدفع لمقاومتها وأول تلك الأشياء أنها أعطت للديكتاتوريات فرصة جديدة للحياة وأجلت انتقالها إلى الرفيق الأعلى. قوة عظيمة تلك التي يمكن أن تنشأ من وعي الشعوب ببؤس العولمة وبأن زوالها يتوقف على مدى الاستعداد لاستئناف مسيرة التضحيات من أجل تحقيق إنسانية الإنسان. قد تكون العولمة نتاج بناء تم من الأعلى، على شاكلة غطاء الإسمنت، ولكن تفتيتها يبدأ حتما من الأسفل. لذلك ينبغي أن نواصل حماية ما تربينا عليه من قيم وأن ننقل تلك القيم إلى أبنائنا. فما قيمة حياة البشرية إذا ما انعدمت القيم وضاعت بوصلة التمييز بين الخير والشر؟ سنواصل جميعنا تسمية الشر شرا، والعدوان عدوانا، والاستبداد استبدادا، والفساد فسادا، وسنمضي في تربية أبنائنا على ذلك. العولمة انعدام للقيم، وتطبيع مع القبح، وتمجيد للفساد. لنسألهم بتحد: من بإمكانه من أنصار هذه الموجة أن يتبنى "القيم الجديدة" ويدعي في الوقت نفسه أنه لا زال محتفظا بإنسانيته؟ لن يجيبوا.

lundi 25 juin 2007

أعمدة الاستبداد السبعة








الاحتضار المؤلم للديكتاتورية في رومانيا



أعمدة الاستبداد السبعة


عدنان المنصر


: صدر هذا المقال في صحيفة الموقف التونسية بتاريخ 22 جوان 2007 (العدد 411) ولكنه تعرض خلال ذلك لعمليات حذف وقص أثرت على مضمونه. لذلك فإن هذه النسخة هي النسخة الكاملة للمقال وهي التي صدرت بجريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ 7 أوت 2007
الرابط:
http://www.alquds.co.uk/index.asp?code=qp18


من المثير ملاحظة التطور الهائل الذي مرت به بعض الأنظمة السياسية التي كانت إلى حد قريب نموذجا متفقا عليه في الاستبداد والطغيان. ورومانيا تشكل بلا أدنى شك مثالا لهذا التطور, فقد انتقلت في فترة وجيزة من دولة تمارس السلطة فيها طغمة تدعي تطبيق الحلم البروليتاري في مجتمع عادل بلا طبقات، إلى دولة ذات مؤسسات منتخبة وذات دستور يسمح بأوسع مشاركة سياسية ممكنة ويضمن كل الحريات الديمقراطية التي تصورتها الليرالية السياسية. فقد رزح الشعب الروماني تحت أبشع أنواع الدكتاتورية طيلة حكم الرئيس الأسبق شاوسسكو لمدة فاقت الخمسة عشر عاما (1974-1989)، ولكن أحدا لم يكن يتوقع سقوطه بتلك الطريقة. ففي ظرف ثمانية أيام، من تاريخ بداية المظاهرات المناهضة له في 17 ديسمبر 1989، إلى تاريخ محاكمته السريعة وإعدامه في 25 ديسمبر 1989، انتهى أمر زعيم احتكر مع زوجته إيلينا كل الوظائف وسام شعبه كل أنواع القهر والمهانة. هل كان نظام شاوسسكو يتوقع أن ينهار بتلك السرعة وهو الذي أعاد المؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي انتخابه بالإجماع أمينا عاما له ورئيسا للبلاد قبل بضعة أسابيع فقط ؟
لم يكن الأمر ليتم بهذه السهولة لولا التفهم الذي أبداه بعض أركان النظام الذين فهموا عمق التحولات العالمية في تلك الفترة فسارعوا إلى نفض أيديهم من معلمهم العظيم وقائد البلاد المفدى حتى يتسنى لهم تنظيم العودة إلى السلطة من الباب الخلفي. وهذا السلوك، بالرغم من انتهازيته، يعبر عن نوع من التقليد المتبع داخل الأنظمة القهرية عندما تقع التضحية بوجه النظام ليتسنى استمرار النظام نفسه. صحيح أن الشيوعية لم تعد منذ ذلك الحين تحكم رومانيا، وأن اقتصاد السوق قد غزا بذلك آخر قلاع الاشتراكية، غير أن أولئك الذين سيروا النظام السابق كانوا هم أنفسهم من قيض لهم وضع أسس التوجه المستحدث والإشراف على صياغة دستور جديد يسمح للرومانيين بممارسة ما حرموا منه طيلة عقود من الديكتاتورية المتلثمة بالشيوعية. يبدو هذا السلوك طبيعيا إلى حد ما، فلا يعتقد أحد أن بإمكان المصالح التي استغرق بناؤها وتعهدها حوالي نصف قرن من الزمان أن تذوب بين عشية وضحاها. غير أن ما يلفت الانتباه أكثر في المثال الروماني، وما أكثر الأنظمة التي لا تزال تحذو حذوه في عالم اليوم، أن الديكتاتورية سواء كانت شيوعية أو قومية أو حتى ليبرالية، إنما تقوم على مجموعة من الأسس التي لا يتسنى استمرارها بغير تعهدها وصيانتها، وأهم هذه الأسس على الإطلاق هو الفساد.
ذلك أن أبشع الديكتاتوريات تعلم أنه لا يمكن لها أن تحكم إلى ما لا نهاية باستعمال القوة فحسب. فالقمع لديها ليس غاية في حد ذاته، وهي لا تلجأ إليه غالبا إلا مكرهة وفي أوقات معينة، أما سياسة كل يوم فتقوم على أسس أخرى أقل إكراها تجعل الديكتاتورية أمرا مقبولا به إلى حد ما، مرفوضا ولكن متعايشا معه. إن التخويف بالقمع أهم وأجدى من القمع، لذلك يقع بناء جهاز تسند إليه إشاعة الرعب بين الناس ونشر ثقافة الوشاية بين أفراد المجتمع وأحيانا ين أفراد العائلة نفسها، وهو أمر برعت فيه إلى حد كبير أجهزة مخابرات تشاوسسكو وشرطته السرية وخلايا الحزب الشيوعي. وبما أنه لا يمكن تطبيق نفس القمع على الجميع فإنه يقع انتقاء المعارضين الذين يسلط عليهم أقصى اضطهاد ممكن، حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر، وليس ضروريا أن يكون ضحايا القمع من أبرز المعارضين بل ينتقون من كل الفئات إذا أمكن، حتى يصل الدرس إلى الجميع. من هنا تتركز شيئا فشيئا القناعة التي مضمونها أن بإمكان أي واقع مهما كانت درجة سوئه، أن يزيد سوءا.
بالموازاة مع هذا المسار، يسعى النظام الديكتاتوري إلى خلق فئة، قد تتوسع لتصبح طبقة في بعض الحالات، من المقربين والمحظيين الذين تناط بهم مهمة التحصيل على درجة معينة من الشرعية للطغمة الحاكمة، وفي مقابل ذلك يسمح لهم الاستفادة من خدمات الدولة وحمايتها، فيشرعون في بناء إمبراطورية المصالح والربح السهل. وفي درجة معينة من تطور هذا المسار، يحصل نوع من الصدام متعدد الزوايا بين النظام السياسي ونظام المصالح ذاك. فإبان الأزمات، وما أكثرها في نمط الحكم الاستبدادي، يشعر جانب من النظام بوجوب التنازل أحيانا وفتح بعض المجال أمام تغيير مدروس يخفف من درجة الاحتقان العامة ويسمح إلى حد ما بتجديد الشرعية المتحللة، غير أن نظام المصالح هو الذي يقف عادة ضد هذا المنحى ويتولى إفشاله غالبا، لأن أي تحرير للنسق السياسي يعني تسليط ضغوط قد تبدأ صغيرة ولكنها سرعان ما تتعاظم، ضده. لا يهدف هؤلاء إلى احتكار أكبر جانب من قوت الشعب فحسب، فهذا لا يرضيهم، وإنما يكون هدفهم التهام كل ما هو متاح وغير متاح، دون اعتبار للمصلحة الإستراتيجية للنظام الذي يفترض أنهم يوجدون معه في مركب واحد. ذلك أن نظام المصالح الاقتصادية يصبح هو نفسه في حالة بناء نسقه السياسي المصغر، فيزيد في التوسع أفقيا ويربط نفسه بمصالح فئات أخرى يلقى إليها بالفتات. وهكذا تتركز إلى جانب الفساد الكبير، الذي تمارسه الفئة العليا من الفاسدين المرتبطين مباشرة بنظام الاستبداد، ممارسة الفساد الصغير الذي يدخل البيوت والإدارات وينتصب على الطرقات. وفي حين يجني المستفيدون من الأول أكبر الأرباح عن طريق الصفقات العظيمة التي يسمح لهم بالفوز بها بتغطية من الإدارة، فإن الثاني يصبح في تطوره السرطاني أخطر وأعم حيث يؤدي في نهاية الأمر إلى تثبيت ليس نظام المصالح الفاسد وإنما نظام الاستبداد أيضا. ويتم ذلك بصورة تدريجية وطبيعية عندما يشعر كل فرد أن القوانين المطبقة وعين السلطة المفتوحة لا تسمح له بحياة طبيعية فيقرر الانخراط هو أيضا في نظام المصالح من موقعه الصغير، وعادة ما يكون المقابل هو تقديم تلك الخدمات الصغيرة التي لا غنى لأي نظام استبدادي عنها وأولها الوشاية.

تغير نمط الحكم في رومانيا بفضل ما أطلق عليه حينها ثورة المخمل ، غير أن الطبقة السياسية لم تتغير إلا قليلا، وبقي نظام المصالح والفساد أيضا في مكانه، وأكثر ما اضطر إليه الجميع هو عملية توزيع أدوار جديدة والتعود على التخلي عن بعض الممارسات القديمة. ذلك أن رموز النظام الشيوعي القديم (وفي مقدمتهم إليسكو الذي سينصب رئيسا جديدا للبلاد) الذين ضحوا بزعيمهم في تلك الثورة ، قد ضمنوا بذلك الحضور الأقوى على الساحة الرومانية الجديدة، وأصبح مسؤولوا الحزب الشيوعي والإداريون القدامى ممثلين بطريقة أكثر من مرضية في النظام الجديد، كما ضمن أصحاب المصالح سيطرتهم على الاقتصاد الروماني المتحرر. ومما يدل على "حكمة" الطغمة التشاوسسكية أن جميع القوانين الهامة التي أحدثت بعد 1989 قد ضمنت استمرار نفس الفئات في السلطة، وخاصة منها النظام الانتخابي الذي يسمح للأحزاب الكبيرة دون غيرها بالولوج إلى البرلمان. وهذا الأمر ليس خاصا برومانيا لوحدها، ذلك أن كل البلدان الأوروبية الشيوعية سابقا تعيش حالة مماثلة، من روسيا إلى بولونيا إلى المجر...إلخ. والفارق الأساسي الوحيد أنه قد استعيض عن الشيوعية التي كانت في السابق غطاء لممارسة الديكتاتورية والفساد بأشكال جديدة من التغطية أكثر نجاعة وقبولا في الظروف العالمية الجديدة.
إن الديمقراطية لا تقضي على الفساد، ولكنها تمكن من أدوات أكثر فعالية لمقاومته. وما حدث مؤخرا في رومانيا يقدم أكبر مثال على ذلك. فقد قامت الحكومة بتنظيم استفتاء شعبي حول استمرار الرئيس الحالي باسيسكو في مهامه الرئاسية بعد أن جمد البرلمان مهامه بمقتضى قانون صادر في 19 أفريل 2007. وأسفر الاستفتاء الذي نظم في 19 ماي عن رفض شعبي(حوالي 75 بالمائة) لإقالة الرئيس المنتخب ديمقراطيا منذ 2004 مما اعتبر هزيمة للأحزاب الكبرى وخاصة للحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يتشكل في معظمه من الشيوعيين السابقين. وقد عاب هؤلاء على باسيسكو بضعة أمور حاولوا تغليفها بطريقة فيها الكثير من "الديماغوجيا الديمقراطية" حيث وجهت إليه تهم من قبيل التدخل في شؤون المحكمة الدستورية، التدخل لصالح بعض الشركات، رفضه تعيين الوزراء الذين تم اقتراحهم من قبل رئيس الحكومة، مشاركته في الاجتماعات الوزارية، التدخل في شؤون البرلمان و التسبب في حالة من عدم الاستقرار السياسي في رومانيا. غير أن ما أغفله البرلمانيون المناهضون لباسيسكو كان الحديث عن حملته لمقاومة الفساد في الحصول على الصفقات الكبرى وسعيه لتوجيه القضاة نحو مزيد من الصرامة إزاء قضايا الفساد ومعارضته الصريحة للسياسات اللاشعبية للحكومة وإعداده لإصلاح دستوري سيقضي إن تم على عهد احتكار الأحزاب الكبرى للساحة البرلمانية، وهذه في ظننا مبررات كافية لسعي البرلمان للإطاحة به.
وبسبب مكافحته للفساد يحظى باسيسكو بتعاطف شعبي عارم من قبل الرومانيين الذين ينظرون إليه بوصفه رمزا لمكافحة الفساد وسوء التصرف. وقد لاحظ الرومانيون كيف عمد رئيس الحكومة تاريسيناو بمساندة من الأغلبية البرلمانية المتوجسة من برامج باسيسكو بإقالة وزيري العدل والداخلية الذين انخرطا بفعالية في مسار مقاومة الفساد، وهو موضوع ذو أولوية بالنسبة للإتحاد الأوروبي الذي انضمت إليه رومانيا مؤخرا، حيث صنفت منظمة الشفافية العالمية هذا البلد كأكثر البلدان الأوروبية فسادا . ولا يملك رئيس الدولة في رومانيا صلاحيات كبرى بالرغم من أنه منتخب مباشرة من الشعب، في حين يسيطر رئيس الحكومة المعين من قبل الأغلبية البرلمانية على معظم الصلاحيات ولا يكون مسئولا إلا أمام البرلمان. وهو نظام هجين بين النمط الرئاسي والنمط البرلماني أريد منه تحقيق تعادل في الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية.

لا يشك أحد في طرافة هذه الوضعية: رئيس بلا نفوذ حقيقي ينطلق في حملة لمكافحة الفساد بدون صلاحيات واسعة، وحكومة متآمرة مع البرلمان على منع الإصلاحات وعلى بقاء نظام المصالح والفساد، في تجاهل كامل لتطلعات الشعب. وتكمن هذه الطرافة في أننا تعودنا على النظر إلى البرلمان، مبدئيا، بوصفه الممثل للسيادة الشعبية والعامل على تحقيق إنتظارات الناخبين والمتحفز لتصويب ممارسات السلطة التنفيذية والحريص على سيادة الدستور. ولكن الواقع على الأرض يبدو شديد التناقض مع هذا التخطيط النظري. فقد بنت الطبقة السياسية الحاكمة في رومانيا لنفسها من الحصون ما يستعصي إلى حد الآن عن السقوط، وصمودها في وجه محاولات التغيير الذي صادف أن رئيس البلاد يتبناها ما هو إلا رد فعل طبيعي من قبل فئة اعتبرت دائما أن مسؤوليتها السياسية ليست سوى غطاء تحقق من ورائه مصالحها في الإثراء. من هنا فهي تقاوم بكل ما أوتيت من جهد كل محاولات النيل منها ومن مصالحها، بانية في خضم ذلك كل التحالفات الممكنة (التحالف البرلماني المناهض لباسيسكو يضم أحزاب اليمين وأحزاب اليسار وأحزاب الوسط على حد سواء !) ومعارضة أي تغيير في الدستور يقضي على احتكارها للحياة السياسية.
وتبين نتيجة الاستفتاء من جهة أخرى قدرة الشعب الروماني على اتباع أكثر السبل براغماتية من أجل تحقيق طموحاته. فقد نفض هذا الشعب يديه من البرلمان الذي تشكل بفضل دستور ونظام انتخابي على مقاس الأحزاب الكبرى، وقرر مساندة رئيسه في حربه على الطبقة السياسية الفاسدة، لذلك يتوقع مراقبون أن الرئيس باسيسكو الذي تنتهي فترة ولايته الحالية في 2009 سيفوز فوزا ساحقا في أية انتخابات مقبلة، كما يتوقع أن تنال مساعيه في تحوير الدستور إذا ما وصلت إلى الاستفتاء مساندة شبه مطلقة من الرومانيين الذين سئموا الفساد والفاسدين. ذلك أن الفساد، مثل الاستبداد تماما، يصل في مرحلة معينة من تطوره السرطاني إلى تهديد أبسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة، فيصبح ابتداع سبل التحرر منه، باستخدام الانتفاضة (مثلما حدث في ديسمبر 1989) أو بالتعبير الديمقراطي الهادئ
(مثلما حصل في استفتاء 19 ماي 2007) أوكد من الاحترام الأبله لمؤسسات تخلت عن دورها
.

vendredi 25 mai 2007

الصراع في تركيا: عندما يحول العسكر اللائكية إلى دين جديد




الصراع في تركيا
عندما يحول العسكر اللائكية إلى دين جديد
عدنان المنصر
مقال صادر بالعدد 407 من جريدة الموقف التونسية بتاريخ 25 ماي و2007
وبصحيفة القدس العربي بتاريخ 16 جويلية 2007 ص 18


تعيش تركيا حاليا إرهاصات أزمة ليست في الحقيقة وليدة اليوم، بل إن جذورها تمتد عميقا في تاريخها منذ ما يناهز القرن. وبحسب الموقع الإيديولوجي فعادة ما يقع إرجاع سبب هذه الأزمة إما إلى انغماس الأتراك منذ عهد مصطفى كمال في تجربة وضعت حدا، أو كان يفترض أن تضع حدا، لانتماء تركيا الحضاري، أو على العكس من ذلك للعوائق التي ما انفك جانب من الأتراك يضعها أمام تطور تركيا العصرية وما تعنيه، أو ما قد تعنيه، من قيم الحداثة والديمقراطية والتنمية.

ولعل جانبا من اهتمامنا نحن، غير الأتراك، بهذا الموضوع يعود إلى أن ما يجري في تركيا من صراع مكتوم بين أبناء الكمالية ومعارضيها، يمثل نموذجا لما يفترض أن يؤول إليه الصراع بين تيارين اتضحت معالمهما في عالمنا العربي، تيار يدعي الانتساب إلى الحداثة رافعا لواء التقدمية، وآخر يدعي أنه المعبر عن نبض الشارع في رفضه لما يقول أنه إقصاء الدين من الحياة العامة الذي من شأنه، إن تم، أن يعمق انبتات المجتمع عن قيمه الثقافية وانتمائه الحضاري.
ليس من السهل توصيف الوضع كما يبدو بدون استعمال مصطلحات مثل "علماني" أو "لائكي". ولكن بالرغم من الطابع الإشكالي لهذه المصطلحات إلا أنها الأكثر استعمالا اليوم لتوصيف القوى المتقابلة في معركة لا تريد أن تنتهي. ويعود الطابع الإشكالي لهذه المصطلحات في أنها عادة ما تستعمل في غير السياق الذي نشأت فيه، كما أن لفظ لائكية الذي يقدم عادة كمرادف للفظ علمانية يختزل سياقا تاريخيا مختلفا عن ذلك الذي ظهرت فيه العلمانية. فإذا كانت اللائكية قد ظهرت بفرنسا كرد فعل على قرون السيطرة الكنسية ورغبة في التحرر من ربقة رجال الدين الذين كانوا يسيطرون على الفضاء العمومي بمساندة من الملكية ، فإن العلمانية قد ظهرت بأنقلترا كطريقة مختلفة للنظر إلى العالم خارج التصنيفات والتقسيمات التي كان يفرضها الفكر الديني المسيحي. من هنا تبدو العلمانية في نشأتها أوسع مجالا من اللائكية، ففي حين نظر مبدعوها إلى المجتمع ككل، بما هو منظومة قيم ومعارف، محاولين تأسيس أو إعادة اكتشاف وجود اجتماعي مختلف عن ذلك الذي ترعاه المسيحية، فإن اللائكية كانت تضع نصب عينيها جزءا بعينه من هذا الوجود الاجتماعي، وهو المتعلق بحقل السلطة الزمنية، ساعية إلى تحرير السياسة والحكم من نفوذ طبقة ذات وجود ملموس ومصالح بينة.
وقد كان لهذا الفارق في النشأة بين المصطلحين تأثير مباشر على تطور الممارسة السياسية للنظامين الناتجين عن كلا المفهومين. ففي حين أسست العلمانية لممارسة بعيدة كل البعد عن العداء للدين وللممارسة الدينية، فإن اللائكية عادة ما استخدمت غطاء لتأسيس نظام غير متسامح مع الظاهرة الدينية. بل إن العلمانية مثلت حلا لمشكلة التعايش، داخل نظام سياسي واحد، بين الطوائف والمذاهب المختلفة وربما المتناقضة، مثلما هو الشأن في الولايات المتحدة منذ الاستقلال، حيث يسمح بالتدين، ويمكن للرئيس والوزراء أن يؤدوا صلاتهم في الكنائس وهو أمر لا يثير أي إشكال طالما أن الدولة تعامل جميع المذاهب بنفس الطريقة. من هنا فإن العلمانية تبدو ضمانة للمجتمعات متعددة الثقافات، وهو ما يفسر التسامح الأنقليزي مع الاختلافات الثقافية للجاليات المقيمة في بريطانيا، بحيث يسمح لها بالتعبير عن انتمائها الثقافي سواء باللباس أو الاحتفال أو التدين الظاهر. هذا الهامش من التسامح لا نجده في اللائكية التي ظلت تحتفظ بنظرة عدائية للدين حتمت عليها البقاء مستنفرة لقمع أية مظاهر ثقافية خصوصية ذات طابع ديني، مثلما أوضحت ذلك قضية الحجاب في فرنسا أخيرا.
غير أننا قد لا نكون موضوعيين إزاء اللائكية إذا ما تعمدنا تفسير المصطلح بالممارسة الحالية التي يمكن أن تكون قد انزاحت بمرور الوقت عن الممارسة اللائكية الأصلية. فإذا عدنا إلى الظرفية التي أصبحت فيها اللائكية سياسة رسمية للدولة الفرنسية لوجدنا أن نواب الأمة الفرنسية رغم تصويتهم في 1905 على القانون الخاص بفصل الكنيسة عن الدولة إلا أنهم رفضوا بوضوح أن يؤول ذلك كعداء للدين أو للكنيسة بما أنهما دين وكنيسة. كانت العملية مجرد توزيع للمهام في حقل السلطة بحيث بدت كطلاق بالتراضي بالرغم من الضغوط التي واجهها مشروع القانون آنذاك من قبل "اللائكيين المتشددين" الذين أرادوا أن تبقى للدولة اليد الطولى في الشؤون الدينية من ناحية تعيين الكهنة والتصرف في الأملاك الكنسية وذلك في إطار الصراع بين الدولة الفرنسية والفاتيكان. وكانت تلك الضغوط تهدد بسقوط مشروع الفصل برمته باعتبار أن أنصار الكنيسة داخل المؤسسة التشريعية الفرنسية لم يكونوا بالضعف الذي قد يتصوره البعض. وهكذا جاء نص القانون في نهاية الأمر نتاج توافق على حل وسط بين اللائكيين وأنصار الكنيسة من حيث أنه أكد في فصله الأول على أن الجمهورية تضمن حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وفي فصله الثاني على أن الدولة لا تتحمل أية نفقات ولا تدفع أية رواتب للقائمين على المؤسسات الدينية. من هنا فقد كان طلاقا بالتراضي استعاد طرفاه حريتهما الكاملة دون تدخل في شؤون الآخر، وكان أنصار الكنيسة قد حققوا بذلك ما اعتقدوا أنه، في تلك الظروف، أكثر أهمية من التدخل في الشأن السياسي: حرية ممارستهم الدينية دون تدخل من أي نوع كان من قبل الدولة.

وبالعودة إلى تركيا، ففي أية الخانتين نصنف نظامها السياسي؟ لا تبدو تسمية الدولة العلمانية معبرة عن واقع الأتراك اليوم باعتبار أن الاختلافات الدينية والثقافية لا تحظى باحترام خاص من قبل الدولة حيث غالبا ما يصنف أصحابها كانفصاليين تجيش الدولة كل قواها لمحاربتهم باعتبار أنهم يهددون وحدة "الأمة التركية". كما أن تسمية الدولة اللائكية لا تبدو دقيقة هي الأخرى باعتبار أن الدولة لا تزال تضطلع بجملة من المهام الدينية لعل من ضمنها تخصيص حصص دينية للتلاميذ في المدارس الحكومية بالإضافة إلى تعيين الأئمة والمفاتي واعتبارها أماكن العبادة ملكا للدولة. من هنا فإن لائكية الأتراك تبدو في اتجاه واحد: لا حق للدين في التدخل في شؤون الدولة ولكن يحق للدولة أن تتدخل في شؤون الدين وأن تستغله وتستغل مؤسساته وتأثيره لاعتبارات سياسية.
إن تطور الوضع في تركيا طيلة النصف الثاني من هذا القرن قد بين اتجاها جديدا للنظام السياسي في هذا البلد. فبالرغم من أن اللائكية، في نسختها الفرنسية الأصلية أو في نسختها التركية المعدلة قد احتفظت بعلاقة انفصال عن الدين أو استبعاد واستغلال له، إلا أنها في مسيرتها الهجينة قد تحولت بدورها إلى دين جديد ضبطت طقوسه وممارساته وسبل حمايته في نصوص الدستور وعهد لأجهزة الدولة العسكرية والسياسية والخفية بحماية وجوده. فقد استثنى دستور 1982 ثلاث مواد من أية إمكانية للتحوير أو التغيير أو الحذف بل وحرم حتى تقديم مقترحات بالمساس بها، وهي المواد التي تنص على لائكية الدولة التركية. من هنا فقد وضعت المؤسسة العسكرية المؤتمنة على التوجهات الكمالية والتي أوحت بذلك الدستور خطا يحرم تجاوزه حتى على نواب الأمة في مجتمع يفترض أنه ديمقراطي بقدر ما هو لائكي. من هنا فإن الدستور التركي لا يبدو في الجوهر أقل تشددا من الدستور الإيراني من حيث التأكيد على الشكل النهائي للدولة. وتؤكد الممارسة هذه الفكرة بشكل لا يقبل القدح، فبين 1960 و 1997 نفذ الجيش التركي أربعة انقلابات على الحكومة (1960،1971،1980،1997) بدعوى حماية الإرث الكمالي مما اعتقد أنه تهديد محدق باللائكية، وفي جميع هذه الانقلابات كان المستهدف هي حكومات منتخبة ديمقراطيا. بل إن الجيش قام غداة انقلاب 1960 بمحاكمة رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة في محاكمة انتهت فصولها بإعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس (الذي كان حزبه قد فاز فوزا ساحقا في انتخابات 1954 و 1957) ووزيري الخارجية والمالية، في حين حكم على رئيس الجمهورية بالسجن مدى الحياة، وقد كانوا جميعا أبناء شرعيين للكمالية. غداة ذلك الانقلاب صدر دستور جديد أحكم من خلاله العسكر قبضتهم على الدولة وهو دستور 1961 الذي نص في فصوله على بعث مجلس للأمن القومي يسيطر العسكر على أغلبية مقاعده و يمتلك حق نقض كل القرارات المتخذة.
تبدو تركيا من هذا المنطلق مجرد ديكتاتورية عسكرية بملابس مدنية حيث يحتكر الجيش صياغة السياسة العامة للدولة بمعزل عن المؤسسات الديمقراطية المفترض أنها تعبر عن السيادة الشعبية. غير أن سيطرة العسكر المطلقة على الوضع بدأت فيما يبدو بالتراخي تحت تأثير عوامل عديدة. ولعل السعي للاستجابة للمقاييس الأوروبية كشرط للنظر في ملف انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي هو أحد هذه العوامل التي يحاول أنصار أوردوغان الاستفادة منها اليوم. من هنا فقد قبل العسكر بأن يصبحوا أقلية في مواجهة المدنيين في مجلس الأمن القومي، بل إنهم لجئوا أخيرا إلى تغيير طريقة سلوكهم في الساحة السياسية عن طريق الإحجام عن التدخل المباشر بمناسبة تقديم عبد الله غول ترشحه لمنصب الرئاسة وأحيل أمر البت في دستورية نصاب الجلسة البرلمانية لانتخاب الرئيس إلى المحكمة العليا التي يبدو أنها اكتفت بتطبيق الدستور. من هنا يبدو الإتحاد الأوروبي عاملا قويا من بين العوامل الدافعة نحو تراجع تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي، وهو ما يعني أيضا أن مجرد بقاء أمل الأتراك معلقا بالانتماء إلى هذا الإطار الجغراسياسي من شأنه أن يحمي الحياة الديمقراطية التركية من عدوها الأساسي وهو العسكر. بذلك يمكن أن نفهم أن مئات الآلاف من الأتراك الذين خرجوا في الأسابيع الأخيرة للتظاهر ضد حزب العدالة والتنمية، وهي ممارسة ديمقراطية لا لبس فيها، قد هتفوا أيضا ضد تدخل الجيش في الحياة السياسية محذرين من انقلابه مرة أخرى على الحكومة. ذلك أن جانبا هاما من أنصار النظام اللائكي قد اتضح لهم بعد تجارب مريرة عديدة مع المؤسسة العسكرية أن هذه المؤسسة لا تدافع عن اللائكية بقدر دفاعها عن المصالح التي نجحت في بنائها طيلة حوالي الثمانين عاما من حكم تركيا. من هنا فقد حولت اللائكية إلى نوع من الإيديولوجيا، إلى رأسمال رمزي تستثمره في مواجهة القوى السياسية الأخرى المهددة لسيطرتها على المجتمع. في حين تحول أعضاؤها إلى ما يشبه الكهنوت، إلى طغمة ذات مصالح مادية واضحة.
من هنا فإن الصراع الحقيقي في تركيا اليوم، كما في كل البلدان ذات الديمقراطية الغضة، هو صراع بين المجتمع والاستبداد، سواء كان هذا الاستبداد متدثرا بعباءة الدين أو العسكر أو الاقتصاد. وعلى نتيجة هذا الصراع يتوقف ما هو حياتي بالنسبة لهذا المجتمع: صيانة الديمقراطية الحقيقية المنظمة للاختلاف والضامنة للتداول السلمي على السلطة بما يعبر عن طموحات المواطنين. أما ما عدى ذلك من صراعات، فإن مؤسسات النظام الديمقراطي واحترام الجميع للمبادئ التي يسير عليها كفيلة بعدم تطورها إلى الحد الذي تخرج معه عن السيطرة. لذلك فإن بإمكان الأتراك، بما يملكونه من حيوية وتجربة، أن ينجحوا هذه المرة في تحقيق لائكيتهم الحقيقية، تلك اللائكية التي ستضع إن نجحت حدا لسيطرة الكنيسة الجديدة، كنيسة العسكر المتدثر بالعلمانية، المتخم بالمصالح والاستبداد.

vendredi 18 mai 2007

ترياق عجيب يشفي من الإيدز... أخيرا



ترياق عجيب يشفي من الإيدز... أخيرا

"وإذا مرضت فهو يشفين"
عدنان المنصر
مقال صادر بالعدد 406 من جريدة الموقف التونسية بتاريخ 18 ماي 2007




غمبيا بلد صغير جدا يقع غرب إفريقيا، ولمن لا يعرف عنه شيئا فإن مساحته في حدود أحد عشر ألف كلم2، في حين لا يتجاوز عدد سكانه المليون والنصف معظمهم مسلمون، كما أنه حصل على استقلاله من بريطانيا سنة 1965، ويحكمه نظام جمهوري يتمتع فيه رئيس الجمهورية بأوسع السلطات. كان بالإمكان أن يظل هذا البلد مغمورا كعادته لولا أن رئيسه أصر على أن يجلب إليه اهتمام العالم منذ بضعة أشهر.

فقد قرر الرئيس يحيى جماح فجأة أن يصبح طبيبا، كما قرر أن يختص في تطبيب المصابين بمرض الإيدز بالخصوص الذين تقدر منظمة الصحة العالمية عددهم بغمبيا بأكثر من عشرين ألفا. ففي اجتماع دعا إلى حضوره ممثلي الدول الأجنبية والمنظمات الدولية عقد في العاصمة بانجول في شهر جانفي من هذه السنة أعلن الرئيس الغمبي اختراعه عقارا كفيلا بالقضاء على تطور المرض العضال استطاع التوصل إليه من خلال تركيبة من سبع حشائش يقع طلي المريض بها مع قراءة آيات من القرآن في الأثناء. الخبر في حد ذاته مثير للإهتمام، وقد كان من الطبيعي أن يتساءل الحاضرون، ولو همسا، عن مصداقية الإختراع العجيب وأن يطلب بعضهم، على استحياء، تفاصيل أكثر تجعل الشك يقينا. غير أن ممثلي الدول الأجنبية المعتمدين لدى جمهورية غمبيا أحجموا عن التصريح بشكوكهم بل أحجموا عن كل تعليق من شأنه أن يؤول كتشكيك في صدقية الإختراع الرئاسي، لسبب بسيط وهو أنهم أكثر من يعلم بأن المسألة أبعد ما تكون عن العلم عموما وعن الطب خصوصا. وفي المقابل بدأ بعض ممثلي المنظمات الدولية في الحديث عن الموضوع، طالبين تفاصيل أكثر، فقط "ليزدادوا إيمانا"، ومع إلحاحهم بدأ يتضح "للرئيس المعجزة" سوء نواياهم، فكان أن صدر عن رئاسة الجمهورية بيان اعتبر المنسقة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة في غمبيا شخصا غير مرغوب فيه مع ضرورة مغادرة البلاد في غضون 48 ساعة. وقبل ذلك كان صحفيان في جريدة الدايلي أبزورفر الحكومية قد أطردا من وظيفتيهما لعدم تحمسهما الواضح أثناء تغطية خبر الاختراع الرئاسي. وقد ذهبت مساعي منظمة الصحة العالمية للحصول على ما يطفئ الظمأ من تفاصيل (تتيح تحقيق استفادة البشرية كلها من هذا الاختراع) أدراج الرياح، فالرئيس جماح مصر على سرية الاختراع، وحتى يكمل معروفه فهو يرفض تقديم تركيبة الترياق العجيب لمن يعتقد أنهم سيتاجرون به وبآلام البشر، لذلك فقد أنشأ مستشفى خاصا يعود فيه مرضى الإيدز بنفسه أربعة أيام في الأسبوع كما أنشأ صندوقا خاصا بمداواة مرضى الإيدز افتتح له حسابا ببنك غمبيا العربي الإسلامي. ومنذ ذلك الحين فإن النشاط الطبي للرئيس جماح يحظى بأكبر تغطية إعلامية في غمبيا حيث تسخر إمكانيات التلفزيون الغمبي لمتابعة نجاحات "الطبيب الأول"، كما يسمح للمرضى بالقول، وهم في كامل وعيهم وفي حل من أية ضغوط طبعا، بأن نتائج العلاج إيجابية وأنهم تخلصوا من المصيبة التي كانت تسمم حياتهم بفضل طريقة رئيسهم المصيبة. وبديهي هنا أنهم سيتوقفون عن متابعة علاجهم السابق، لأن ذلك سيعتبر تشكيكا في قدرات رئيسهم الطبية، وهذه مسألة تهم سلامة الدولة قبل سلامتهم الخاصة.
ومنذ أن بدأ الناس في الحديث عن الترياق العجيب أكثر الرئيس الغمبي من التصريحات وقد جاء في إحداها (فيفري 2007) أنه بإمكانه أن يعد الشعب الغمبي بتحقيق التطور في حدود سنة 2020. وللإشارة فإن الرئيس الغمبي الذي قدم إلى السلطة في بلاده غداة انقلاب عسكري ناجح تزعمه في 1993 قد أعيد "انتخابه" في سبتمبر 2006 لفترة رئاسية ثالثة تدوم خمس سنوات. معنى ذلك أن الرئيس جماح يحتاج إلى دورتين رئاسييتين أخريين (دون احتساب الدورة الجارية التي تنتهي في 2011) ليحقق الازدهار للشعب الغمبي. وهو غير مبال بالانتقادات التي توجه لحكمه من قبل المنظمات الدولية وجمعيات الدفاع عن حرية التعبير وعن حقوق الإنسان بسبب ما يشاع عن ارتكاب حكمه انتهاكات صارخة في هذا المجال، حيث يذكر أنه صرح بعيد انتخابه في سبتمبر 2006 بأن "بإمكان العالم كله أن يذهب إلى الجحيم الآن". لقد أصبح قرار جماح بدخول عالم الطب قرارا لا رجعة فيه، حتى أنه طغى على ما عداه من مهام رئاسية. فالرجل يترك شؤون الدولة كلها ويتفرغ أربعة أيام في الأسبوع لعيادة مرضاه، أما بقية أيام الأسبوع الثلاث فهو إما يدعو الناس للتبرع "طوعا" لبرنامج مكافحة الإيدز أو يطالع التقارير عمن يشكك في ترياقه المعجزة لتحريره من حريته أو قطع رزقه. وبالفعل فإن المعارضة، على ضعفها، لم تعد ترهق نفسها كثيرا فيما يبدو في البحث عن مساوئ حكم الرئيس جماح، حيث أصبحت تعرف أنه يكفي أن تشكك في اختراعه حتى تثير حنقه. أما وزير الصحة المسكين فقد أضحت مهمته منذ ذلك الحين تسويف الصحافة والمنظمات المعنية بالملف، في حين صام الأطباء عن الكلام بطريقة مثيرة للاستغراب.

ماذا يمكن للدكتاتوريات أن تستخدم في سبيل البقاء بالحكم؟ لم تعد الوسائل الكلاسيكية لغلق الباب أمام التداول على السلطة كافية فيما يبدو. ولم تعد القوة والبطش المرادفين لأي حكم عسكري بقادرتين على طمأنة الماسك بزمام الأمور، القادر فوق عباده، على مصير سلطته. من هنا فإن عملية تجديد للشرعية السياسية أضحت أمرا ملحا. ولكن تجديد الشرعية لا يتم في هذا النموذج بإتباع الأسس المتعارف عليها في عالم اليوم، وذلك بالرغم من "العراقة الجمهورية" للنظام المعني، وإنما بالعودة إلى الوراء، إلى ممارسات خالت البشرية أنها ماتت بانقضاء الآجال. ذلك أن النظام الجمهوري، المفترض أنه ديمقراطي، قد قسم المهام بطريقة تشبه إلى حد بعيد تقسيم العمل: السلطة تحكم، والمعارضة تعارض.... والأطباء يهتمون بالمرضى. وفي عالمنا المغرق أكثر فأكثر في التخلف فإن رأس النظام لا يكتفي فقط بالاستحواذ على صلاحيات السلطات الأخرى، وإنما يتجاوز ذلك إلى التدخل في ميادين تتطلب قدرا أدنى من المعرفة بالعلم الحديث وبتطبيقاته الأكثر دقة. ولا بأس هنا من تغليف الموهبة الجديدة بغلاف الدين، والتأكيد على أن عجز العلماء عن الاقتناع بجدية الترياق العجيب مرده إلى كونه نتاج موهبة ربانية وأن من سوء حظ العلم الحديث أنه لا يؤمن بالمواهب الربانية.
هنا ينتقل الجدل إلى مستوى آخر بسرعة ضوئية : الخلاف يعود في الأصل إذا إلى اختلاف الثقافات، وما هو صالح بالنسبة للغرب ليس بالضرورة صالحا لغيره، لذلك فعلى الحلول أن تكون من جنس المشاكل التي تعيشها كل ثقافة، وما يسري على الإيدز يسري حتما على غيره، فكلها علل. خذ مثالا على ذلك مسألة الديمقراطية وما يتبعها من تقسيم للسلطات وضبط لصلاحياتها: هذه ليست مشكلة إفريقيا (ولا آسيا حتما)، حيث يتضور الناس من الجوع، وحيث تنتشر الأمية بشكل مخيف، وحيث يتوجب إدارة الثروة بما يحقق للشعب قوته اليومي على الأقل، وكرامته لاحقا. أما مسألة تجديد الشرعية بإتباع الوسائل الديمقراطية وبفسح المجال أمام الشعب ليختار قيادته بكامل الحرية فأمر مبتدع هو الآخر، لأن شعبا جائعا (وبالمناسبة فهو جائع وإن أكد تخمته) لا يمكن أن يختار بحرية من يسير أمره. وفوق ذلك فإن المسألة مسألة وقت ومراحل وأولويات، وما استغرقت أوروبا للوصول إليه قرنين أو ثلاثة، سنصل إليه نحن أيضا، بعد قرنين أو ثلاثة. المهم أن النية متوفرة، وهذا أول الطريق.

mercredi 16 mai 2007

النخب الاجتماعية التونسية زمن الاستعمار الفرنسي




كتاب:

النخب الاجتماعية التونسية زمن الاستعمار الفرنسي

(1881-1956) الأشراف والبلدية مثالا

تأليف عبد الواحد المكني. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس. 2004. 360 صفحة.

تقديم كتاب:بقلم عدنان المنصر صادر بمجلة روافد، مجلة المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، العدد العاشر 2005





هذا هو المؤلف الثالث للأستاذ عبد الواحد المكني بعد أطروحته حول "الحياة العائلية بجهة صفاقس بين 1875 و 1930، دراسة في التاريخ الاجتماعي والجهوي" (منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس 1996) وكتاب "شتات هل وسلات من 1872 حتى بداية القرن العشرين" (دار سحر للنشر، 1998). وهو في هذا الكتاب يعيد الغوص في التاريخ الاجتماعي والمحلي التونسي الذي جعل منه اختصاصا له، مسلحا بمعرفة جيدة بالمصادر وبأدوات نظرية تخرج البحث التاريخي من تقوقعه على ذاته وتمد بينه وبين العلوم الإنسانية الأخرى من جسور التواصل ما يسمح بمعرفة أفضل للمجتمع التونسي في تطوره التاريخي تحت الحماية الفرنسية.
قسم الأستاذ المكني عمله إلى بابين تعرض في الأول لدراسة فئة الأشراف ومكانتهم الاجتماعية بالبلاد التونسية في الفترة المدروسة، في حين خصص الثاني لتتبع تطور مكانة النخب البلدية العريقة في الفترة ذاتها. والملاحظ في التخطيط المتبع أن المؤلف حاول دراسة المحددات الرمزية والمادية لكلا الفئتين وتوزيعهما المجالي بالإضافة إلى تتبع الهياكل التي نظمت من خلالها أنشطتها الخاصة والعامة، مع تبيان انعكاسات السياسة الفرنسية على مكانتهما والتراجع الذي أصاب تلك المكانة تحت وطأة التغيرات في بنية المجتمع التونسي تحت الحماية الفرنسية ومواقف هتين الفئتين من بعض الأحداث الهامة كحدث 1881 وأحداث 1885 والجلاز والترامواي. كما احتوى المؤلف على جملة من الملاحق الوثائقية والفهارس المفيدة إضافة إلى ثبت للمصادر والمراجع يوضح تنوع المطالعات التي قام بها المؤلف وثراءها وعدم التزامها ضرورة بمحددات الاختصاص.
قدم الأستاذ المكني كتابه بمدخل نظري حاول من خلاله تبرير اختياره للموضوع وللمنهج الذي اتبعه متبنيا اتجاها نقديا إزاء التحليل المادي التاريخي الذي يجعل من الفئة أو الطبقة مجرد تعبير عن مصالح مادية في المجتمع، مخيرا توسيع أفقه النظري بالاستئناس بكتابات علماء السياسة والاجتماع وموليا الرمز الأهمية التي يستحق في سعيه لرسم ملامح المجموعات المدروسة.
لقد كانت للاستعمار الفرنسي بتونس تأثيرات عميقة على فئة الأشراف وعلى فئة البلدية حيث تراجعت هيبة الفئات التقليدية "نتيجة استفحال النمط الكولونيالي وجراء انتشار التمدن العصري في كل مظاهر الحياة" ولعل انتشار التعليم وتقدم التحديث من أبرز العوامل التي ساهمت في إنتاج تنميط جديد للمجتمع أضر بمرتبة فئات المكانة. يمثل الأشراف في هذه الفترة عددا قدر المؤلف أنه لا يتجاوز الثلاثين ألف نسمة أي حوالي 1 بالمائة من سكان البلاد، ولم تمنع محدودية الحجم البشري هذه الفئة من لعب دور حاسم في شرعية الحكم وجهاز الدول محافظة في الأثناء على قدر من التجانس الداخلي ومستغلة أحاسيس التقديس لعقب الرسول في أوساط التونسيين للمحافظة على حد دنى من الاحترام والهيبة. أما مجاليا فقد توصل الكاتب إلى أن توزيع الأشراف يتم خاصة في الفضاءات الحضرية ذات الكثافة النسبية والمشتهرة بوجود معالم دينية وروحية هامة كالرباطات ومقامات الأولياء والطرق النافذة والجوامع العريقة.
حاول المكني الولوج إلى اخل لبناء البشري لفئة الأشراف من خلال نموذج مجهري مثلته عائلة النيفر حيث قدم قراءة في علاقات المصاهرة داخلها ملاحظا ما تميزت به هذه العائلة من انفتاح نسبي إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر. وتكمن أهمية دراسة علاقات المصاهرة في هذا النموذج في دلالتها على محاولة العائلة الشريفة التكيف مع جملة التغيرات في البنية الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. كما تعرض المؤرخ في إطار تعرضه للبناء البشري لفئة الأشراف لتتبع هياكل تنظم هذه الفئة وهي بالأساس نقابات الأشراف التي عرفها المكني بوصفها "تجمعات أفقية "كارتالات" للذود عن المصالح المشتركة للمجموعة الشريفة في علاقتها مع مراكز السلطة وتنظيمات المجتمع" (ص 101). وتنحصر مهام نقابة الأشراف كما لخصها الأستاذ المكني في حفظ نقاء السلالة الشريفة وفرض نوع من السلوك الأخلاقي يضمن العلوية والاحترام ثم الدفاع عن المصالح والامتيازات التي من شأنها صهر المجموعة ماديا واجتماعيا وضمان مستقبلها.
لقد فقد الأشراف ونقباؤهم الكثير من المكانة التي كانوا يحتلونها لدى أوساط الحكم قبل دخول الفرنسيين، فتزايدت طلبات المعونة الصادرة عنهم وظهر التذمر من سوء حالهم خاصة بعد إضعاف هياكل الوقف التي كان الأشراف يحظون بجزء من مداخيلها. غير أن هذا التبرم المتصاعد لم يكن ينعكس في انخراط ما في معترك المطالبة والاحتجاج السياسيين، وهو فيما يبدو سلوك قديم لدى هذه الفئة التي لم تصرح بعدائها للاستعمار الفرنسي منذ انتصابه بالبلاد وإلى حين خروجه، بل إنها في بعض الحالات قدمت عونا سياسيا ودعائيا لمشاريعه مثلما حصل مع المكي بن عزوز الذي أسس بدفع من الإقامة العامة "الحزب الوطني التونسي" في 1952.
هنا يمكن ملاحظة بعض الفروق الهامة مع فئة البلدية التي نجدها منذ 1885 تعبر عن موقف سياسي متبرم من نظام الحماية والتي سينخرط الكثير من أبنائها في الحراك السياسي الوطني. يعرف الأستاذ المكني فئة البلدية (مستأنسا في ذلك بالتصنيف الفيبري) بوصفها "إحدى جماعات المكانة التي كانت تعيش على ماضيها الجماعي المتوارث والتي تكتسب من صفات الانصهار والانتماء الاجتماعي المشترك ما هو رمزي ومعنوي أحيانا أكثر مما هو مادي وطبقي"(ص 185).
يغوص المؤرخ في هذا الباب في المحددات الرمزية لفئة البلدية متبعا منهجا طريفا يعتمد دراسة الإسامة ومخيال الانتساب العريق، ملاحظا في الوقت ذاته أن هذه الفئة لم تكن، على المدى البعيد، بمثل انغلاق فئة الأشراف حيث حصل تمازج وتلاقح مع شرائح أخرى اكتسبت بذلك الصفة البلدية مثل العائلات المملوكية والتركية وبعض العائلات القروية والقبلية. ويلاحظ المكني أن هذا الحراك النسبي يترجم عمق التحولات التي أحدثها الاستعمار في المجتمع التونسي من خلال فقدان الشرائح المخزنية والعسكرية المنهارة لمكانتها السابقة في نظام الحكم الحسيني وانضمامها عن طريق المصاهرة على فئة البلدية. غير أن المؤلف لا يبين لماذا تعمد عائلة بلدية عريقة إلى مصاهرة عائلة قام مجدها السابق على الوظيف المخزني مثلا وفقدت هذا المجد لاحقا؟ إن علاقات التصاهر كما يدرسها المكني في كتابه هي تجسيد لعلاقات تحالف جديدة تعيد أو تحاول إعادة رسم الموقع ضمن الخريطة الاجتماعية، من هنا فإن المصلحة تبدو ذات قيمة مركزية، وهو ما لا نجده في هذه الحالة وإن وجدناه في علاقات تصاهر أخرى نسجتها فئة البلدية. ولا يتوقف حراك هذه الفئة على هذا المستوى بل يمكن ملاحظته على المجال من خلال انتقال العائلات البلدية من الأحياء العريقة في "البلاد العربي" إلى الأحياء الجديدة وبعضها أوروبي مما سيعمق مسارا للتثاقف مع الجاليات الأوروبية ومنحى للانفتاح على الفئات الأخرى.
خصص المؤلف لدراسة "الرأسمال الرمزيّ" لهذه الفئة حيزا هاما من بحثه، فغاص في أخلاقهم وأذواقهم ونظرتهم للآخرين وتألمهم من تلاشي ماض كانوا يلعبون فيه الدور الأول باستمرار، كما تتبع أملاكهم ومسار التراجع الذي صبغ تطور مكانتهم المادية. غير أن ذلك لم يعق محاولتهم التأقلم مع الظروف الجديدة فقد غزا الكثير من أبناء البلدية الفضاءات الجديدة وتمكنوا بما اكتسبوه من ثقافة عصرية من ولوج عالم الفئات الحديثة إن على مستوى الحراك الاقتصادي أو على صعيد العمل السياسي والثقافي. لذلك فإضافة إلى دراسة الهياكل العريقة التي كانت تؤطر نشاطات البلدية العامة، أولى المؤلف عناية بتتبع دورهم في الهياكل والهيئات المستحدثة مثل المجلس الأكبر والندوة الاستشارية ثم المجلس الكبير، كما انخرطت نخبة البلدية في نشاط احتجاجي متبرم بالوضع الاستعماري عبر عن نفسه بداية مع "قيامة البلدية" في 1885. وشكلت أحداث الجلاز هي الأخرى، رغم عفويتها وسيطرة الفئات الشعبية على مجرى الأحداث فيها’، فرصة أخرى أمكن للباحث من خلالها ملاحظة دور ما للبلدية الفقراء ولبعض عناصر نخبتهم سواء في تهييج المشاعر أو في تهدئتها.
وهكذا فإن البلدية رغم تضرر مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية قد نجحوا إلى حد ما في ركوب موجة الحداثة الاستعمارية فاستطاع البعض منهم الاضطلاع بجانب هام من الخطط الوظيفية تحت الاستعمار الفرنسي وشكل البعض الآخر العمود الفقري لجانب معتبر من التحركات الاحتجاجية في حين انخرط عدد منهم في العمل الوطني المباشر وإن عجزت عن تزعمه "بحكم تركيبتها الاجتماعية والثقافية والنفسية فقد كانت تفتقد اللحمة والتواصل المادي والاجتماعي".
لقد استطاع الأستاذ عبد الواحد المكني التعامل مع موضوع دراسته بكثير من الحرفية مما جعله في النهاية يقدم قراءة لا تستند كثيرا على ما هو شائع من أفكار حول الفئتين الاجتماعيتين المدروستين، ولا تقدس القالب النظري بقدر ما تغوص في المصادر وتعتمد الأمثلة المجهرية، ولا تؤله المقاييس المادية للمكانة بقدر ما تعيد الاعتبار للمخيال والرمز. من هنا يمكن القول أن معرفتنا بالمجتمع التونسي وبتأثيرات النمط الكولونيالي على بعض أهم فئاته قد اغتنت، وأن منهج البحث التاريخي لا يمكن إلا أن يستفيد من انفتاحه على العلوم الإنسانية الأخرى، وهما هدفان سعى المكني لتحقيقهما من خلال هذا المؤلف ونجح في ذلك إلى حد كبير.
.

mercredi 9 mai 2007

عندما تصاب الدولة بمرض باركنسون






مزالي ينشر مذكراته:
عندما تصاب الدولة بمرض باركنسون
عدنان المنصر


مقال صادر بجريدة الموقف بتاريخ 27 أفريل 2007


"هذا الكتاب مزج سيرتي الذاتية بمحطات رحلتي الإنسانية، أكدت من خلالها نظرياتي وقناعاتي والصراع الذي لم يهدأ في أعمق أعماقي بين الإيمان والفعل، إنه يندرج إذن في صلب تواصل عملي النضالي من أجل تونس، من أجل الإنسان، وهو بمثابة المرحلة الختامية لحياتي". هكذا صدر الوزير الأول التونسي الأسبق محمد مزالي النسخة العربية من مذكراته التي صدرت منذ بضعة أسابيع تحت عنوان "نصيي من الحقيقة" عن دار الشروق المصرية بحجم تجاوز الستمائة صفحة من القطع المتوسط. وهذا النص وإن كان في معظمه تعريبا للنسخة الفرنسية الصادرة في وقت سابق بفرنسا فإن صاحبها قد أدخل عليها بعض الإضافات وضمنها وثائق وشهادات.

وقارئ النص العربي يجد في لغته وأسلوبه من السلاسة والعذوبة ما يذكره بأن صاحبه أديب وفيلسوف قبل أن يكون سياسيا وهو أمر يؤكده في مقدمة نصه عندما يعرض إلى علاقته بالكتابة. غير أن مزالي لا يكتب هنا لمجرد المتعة، فقد أراد من نصه غايتين تتضحان لكل من يقرأه. فقد سعى في البداية إلى تقديم شهادة عن الفترة التي ارتبطت فيها حياته بالمسؤولية السياسية منذ فجر الاستقلال، وفي خضم ذلك يقدم صورة لطبيعة سير الدولة وطريقة اتخاذ القرار في العهد البورقيبي، كما يوضح انجازاته الشخصية في مختلف مواقع المسؤولية، من وزارة التربية إلى وزارة الصحة إلى وزارة الدفاع إلى الشباب والرياضة إلى الإعلام وأخيرا الوزارة الأولى. أما الغرض الثاني الذي من أجله كتب هذه المذكرات فهو الدفاع عن نفسه إزاء ما تعرض له من تشويه وهجوم غير مبرر حاول خصومه من خلاله إلغاء دوره وتاريخه، وهنا يأخذ النص مسحة مختلفة تماما. من هنا فإن الكتاب لا يقدم لقارئه مزالي السياسي فحسب بل أيضا مزالي الإنسان الذي يبدي ألمه لما يعتقد أنه ظلم وقع عليه، وقد خصص جزءا كبيرا من مذكراته لرد "الاتهامات" ودحض "الافتراءات" رغم تأكيده في بداية النص "عدم حاجته إلى الدفاع عن صدق وطنيته وأصالة كفاحه السياسي والثقافي أمام أصحاب الذاكرة المثقوبة ولا التدليل على استقامته وبراءته إزاء الإشاعات الفجة والأكاذيب السمجة والاتهامات الباطلة التي لا تستحق سوى السخرية" (ص 14) انطلاقا من مقولة أن "من عرف نفسه لا يضيره ما قاله بعض الناس فيه".
قسم محمد مزالي مذكراته إلى فصول خمسة تناول فيها مسيرته السياسية التي دامت أكثر من 30 عاما، حيث يمكن القول أنه عاصر عملية ناء الدولة وكل تجاربها وتحولاتها وأزماتها إلى حدود إعفائه من مهام الوزارة الأولى في 1986. من هنا فإن قربه من دوائر صنع القرار طيلة جانب من هذه المسيرة بل ومشاركته الفعلية في صياغة السياسة الحكومية طيلة القسم الأكبر منها يجعل من شهادته ذات قيمة خاصة لكل من أراد دراسة تاريخ دولة الاستقلال. وبالفعل فإن الكاتب يتوجه بشهادته إلى "المؤرخين الذين ستؤهلهم أمانتهم العلمية لمزيد البحث الموضوعي والتنقيب العلمي قصد إعطاء صورة ناصعة، وفية، لتاريخ تونس منذ الإستقلال" (ص15).

غير أن متن الكتاب لا يؤكد أن هذه الصورة المراد رسمها لدولة الاستقلال كانت دائما ناصعة، وهذا لا يمس في شيء من صدق النوايا والرغبة في تحقيق ازدهار الشعب التونسي وتحقيق نهضته التي كانت تحدو مؤسسي الدولة الوطنية في تونس. فقد تراجعت النوايا الطيبة أمام ضغوطات مراكز القوى داخل القصر وفي دوائر الحكم وسرعان ما أفسح المجال لصراع أجنحة داخل الدولة عطل اضطلاعها بمهامها الأصلية. هذا الصراع لم يكن يجد تبريره سوى في رغبة الاستئثار بالمواقع القريبة من الصانع الحقيقي لسياسة الدولة وهو الزعيم بورقيبة الذي أتقن بفعالية التحكم في تلك الصراعات وطوعها إلى حد كبير لمصلحة سلطته الشخصية.
قد يكون ذلك مقبولا في بعض أنظمة الحكم وربما في أغلبها، غير أن "النموذج التونسي" كان قد تفتق على بدعة قل العثور عن شبيه لها من ناحية الفعالية وشدة التأثير. هذه البدعة كانت شجرة الدر الجديدة، "الماجدة" زوجة الرئيس التي كانت تحكم البلاد من خلف ستار، متقنة كافة أساليب الاستقطاب داخل أوساط الحكومة ومكونة قطبها الخاص. كان "حزب الماجدة" كبيرا وقوي التأثير. وربما تعارض أحيانا مع "حزب الرئيس"، ولا غرابة في ذلك فقد ذكر أحد رموز المعارضة الديمقراطية في عهد بورقيبة أن "المعارضة الحقيقية لبورقيبة موجودة في فراشه". وفي مذكرات مزالي شهادة على هذا الواقع الذي زاد استفحالا مع تقدم بورقيبة في السن. ولعل أهم مناسبتين يوردهما مزالي في هذا الاتجاه هو أن أكبر الأحداث التي شهدتها تونس في تاريخها القريب قد وقعت نتيجة مؤامرة حبكت "الماجدة" خيوطها واستهدفت في كل مرة الوزير الأول (نويرة في جانفي 1978 ومزالي في 1984) الذي كان بوصفه دستوريا الخليفة المحتمل لرئيس الدولة، يتلقى كل السهام وتحبك لتحطيمه كل "المؤامرات". ربما أضاءت هذه الشهادة جانبا من الحقيقة غير أنها تبقى قاصرة عن تفسير تلك الأحداث. فأحداث "الخميس الأسود" في 26 جانفي 1978 وقعت لأن كل الظروف كانت تنبئ بوقوعها ولم يكن من الممكن في ظننا منعها. ربما كان عاشور بالفعل عضوا في "حزب الماجدة"، ولكنه ما كان ليجر وراءه كل النقابيين والشغالين لو أن هدفه كان يتلخص فحسب في الإطاحة بنويرة. كذلك الأمر بالنسبة لأحداث الخبز، فربما سهلت انفجارها كما يؤكد مزالي "مؤامرة" نسجت خيوطها بإحكام لكنها ما كانت لتقع لو أن الشعب كان راضيا عن النظام الذي يحكمه. لقد كان الحاكمون يعرفون حقيقة ما يعتمل داخل المجتمع من نقمة على سياسات لم تحقق طموحات شرائح واسعة في حياة كريمة، فسعى بعضهم إلى الاستفادة من تلك الطاقة الهائلة لتصفية حسابات ضيقة لا تكاد آفاقها تتجاوز أسوار القصر. وفي المناسبتين انتفض ذلك المارد ليفرض نفسه في واقع لم يكن يحقق فيه الإنسان إنسانيته برغم أساليب الدعاية والتعمية التي سخر لها النظام كل قدراته. إن المسألة، كما لا يوضحها صاحب المذكرات، مسألة انفصام عميق في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ذلك الانفصام الذي أدى إلى غربة ثم إلى تنافر ثم إلى تحين كليهما الفرصة للانقضاض على الآخر. وفي المناسبتين كانت الكلمة الأخيرة للحاكمين الذين لم يفوتوا فرصتهم لترسيخ عبودية الجماهير بقمع طال الأخضر واليابس. من هنا فإن حصر المسألة برمتها في مقولة "المؤامرة" يبقى قاصرا عن تفسير العمق الحقيقي لذلك الصراع وإن مكن في نهاية الأمر من توضيح بعض جوانبه.
والمتمعن في مذكرات مزالي يلاحظ أن الكاتب يضع نفسه كتواصل لسياسات الذين تقلدا منصب الوزير الأول من قبله، الباهي الأدغم والهادي نويرة. وهو لا يجد حرجا في الاعتراف لهما بالفضل على مسيرة التنمية الاقتصادية وعلى مشروع بناء الدولة، وهذا الموقف في حد ذاته موجب للاحترام حيث أننا تعودنا من كتاب المذكرات من كبار رجال الدولة ذلك المسعى المرضي لنسف إنجازات أسلافهم ومحاولة السطو على ما حققوه للبلاد وهو وجه آخر من وجوه العلاقة بين عناصر نخبة الدولة. غير أننا نفهم من ذلك أيضا أن محمد مزالي قد نظر دائما إلى دوره السياسي كمكمل لدور عناصر أخرى سبقته أو عاصرته في العمل الحكومي تحت قيادة بورقيبة. كما أن مزالي يحتفظ باحترام شديد للزعيم بورقيبة وهو من هذه الناحية أيضا يقطع مع تلك الممارسة التي تتمثل في التحمس لتسديد الطعنات كلما كانت "الضحية" عاجزة عن الرد.
وهنا لب القضية في نظرنا. فمزالي كان جزءا من نظام، وبغض النظر عن سعيه لتقديم ممارسة مختلفة للشأن العام، فإن ذلك كان عاجزا عن تحقيق تحول فعلي في مسيرة ذلك النظام. ذلك أن القرار لم يكن له، كما لم يكن لغيره مهما علت مرتبته في سلم الدولة. ومرد ذلك في الحقيقة إلى تحول النظام من نظام مصغ لصوت شعبه ساع لخدمته برغم ما وقع من أخطاء، إلى نظام همه الوحيد الإبقاء على سيطرته على المجتمع وإن أخل بأهم مقومات العقد الاجتماعي. ذلك ما نفهمه من التجربة الديمقراطية التي دشنها مزالي في 1981 والتي قتلت في مهدها لأن النظام تهيأ له أن تلك كانت بداية النهاية بالنسبة إليه وبخاصة بالنسبة لأصحاب المصالح في بقائه منغلقا على نفسه ومنعزلا عن الجماهير.
هل كان النظام عاجزا بالفعل عن انتهاز تلك الفرصة التي قدمها له مزالي لتجديد نفسه وبناء شرعية جديدة تمنحه نفسا جديدا؟ لقد كان عاجزا عن ذلك ليس لقصور في إدراك مراكز القوى لمصلحتها الحقيقية من تغيير تدريجي وسلمي لا يفقدها سيطرتها على الوضع، بل لأن بعض عناصرها كانت تتصرف بغير حرص على مصلحة النظام العامة. من هنا فإن الإشكال الحقيقي ليس في عدم حرص تلك المراكز على مصلحة الشعب أو مصلحة الدولة، لأن ذلك كان معلوما للسواد الأعظم، بل في عدم حرصها على مصلحة النظام التي كانت تقتضي انفتاحا مدروسا يقيه غائلة التحركات العنيفة. وهذا يعيدنا إلى الطبيعة الارتجالية لصنع القرار التي اتضحت في العشرية الأخيرة من حكم بورقيبة والتي لا ينبغي تبريرها بتقدمه في السن فحسب. فالمسألة تعود في نظرنا إلى عامل هيكلي يتمثل في الطبيعة الرئاسوية للنظام من ناحية، وإلى فشل مسار بناء مؤسسات قادرة على تصويب أخطاء السلطة التنفيذية. من هنا فلا مزالي ولا غيره كان قادرا على تحقيق تحول جذري في طبيعة النظام، ذلك أن مراكز القوى كانت ترى في أي تغيير مهما بدا بسيطا خطرا يهددها مباشرة. ذلك أن بناء مؤسسات حقيقية يعني فقدان تلك المراكز لغاية وجودها. فما هي المكانة الحقيقية التي يعطيها دستور دولة، مهما بلغت العبثية، لزوجة الزعيم حتى تغدو "الماجدة" صاحبة القول الفصل في تعيين الوزير الأول أو عزله؟ وأي نظام يشرف فيه وزير الداخلية (1981)على تزوير إرادة الشعب دون محاسبة أو عقاب؟ وأية دولة تلك التي تملأ الدنيا صراخا حول إصلاحات اجتماعية تجعل للطلاق ضوابط معلومة ثم يكون مؤسسها وبانيها أول من يخترقها؟
لا نشك أن مزالي وغيره كانوا مدركين لعمق الهوة التي تردى فيها مشروع الدولة في تونس، ولعلهم أرادوا تجديد شباب ذلك النظام بعد أن رأوا توغله في الاتجاه الخاطئ. فهم في نهاية الأمر تلك النخبة الشابة والمثقفة التي بنت على الاستقلال كل أحلامها في تأسيس مشروع وطني يعيد للشعب كرامته ويحقق فيه رشده السياسي.غير أن قوانين الهندسة، وليست قوانين السن والتهرم فحسب، أفشلت مساعي الصادقين منهم، ومضمونها أنك لا تستطيع إنجاز بناء صلب على أسس هاوية. وهكذا أدى تجاهل هذه القاعدة إلى إصابة كامل الدولة، وليس بورقيبة فحسب، بذلك المرض الذي يطلق عليه اسم مرض باركنسون، فبدا مرتعشا، متخشبا، فاقدا للإتزان ومكتئبا
.

jeudi 3 mai 2007

تصور البورقيبية لمسألة الأمة وقضية الهوية

تصور البورقيبية لمسألة الأمة وقضية الهوية
عدنان المنصر

مداخلة في ندوة بورقيبة والإسلام التي نظمها منتدى الجاحظ بالإشتراك مع دار الجنوب للنشر يوم السبت 29 جانفي 2005 في فضاء التياترو بتونس.

رابط الندوة:
http://www.eljahedh.org/Documents/borgibr1%20%20%20_s%20%20_.htm

لم أدرس تصور بورقيبة فقط بل البورقيبية باعتبارها لم تكن نتاج بورقيبة فقط بل ساهمت فيها النخبة التي أحاطت به في الحكم سواء كانت مثقفة أو نخبة حاكمة فعندما نقول نخبة وطنية مثقفة نقصد النخبة التي تبنت البورقيبية وطورتها وأعطتها الكثير من الزخم للفكر البورقيبي.
وقد استغرقت قضية العلاقة بين الدولة والأمة جانبا كبيرا من الجهد التنظيري لهذه النخبة غداة الاستقلال بالخصوص وإن بدأ التفكير حول هذه المسائل خاصة منذ ظهور أول الفضاءات الفكرية من سنة 1954 تقريبا عبر مجلة الندوة التي تلتها مجلة الفكر وهذه النخبة بقيادة بورقيبة ستنيط بالدولة ليس مهمة إنشاء مؤسسات الدولة فقط أو عقلنة التصرف الإداري وإنما خاصة إنشاء نموذج جديد من الأمة عن طريق مجهود سياسي وثقافي وتعليمي وقانوني متناسق يسند ويبرر الواقع السياسي الجديد المتسم بسيادة الدولة القطرية، ويشكل سدا منيعا في وجه الخيارات العروبية أو الإسلامية التي كان يعتبرها بورقيبة أكبر تهديد لنموذج الدولة الحديثة.
من هنا يأتي الدور الكبير الذي أسند للمدرسة وللنظام التربوي في صيرورة إنشاء أجيال جديدة تؤمن بهذه العقيدة الوطنية الجديدة وبالفعل فدستور سنة 1959 ضبط هذه الخطوط العامة لهذه الأمة التونسية فجعل حدودها سياسية وليست ثقافية.
ويمكن القول عموما إن تصور بورقيبة للأمة ينطلق من نظرية الدولة لديه ويمكن تلخيص المبادئ العامة
لهذا التصور في ثلاث نقاط رئيسية:
النقطة الأولى:
إيديولوجيا الدولة الوطنية تعتبر الدولة أداة التغيير الرئيسية إن لم تكن الوحيدة في المجتمع وشيئا فشيئا سيتطور الأمر إلى قلب العلاقة النظرية القديمة التي تعتبر الدولة نتاجا للمجتمع الذي يصبح بدوره نتاجا لها.
النقطة الثانية :
مجهود الدولة الوطنية كان يرمي إلى خلق" أمة متجانسة وموّحدة " فكان منطقيا أن تكون النتيجة القضاء على كل هيكل تقليدي وسيط بين الدولة والفرد أو بصيغة أخرى القضاء على كل عصبية منافية للعصبية الجديدة التي أرادت الدولة إنشاءها وهي العصبية للدولة أو العصبية للدولة الأم ، فضرورات البناء الوطني كما تتصورها النخبة الوطنية كان يتضمن تحييد كل الهياكل المستقلة ذلك أن الأمة يجب أن تبنى في نظر بورقيبة من الأفراد لأن الفرد الذي لا يكون مواليا لأية مؤسسة أو عصبية من السهل على الدولة أن تقحمه في مشروعها الحضاري الجديد وهو إنشاء الأمة.
النقطة الثالثة:
لا يتصور بورقيبة إنشاء الدولة إلا على أساس قومي أي وطني. فالأمة هي التي يجب أن تسند قيام الدولة، ولكن في نظره هذه الأمة غير موجودة و من هنا يأتي الدور الطلائعي للحزب كهيكل يضم نخبة الشعب عن طريق مزج عناصره المشتتة في وحدة منسجمة. فبورقيبة كان يعتبر دائما الحزب طليعة الأمة أي أمة مصغرة تتجاوز مهمتها المراحل الآنية لتبلغ هدفا أرقى وهو خلق أمة حقيقية منسجمة وموحّدة تقضي على التنافر بين الأفراد.
هذه هي النقاط الرئيسية التي ينطلق منها تصور بورقيبة للدولة والأمة وللهوية كتابع لتصوره للأمة.
إن قومية بورقيبة وطنية وقطرية بالأساس، وهي أيضا على ارتباط بمفهوم وهو مفهوم الأمة ونجد أنه في بعض الخطب لا يستنكف من الحديث عن أمة إسلامية أو أمة عربية خاصة في الخطب التي كانت تلقى بمناسبة المولد النبوي الشريف بالقيروان، لكن في أغلب الحالات الأمة التي كان يتحدث عنها بورقيبة هي الأمة التونسية، ويجد لذلك تبريرا وهو أن النخبة التونسية وضعت لنفسها بعد خروج المستعمر مهمة ذات أولوية وهي بناء الدولة الذي يتم بالموازاة مع بناء الأمة.
الأمة هنا لا تشكل معطى في الواقع وإنما هي حالة كامنة وفي أفضل الحالات مشروع في طور التحقيق فالمقياس الأساسي للأمة في نظر بورقيبة هو الدولة، ولا يمكن أن تتحقق بدونها وهو هنا يتبنى بشكل كامل تقريبا مفهوم الدولة القومية كما ظهر في أوروبا وخاصة في فرنسا يدفعه في ذلك تكوينه السياسي والفلسفي الليبرالي وعلى قناعة أساسية مفادها أن انحطاط الأمة العربية والإسلامية يعود أساسا إلى عدم استنادها إلى دولة حديثة ومركزية وفقا للنموذج الأوروبي ، وهذه الفكرة ستؤهله لتبني مواقفه المعروفة من الوحدة العربية وهو ما سيؤدي إلى ترسيخ معنى مختلف وأحيانا مناقض للوحدة القومية بمفهومها غير القطري أي الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية ..
فبورقيبة حين يتحدث عن القومية فهو يعني القومية التونسية أو الأمة التونسية وفي هذا السياق بالذات يبدو أن بورقيبة كان شديد الحرص على تدعيم الصفة القطرية للقومية التونسية أو الأمة التونسية مما كان يعني أيضا إعادة صياغة الهوية التونسية في قالب سياسي وقانوني قطري يحررها من احتكار البعد العربي والإسلامي كبعدين مؤسسين لها، وقد بدأ هذا المسار منذ الشروع في إعداد الدستور التونسي الصادر سنة 1959 فالأمة بالمعنى الوارد في هذا الدستور هي الأمة التي عبرت عن وجودها كشعب مناضل من أجل التحرر والاستقلال وهي الأمة التي تتشكل بعد الحصول على السيادة التامة بفعل الدولة التي تحدد أحكام الدستور كيانها وصورتها .
ويشير دستور سنة 1959 إلى الأمة العربية بتعبير الأسرة العربية ويحتفظ بتعبير الأمة للأمة التونسية وهذا الدستور لا يكتفي بتغيير معنى الأمة فقط وإنما حتى لفظ قومية يتغير معناه ، فتصبح القومية التونسية معوّضة للقومية العربية فنجد أن جميع مؤسسات الدولة الوطنية تستعمل لفظ قومية كمرادف للفظ وطنية مثل " الشركة القومية للسكك الحديدية التونسية " وغيرها.
والحقيقة أن بورقيبة قد اكتفى في هذا المجال بوضع المبادئ للثقافة الجديدة المراد ترسيخها لدى الأجيال الشابة والتي يعتبر أنها الضامنة لاستمرار مشروع الدولة الوطنية في المستقبل في حين قامت أطراف أخرى بصياغة هذه الثقافة الجديدة وإعطاء إيديولوجيا الدولة الوطنية بعدا أعمق. إذ كانت هذه النخبة- التي نشأت في الصادقية وعايشت أهم مفاصل مسيرة التحرر الوطني واطلعت بحكم دراساتها العليا على ما كان يعتمل داخل الثقافة الأوروبية عموما والفرنسية منها بالخصوص غداة الحرب العالمية الثانية - كانت صاحبة مشروع جنيني عبرت عنه منذ الأعداد الأولى من مجلة الندوة وخاصة مجلة الفكر وهو مشروع التونسة أو " صيرورة تأصيل الكيان الوطني " وعني بالتونسة التأكيد على محتوى العقيدة الجمعية الجديدة المراد ترسيخها لدى التونسيين وهو ما سيسمى في المرحلة الموالية بالشخصية التونسية قبل أن تتحول إلى الهوية التونسية ثم إلى الأمة التونسية.
من أهم من طور هذه النظرة للأمة وللقومية التونسية نجد رمزين هامين هما محمد مزالي والبشير بن سلامة خاصة في مجلة فكر.
فالسيد محمد مزالي لاحظ من خلال استقرائه لتاريخ الشعب التونسي أن هناك خصائص كبرى تجمع بين أفراد هذا الشعب وتجعله يكوّن أمّة بالمعنى الكامل وهذه الخصائص لخصها ما أسماه بالقاعدة الروحية ذات المنبع الشرقي وجدلية العلاقة بحضارات شعوب البحر المتوسط والتي تجسمت عبر القرون تارة عبر الاحتكاك السلمي وطورا في التصادم الحربي إذن هناك صبغة متوسطية للهوية التونسية من هنا استنتج أن تونس والشاهد له " ليست مجرد فرع من أصل بل إنها وطن متميز له كيانه المعروف وحيزه الجغرافي المضبوط وإن دينها الإسلام معتقدا وحضارة وتراثا وسلوكا ونمط حياة ونظرة إلى الوجود وإن لغتها العربية الركن الركين للشخصية الوطنية والعنصر المتين للذاتية القومية "
غير أن طبيعة السجال الإيديولوجي والسياسي الذي عرفته تونس بين دعاة التشريق ودعاة التغريب جعل مهمة منظري الذاتية التونسية صعبة نوعا ما فإذا كان من اليسير نسبيا على هؤلاء مجابهة دعاة التغريب فإن مواجهة الخصوم الآخرين لم يكن بذلك اليسر، من هنا فإن التمسك بالثقافة العربية وبالدين الإسلامي كمكونين أساسيين لتلك لشخصية التونسية كان يرمي إلى رد تهم الفئات القومية والأطراف التقليدية التي شكلت في هذه الفترة و خاصة قبل هزيمة جوان 1967 عهدها الذهبي وذلك بسعي الدولة الوطنية في تونس إلى الخروج عن دائرة الانتماء الحضاري العربي الإسلامي.
أما السيد البشير بن سلامة فيؤكد على نفس المبدأ في التعامل مع الانتماء العربي الإسلامي بما يسميه بالأمة التونسية فهو يرى أن تأكيده على ما أسماه الشخصية التونسية هو تأكيد لوجود أمة تونسية دون أن يعني ذلك مطلقا أي استنقاص من أهمية انتساب هذه الأمة إلى الأمة العربية فالعصر أضحى عصر وطنيات ، كما يقول ، والوطنية أصبحت العصبية الجديدة التي تقوم عليها الأمم . و انطلاقا من هنا سعى البشير بن سلامة إلى إثبات فرضية وجود الأمة التونسية باعتبار توفر الشروط الأساسية التي تتمثل في أربعة شروط.
* وجود إرادة جماعية للعيش عيشة مشتركة .
* القدرة على تكوين الهياكل اللازمة كأمة قائمة الذات .
* توفر نوع من الثقافة .
* قدرة الشعب على أن يحكم نفسه بنفسه.
وفي مؤلفه الهام "الشخصية التونسية خصائصها ومقوّماتها " - والذي لا يمكن دراسة هذه المسألة دون الرجوع إليه - يرى البشير بن سلامة أن توفر هذه الشروط لا يعفي من التعامل مع بعض الخصائص السلبية في الشخصية التونسية وخاصة الصراع الجدلي والمستمر بين ما أسماه روح المقاومة المستمرة وروح التعاون والمؤالفة فهو يرى أن الحضارات التي شهدتها البلاد لم تكن لتنشأ وتستمر لولا وجود روح التعاون والمؤالفة مما سهل على سكان البلاد التونسية هضم ثقافة الغزاة وجعلها جزءا من بنائهم الحضاري، غير أن روح التعاون والمؤالفة ستصطدم دائما بظاهرة أخرى وهي التخريب والتهديم وروح الفتنة والتناحر وتقويض البناء عندما يشيد وتظهر مزاياه ولا يمكن في نظره أيضا أن تشذ دولة الاستقلال في تونس عن هذه القاعدة الأزلية حيث ستجد نفسها وهي تسعى لترسيخ روح التعاون والمؤالفة وتكوين
" دولة قائمة الذات منيعة قادرة على إنشاء حضارة متميزة خلاقة آثارها باقية على مر الدهر " ستجد هذه الدولة نفسها في صراع مستمر ضد روح المقاومة والمناوءة التي لن تأخذ في العهد الجديد بعد الاستقلال لباس النعرات القبلية مثلما حدث في الماضي بل ستعود في شكل جديد " في صورة أخرى قاتلة مخرّبة " مثل الانقلاب العسكري أو التمرد أو المعارضة" المعارضة الهدامة" من هنا يتضح لنا بعد هام في نظرية الأمة التونسية في علاقاتها ببرامج الدولة الوطنية كما اتضحت لدى منظري هذا المفهوم الدولة الوطنية إنما تضع نفسها في مسار البناء والإنشاء و المدنيّة والحضارة في حين أن جميع الأخطار الداخلية التي تسعى لتقويض مجهودها لا يمكن أن تكون إلا من إحياءات روح التهديم والتخريب أي أن الدولة الوطنية والنخبة المشرفة على حظوظها في سعيهما لترسيخ روح التعاون والمؤالفة ستعتبر أن كل معارضة تهديد لذلك المسار من هنا فإن إزاحة هذه المعارضة المهددة للمشروع الحضاري للدولة الوطنية إنما هو إقصاء لغريزة المقاومة التي تصبح في هذا السياق تخريبا ووندلة.
وفي هذا السياق النظري بدأت بالبروز إيديولوجيا الأمة ثم بعد ذلك إيديولوجيا الوحدة القومية التي ستنقل الأمة شيئا فشيئا إلى أن تصبح إحدى مكونات الدولة الوطنية.
وهكذا مرت الايديولوجيا الوطنية من ايديولوجيا تريد إثبات وجود أمة تونسية إلى ايديولوجيا تسعى إلى تكتيك مشروع حول الدولة الوطنية ونخبتها الحاكمة فتحولت تلك الايديولوجيا بالتدريج من تعبير محتمل عن مشروع حضاري إلى ايديولوجيا نظام حكم.
من هنا اتخذ هذا المفهوم، خاصة مفهوم الوحدة القومية، صبغته الاصطلاحية ومغزاه الايديولوجي بوصفه أصبح جزءا من سياق التبرير سياسة طرف معين أمسك بمقاليد الدولة الناشئة وأعلن أنه المؤتمن على مشروعها التحديثي . وبالفعل فإن الدولة الوطنية عملت - في إطار مجهود دعائي قوي سخرت له كلما كان متاحا لها أدوات التأثير وقنوات الاتصال وخاصة الإعلام والمدرسة - عملت على احتكار التحدث باسم الأمة وادعاء تمثيلها والدفاع عن وحدتها المهددة باستمرار
.