mercredi 8 octobre 2008

مذهبك لا يدل عليك

الحرب الشيعية السنية الجديدة

مذهبك لا يدل عليك



عدنان المنصر

أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سوسة- تونس



مقال صادر بصحيفة الموقف التونسية بتاريخ 10 أكتوبر 2008

تعيش الساحة الإسلامية هذه الأيام على وقع الصراع الشيعي السني الذي أخذ أبعادا جديدة بعد انتقاله الى العالم الافتراضي من خلال حرب القرصنة الاعلامية بين القراصنة الشيعة والسنة وذلك بصفة خاصة منذ صدور موقف الشيخ القرضاوي من "الغزو الشيعي للمجتمعات السنية" والردود الايرانية المتشنجة عليه.

كان من الأفضل لو بقي الصراع في دائرة العالم الإفتراضي، لكنا اقتصدنا الكثير من المآسي ولكان الوضع الاسلامي أحسن بكثير مما يبدو عليه الأمر اليوم. هل يتسنى لنا راهنا أن نحل المشاكل العقائدية التي تطورت عن الصراع الأصلي بين السنة والشيعة، ذلك الصراع الذي زاد عمقا تحت تأثير أربعة عشر قرنا من التنافس السياسي والتطرف المذهبي؟ لا نظن أن أحدا يعتقد حقيقة في إمكان ذلك. وفي المقابل ماهي حدود حضور الهم الديني والعقدي في الصراع الدائر اليوم؟ على عكس ما يبدو عليه الوضع تماما من تضخم هذا الهم وسيادته على ما سواه، فإنه يبدو بميزان العقل في ضمور متواصل لفائدة اعتبارات سياسية بحتة وجدت أن أقصر طريق للنجاح في صراعها الراهن أن تلبس لبوس المذهبي والعقدي.
من المفيد أن نشير هنا إلى أن موقف الشيخ القرضاوي الذي جر كل هذه العاصفة قد صدر في ظرف يتميز بعنصرين أساسيين:
- تصاعد في الطموحات الإيرانية بمنطقة الخليج استفادة من تغير الوضع بالعراق ومن انتصارات "حزب الله" بلبنان وفي المقابل تخوف رسمي عربي بذات المنطقة من تعرض استقرار الدول العربية المقابلة لايران لهزات عنيفة نتيجة أية مواجهة بالخليج.
- تقارب واضح، كنتيجة لهذه التخوفات، بين السنية الرسمية والسنية المتشددة التي يبدو أنها تركت جانبا كلما يفرقها للتفرغ لمقارعة "المد الشيعي". هذا التقارب وذلك "الخطر" أنتجا، حتما، حرجا في أوساط علماء الدين السنة الذين وجدوا أن لا أحد من الأطراف مستعد لتقبل دعواتهم للتقارب بين المذاهب وأن وقت ذلك الخطاب قد فات، وربما قد ذهب إلى غير رجعة، من هنا فقد أعادوا تقييم مواقفهم بما يستجيب لأفقهم العقدي ولبعض الانتظارات السياسية الرسمية والشعبية. من المفيد هنا التذكير بمقتطف من ذلك التصريح يؤكد أن الموقف كان نتيجة لعملية مراجعة فكرية أخضع لها القرضاوي نفسه، حيث جاء على لسانه القول بأن " المجتمع السني ليست لديه حصانة ثقافية ضد الغزو الشيعي، فنحن العلماء لم نحصن السنة ضد الغزو المذهبي الشيعي لأننا دائماً نعـــمل بالقــول "أبعد عن الفتنة لنوحد المسلمين"وتركنا علماء السنة خاوين".
يبدو القرضاوي قلقا كأشد ما يكون القلق على مستقبل السنة السياسي في عالم "يغزوه" الشيعة، والرجل الذي كان طيلة العقدين الأخيرين يواجه سهام الوهابية المتشددة وضغط الحكومات "السنية"، كان إلى حد اليوم أبعد علماء الدين عن الجدل. لم يعد بالإمكان البقاء على الحياد في "الحرب" الدائرة. ومن جهتها فإن الأوساط الشيعية الرسمية والعلمائية التي كانت تصرح باحترامها للشيخ القرضاوي بدت شديدة التوتر في ردودها على تصريح الشيخ القرضاوي، وإن الناظر إلى بيان وكالة مهر الإيرانية الرسمية (13 سبتمبر 2008) ليهوله ما يمكن أن تصل إليه الشتيمة السياسية. هم أيضا خاب أملهم في القرضاوي وكانوا يظنونه أقرب علماء السنة إليهم، خاصة بعد تصريحات سابقة بمساندة "حزب الله" اللبناني وتأييد العمليات الاستشهادية في فلسطين ودعوة الدول الاسلامية للوقوف مع ايران ضد أي هجوم أمريكي-اسرائيلي عليها ومساندة حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية.
وبما أنه لا يمكن في صراع شديد التعقيد كالذي نعيشه اليوم أن نتلافى اختلاط الأبعاد، فقد استفاقت الكثير من النعرات وانفجر التعصب المذهبي واتخذ أحيانا شكل مذابح دموية سبقها تكفير متبادل. من هذا المنطلق تبدو الحرب الإعلامية وحرب قراصنة الأنترنت السنة والشيعة اليوم أهون أشكال هذا الصراع وأكثرها سلمية، غير أنها تبقى مع ذلك شديدة الخطر بحكم تغذيتها للتباعد بين أنصار المذهبين وتبريرها للكثير من التعديات وأعمال الثأر والإنتقام.
يوازي الصراع الإفتراضي اليوم، الذي تجسم في اختراق متبادل وتدمير لمئات المواقع الشيعية والسنية على الشبكة، صراع آخر أكثر دموية على الأرض. عندما ألقى القرضاوي بتصريحه كان يرى دون شك أبعد من السجال المذهبي. الأمر لا يتعلق بتاتا بسب الشيعة لصحابة النبي وعدم إقرارهم بكمال القرآن كما جاء في حديثه، بل بصراع سياسي ذي أبعاد استراتيجية عميقة على التوازنات القائمة في العالم الإسلامي. اما محرر وكالة مهر الرسمية للأنباء الذي "لا ينطق عن الهوى" حتما فقد وجد المرور من الجانب المذهبي إلى الجانب السياسي والعرقي أمرا أكثر يسرا فانساق في التهوين من المساهمة التاريخية للعرب ولمصر بالذات في الصراع ضد الصهيونية نازعا عنهم وعنها أية أسبقية في هذا المجال. كان بإمكانه أن يرى أنه حين كانت القوات العربية المصرية تنازل العدوان الثلاثي وتخوض الحرب تلو الأخرى ضد إسرائيل كانت إيران الشاهنشاهية في الجانب الآخر تماما.
ليس من المفيد هنا أن نذكر بكل أبعاد الصراع الراهن ذي الجذور البعيدة بين الشيعة والسنة -والذي لا يزال وربما بقي متقدا إلى حين بين الطرفين في مواقع عديدة_ من أفغانستان إلى لبنان مرورا بالعراق واليمن ودول الخليج الأخرى، ولا أن نذكر بالإضطهاد القاسي الذي تتعرض له الأقلية المذهبية السنية في إيران والأقلية الشيعية في بعض دول الخليج الأخرى. ليس من المفيد أيضا أن نذكر بالمذابح المتبادلة في العراق وباكستان بين أتباع المذهبين ولا بدور الأجهزة السرية الأمريكية والإسرائيلية وأحيانا العربية والإيرانية في إذكاء نار ذلك الصراع. غير أنه بإمكاننا أن نطرح من الأسئلة ما يوضح الطبيعة الحقيقية للصراع: هل كان الوضع سيتغيرا لو أن إيران كانت وهابية وبقية دول الخليج شيعية إمامية؟ هل كان الوضع، في عمقه التاريخي، سيختلف لو أن معاوية ويزيد كانا من أنصار آل البيت وبقية رموز الشيعة التاريخيين سنة معارضين من قتلة للحسين؟ هل كان الوضع سيختلف لو أن "تيار المستقبل" هو الذي حقق الإنتصار على إسرائيل وأن "حزب الله" كان في الجانب الآخر؟ كنا سنشهد الصراع نفسه، بذات الأدوات، وذات القسوة، وذات الدموية.
يبدو الصراع سياسيا بالدرجة الأولى، في حين أن الحدة المذهبية لا تبدو سوى أحد وجوهه الأكثر تعقيدا. في صراع من هذا النوع تستفيق كل أشكال التعصب العرقي والقومي، تلقى التهم على الطرف المقابل بعد جهد تكفيري حثيث يسبق عادة المرور إلى المرحلة الدموية. يحترق الجميع في أتون حرب عبثية وعداوة مذهبية وهمية ليس في واقع الأمر سوى غطاء لما هو الشيء الحقيقي الوحيد: الصراع الإستراتيجي والقومي. توقفت إيران منذ ردح من الزمن عن لعب دور المحرض على "ثورة المستضعفين" وغدت قوة صاعدة ذات طموحات إمبراطورية. لا أحد يصدق اليوم أن البرنامج النووي الإيراني سلمي بالكامل. وفي المقابل أصبحت مواقف البلدان العربية (وهي مصادفة سنية في الغالب) مهووسة بخطر"التمدد الإيراني" ومستعدة لكل الأدوار في سبيل درئه وحفظ العرش والمذهب. من جهة أخرى تحقق الطريقة الإيرانية النجاح تلو الآخر وتبدو الرؤية الإستراتيجية شديدة الوضوح، في حين يظهر العالم العربي مشتتا ممزقا غير قادر على رؤية سبيله بوضوح. من المتوقع أن دولا اعتقدت العراق عدوها الأول فساهمت في تحطيمه ثم أقرت بأنها أخطأت التقييم، ستجد نفسها مخطئة من جديد باعتبارها إيران الخطر الأساسي على وجودها وبنائها تحالفات على هذا الأساس.
يضيع وقت ثمين في خضم صراع وهمي من المفترض أن يحله مبدأ بسيط هو احترام الرأي المقابل وعدم تغطية المصالح الضيقة بما يخرج التنافس السياسي من فضائه الطبيعي. تستنجد الأطراف المتقابلة بكل ما يمكن أن يزيد في حظوظ انتصارها، وتلعب في الأثناء بكل النيران الممكنة. يستغرق الكثير من شبابنا في هذا الصراع ويحاولون إخضاع الواقع لقراءات منحازة لتاريخنا، يعتنق الكثير منهم نظرية "الفرقة الناجية" فيصبح المرور كأسهل ما يكون نحو تمظهرات أخرى للصراع هم في الحقيقة وقودها. تهون الحياة البشرية في خضم ذلك فيصبح القتل والقتل المصاد خبزنا اليومي. كيف يمكن لمسلم أن يبرر تفجيرا انتحاريا في مسجد أو سوق؟ وأن يقسم المساجد إلى شيعية وسنية؟ وأن يحدد من يستحق الحياة ومن يستحق الموت؟ لا يمكن أن تكون مسلما عندما تعوزك الإنسانية. ولا يمكن أن تكون شيعيا أو سنيا إذا لم تكن مسلما. ولا يمكن أن تكون إنسانا عندما لا تغضب للظلم ولا تتعاطف مع عذابات بقية البشر.
أصبحت السنية والشيعية المذهبيتان بوتقتين لهويتين منفصلتين ومتصارعتين في عالم افتراضي وهمي، أما الواقع فيسبح في اتجاه آخر. لا تقدم الهويتان أية إجابات عن تحديات حياتنا الراهنة ولا يمكن التمييز بينها بتاتا من حيث قدرتها على الاستجابة لانتظارات شعوب يطحنها الجهل والفقر والاستبداد. هل بإمكان أي منا أن يحدد مذهب شخص أو مجموعة ما من خلال موقفها من الأزمة العالمية المالية الراهنة؟ أو أن يتوقع سنية أو شيعية حكومة معينة من خلال موقفها من الصراع ضد الصهيونية والعدوان الأمريكي؟ إن شيئا يبقى مهما اختلطت الأمور شديد الوضوح: لا تتساءل أي من الدول المعنية عن مذهبها عندما تنضم لحلف ما ضد "خطر" ما. لم تسائل إيران شيعيتها عندما عندما صادقت على "إيران غيت أو عندما حطمت العراق وأفغانستان أو عندما شرعت في وضع أسس برنامجها النووي. وفي المقابل لم تسائل دول عديدة أخرى سنيتها عندما ساندت حرب السنوات الثماني الظالمة التي شنها العراق على إيران. في كثير من الأحيان، وبالحماس نفسه، كان شيعة يقاتلون شيعة وسنة يقاتلون سنة، ولم يغير ذلك من الوضع شيئا.
ينبغي على المرء أن يكون شديد الحمق لكي يعتقد أن بالإمكان حل الصراع المذهبي في الأمد المنظور، ولكن ينبغي عليه أيضا أن يكون أكثر حمقا ليحدد كل مواقفه في الواقع السياسي والإستراتيجي الراهن على أساس انتمائه المذهبي. يستمر السنة عوضا عن ذلك في الدفاع عن معاوية، ويستغرق الشيعة في سب صحابة النبي وتأليه علي والحسين، ويفلت الأمر من الجميع. ولكن أن يأخذ الأمر كل هذه الحدة يبدو طبيعيا في وسط لم يتربى على احترام المخالف من الآراء لذلك فإن المسالة تحتاج إلى مجهود تربوي عميق وبعيد المدى. في خضم هذا المجهود التربوي ينبغي التأكيد أن الأمر سياسي بالدرجة الأولى وأنه لا داعي لاستنفار كل التاريخ والجغرافيا من أجل صراعات قد لا تمثل في غالب الأحيان سوى مصالح ضيقة. كما ينبغي، وهذا ليس بالأقل أهمية، الإقتناع بأن ترسيخ أسس الفكر الديمقراطي القائم على قبول أفكار الآخر مهما كانت، وسيادة القانون، والدولة العادلة والمجتمع المتضامن والحكم المتداول هو الحصن الحقيقي الوحيد أمام كل أخطار التفكك التي تنتابنا وتهددنا في عقر وعينا والتي لا تستنكف عن إيقاظ التعصب المذهبي المقيت والقاتل.

mardi 16 septembre 2008

حصاد السبع العجاف





سبتمبر 2001- سبتمبر 2008
حصاد السبع العجاف




عدنان المنصر

مقال صادر بصحيفة الموقف التونسية العدد 465 بتاريخ 19 سبتمبر 2008

وبصحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 24 أكتوبر 2008

قبيل الحادي عشر من سبتمبر من سنة 2001، لم يكن أحد يتوقع أن يرى أمريكا تقصف في عقر دارها وأحد أهم رموزها ينهار تحت وطأة عملية لم تعوزها الجرأة ولا حسن التنظيم. من منا لم تهزه تلك المشاهد ولم تنطلق داخله بعض أحاسيس الشماتة لرؤية أمريكا الجريحة ذليلة منكسرة ولو لبعض الوقت؟ منذ ذلك الوقت يبدو أن أشياء كثيرة تغيرت، فتلك العملية، بغض النظر عن توصيفاتها المختلفة، لم تزد واقعنا إلا سوءا وأمريكا إلا صلفا والإستبداد إلا عنفوانا.

سبع سنوات مرت منذ تلك الهجمات التي بإمكاننا القول اليوم بانها، مثل التي جاءت من بعدها، كانت "إرهابية". ليس المقصود هنا إطلاق حكم أخلاقي قيمي عليها بل توصيفها سياسيا بالإستناد إلى المفهوم الأكثر حيادية للإرهاب، وهو العمل الذي يهدف، عن طريق عمل فجئي وعنيف ومعد بسرية، إلى إحداث تغيير في سياسات الدول أو المجموعات. هل بإمكاننا اليوم أن نرى ما إذا حققت تلك الهجمات أهدافها المضمنة في تعريف "الإرهاب" ذاك؟ على الرغم من أن الكثير من المحرجين يحاولون تأجيل الأمر بداعي "الغموض" و"الطابع الوقتي" للتوازنات الراهنة، إلا أن الأمر أكثر بساطة ووضوحا وشؤما مما يحاولون الفرار منه. إذا كان المقصود من "إحداث تغيير في سياسات الدول والمجموعات" يعني، من ضمن ما يعنيه، اشتداد الهجوم علينا من قبل الدول التي استهدفتها تلك الهجمات، فإن النجاح كامل وباهر. إن جردا بسيطا للحساب يعطينا تقييما بديهيا للوصفة السحرية التي ابتدعها منظموا ومساندوا ومنظروا تلك الهجمات: منذ ذلك الحين أعيد احتلال بلاد كان يظن أنها تحررت، واحتلت بلاد كان يعتقد أنها البوابة الشرقية لعالمنا العربي، وتركز تأثير الأجهزة السرية والعلنية الأمريكية في كل بلادنا بلا استثناء. من سوء الحظ أننا، في خضم الواقع الناشئ عن "الحرب ضد الإرهاب" قد أضحينا أكثر ضعفا ودونية مما كان عليه الأمر قبل تلك الهجمات، ولا يبدو أن اتجاه البخار سينقلب في المدى القريب، مهما اجتهد الظواهري لإقناعنا بذلك. قبل عشر سنوات من تلك الأحداث كان الغرب قد أفاق على تبخر العدو الإستراتيجي الذي قامت على مواجهته كل السياسة العسكرية والجهد الديبلوماسي لدول الغرب الرأسمالي مجتمعة منذ الحرب العالمية الثانية. لم نكن نتوقع أن يجد الغرب عدوا استراتيجيا جديدا بمثل تلك السرعة وأن ينجح في تجيير كل السياسة الدولية ضده. وفي المقابل فقد بدت القاعدة كمن يفقد ميدانا ويكسب آخر، في حرب مواقع غير تقليدية لم تشهد البشرية مثيلا لها طيلة وجودها. منحت العولمة للطرفين المتصارعين أدوات تقاتل جديدة زالت معها الحدود وتبخرت السيادات. أصبح عاديا أن نتقبل نبأ قصف طائرات أمريكية لأهداف إرهابية في اليمن أو باكستان، وأن نتقبل في الآن نفسه أن تضرب القاعدة في أماكن لم نحسب أن لها وزنا في خريطة الصراع الجديد. حيث ما قلبت الأمر وجدته محبطا. كم عدد "الإرهابيين" الحقيقيين الذين طالتهم العمليات العسكرية والأمنية الغربية؟ وفي المقابل كم عدد "أعداء الأمة" الحقيقيون الذين طالتهم عمليات القاعدة؟ لا يبدو أن لذلك قيمة تذكر في نظر الطرفين، فالهدف لم يكن مطلقا، فيما يبدو، التفريق بين العدو الحقيقي وضحايا الصدفة. الأمريكيون وجدوا بعض الحل لمشكل التصنيف ذاك، فقد أصبحت بياناتهم منذ مدة تتحدث عن "الإرهابيين المفترضين"، أما الطرف المقابل فيقوم بتوزيع أوسمة الشهادة التي لا يبدو أنها تغير في واقع الضحايا شيئا. من اللافت أن كلا الطرفين وجدا الحل نفسه ، ففي حين يضع الأول الأمر على عاتق حسن النية، فإن الثاني يعول على تفهم الله لأخطاء المنفذين.
كم كنا نود أن يأخذ الصراع شكله العتيق الذي تعودنا عليه، دول تتصارع، دول تساند هذا الطرف أو ذاك، وأخرى تتفرج. لنعترف أن لا تقليدية الصراع الراهن أمر يرهقنا أشد الإرهاق. فعلاوة على طابعه غير المحسوس غالبا، يضعنا هذا الصراع في الموقعين المتقابلين في الآن نفسه: نرفض أساليب "الإرهاب" وتبريراته لأننا ندفع من حياتنا ثمنها القاسي، ولكننا نتحمل بعض وزره لأننا ننتمي، شئنا أم أبينا، إلى نفس الثقافة التي يقال لنا أنها أنتجت من جملة ما أنتجت، "الإرهاب". بالنسبة "للإرهاب" نحن مشبوهون. بالنسبة لمحاربيه، لسنا في محل أقل شبهة إطلاقا. كم تبدو مضنية وضعيتنا فنحن فيما يبدو لا قدرة لنا على اختيار موقعنا، وإذا ما قدر لنا أن نختاره فإننا نجني به عداء الجميع في الوقت نفسه. إننا ببساطة القدر نتلقى الضربات من الجانبين، هل سلط علينا حكم بات بأن نكون إما إرهابيين وإما عملاء للغرب؟ الأمر يتخطى الواقعية ولكنه، في بعده القاسي، واقعي كأبشع ما يكون الواقع.
هل نريد من التصريح بعدم رضانا عن موقعنا أن يحيدنا الجميع وأن نواصل حياتنا كما كانت، دون رجات ولا أزمات؟ المسالة، برغم التوصيف بالإنتهازية الذي قد لا ننجو منه، أعقد من ذلك. مأتى القلق أننا نجد نفسنا في أتون صراع لم نرده ولكنه يصهرنا، لم نرده رغبة في السلامة ولكن لأننا نعتقد أنه عبثي إلى أقصى الحدود، لأن منطقه لا ينبع ببساطة من داخله. هل بإمكان الغرب المصطف اليوم كالبنيان المرصوص في "الحرب على الإرهاب" أن يأمل أن حربه تلك ستنتج عالما أكثر استقرارا؟ هل بإمكان "الإرهاب" في المقابل أن يجعل من أعمال التفجير خريطة طريق لصراعه ضد الغرب؟ الأمر لا ينبع من هذه الطريقة في النظر للأشياء بقدر ما ينبع من اعتبارات نراها ولكننا لا نستطيع لمسها لأنها متحولة، ينتج بعضها بعضا، وفي خضم ذلك التحول يضيع الأصل وينتج "الإرهاب" مضاداته في حين تبلى المضادات بالمناعة المكتسبة المتزايدة "للإرهاب".
سيكون بإمكان الصراع الراهن أن يتبجح بأنه كان من أهم عناصر تحقيق العولمة. لم يعد سرا أنه في الآن نفسه، سعت الولايات المتحدة إلى تكثيف مراقبتها المخابراتية في كل دول العالم دون استثناء، وإلى فرض تغييرات محسوسة في برامج التعليم في الدول الإسلامية، وإلى تكثيف مراقبة الأفراد في تنقلاتهم ومعاملاتهم وحياتهم الأسرية، وتطوير أساليب عسكرية جديدة أكثر تلاؤما مع تحديات المرحلة، والإحاطة بوسائل الإعلام من أجل تغطية دعائية لسياستها، وربط جميع المساعدات والتعاملات المالية مع الدول بمدى انخراطها في منظومة "الحرب على الإرهاب". من بإمكانه اليوم إنكار أنه أصبح، رغما عنه وعن سيادة الدولة التي تحيطه بعنايتها، مواطنا أمريكيا بدرجة ما. تتدخل الأجهزة الأمريكية في تحديد أنظمة السفر ومعايير المعاملات المصرفية وطرق مراقبة المشبوهين (أي نحن جميعا) وتتولى في أحيان كثيرة أمر اعتقالهم خارج التراب الأمريكي وتوكل أمر استنطاقهم وتعذيبهم إلى من فرض كفاءته في هذا الميدان أكثر من غيره. ينبغي أن نعترف بأن ذلك الجهد كان خارقا وخارج دائرة التوقع منذ سبع سنوات وأن أهدافه الأساسية قد تحققت، ونحن نحسب أن أهدافه الأساسية ليست مطلقا منع القاعدة من تنظيم هجمات أو تحقيق عالم أكثر أمنا، بل إنتاج عالم جديد تمسك فيه الولايات المتحدة بمقاليد كل شيء، بكل المعلومات وكل المقدرات، مما يسهل تجيير جميع الطاقات لصالحها وفرض تأثيرها غير القابل للمقاومة على الكيانات الأخرى، حليفة كانت أو متحفظة. نكاد نجزم، لولا اعتراف القاعدة، بأن تلك الأجهزة هي من خطط للأمر برمته، ولكن هذه قضية أخرى. ما نريد تأكيده هنا هو ازدهار صناعة "الإرهاب" إلى حد لم نتصور أنها ستبلغه. تقوم صناعة "الإرهاب" على مكون أساسي توفره صناعة رديفة أخرى هي صناعة الخوف. وبين الخوف من "الإرهاب" و"الإرهاب" بدعوى القضاء على الخوف نقطع الخطوات المتبقية لنا نحو الزمن الأمريكي الكامل.

يضعنا الغرب في موضع المتهم باستمرار، إما لتخلفنا أو لثقافتنا "الراعية للإرهاب" أو لنفسيتنا المهووسة بالعداء له. وفي المقابل نحسن نحن لعب هذا الدور كما لم نحسن غيره. نلتفت داخلنا ونتساءل: من حق القوم أن يلومونا، فثقافتنا "تحرض على الإرهاب". ينتابنا الشك في فهمنا الذي كان إلى حد قريب بديهيا لأنفسنا، لواقعنا ولثقافتنا. ليس المقصود من وضعنا موضع الإتهام أن نلفظ تلك الثقافة فهم يحتاجون باستمرار إلينا حيث نحن، ليفهمونا كما يريدون. تنهال علينا الضربات وعندما نرفع أيدينا لنتقي بعضها تتأكد التهمة ويشرعون في تصفيتنا. في كلتا الحالتين يتهددنا الزوال.
لا يضعنا الآخرون في موقع أكثر سكينة باتهامنا واستهدافنا، لأننا "مسلمون سيؤون"، "منافقون ومنبطحون لهيمنة الغرب". لا يراد منا أن نكون مسلمين جيدين لأنهم سيفقدون بذلك "تميزهم" ومشيخات الرماد التي شيدوها على جثثنا. نلتفت مرة أخرى داخلنا ونتساءل: هل نحن سيؤون إلى هذه الدرجة؟ يتسمعون إلى تساؤل البعض منا فينهالون عليه بفيض تقواهم وجهادهم، قد ينجحون فيبلغنا بعد حين أنه انتقل إلى الضفة الأخرى، و"يحتسبونه عند الله شهيدا".
يتمعش الإستبداد من الوضع فيستلمنا ونحن على خوفنا ذاك، فيمتص ما بقي من الحياة داخلنا، ويلقي بنا بعد ذلك مكرهين في زمرة الرعية الراضية المرضية. لن يكون بالإمكان بعد ذلك أن نطلب لأنفسنا أو لغيرنا شيئا، يكفي أننا نتفس بين الحين والآخر. من بمقدوره اليوم أن يناقش استفادة الإستبداد من "الإرهاب"؟ فقط الإستبداد يشكك في ذلك (ومعه "الإرهاب" أحيانا). تكتمل حلقة الفناء من حولنا وقد اندثرت معالم حلم قديم بأن نكون مواطنين في دولة مواطنة. تلتقط دولة الرعية أنفاسها بعد محنة المساءلة الديمقراطية وتجد نفسها، مجددا، في وضعها المريح. تلعب دورها في الحرب على "الإرهاب" كأفضل ما يؤمل منها، تلتقط في الأثناء المناوئين لها وترمي بحقوق الناس إلى الجحيم. بعد ذلك يصبح بإمكانها القول أن القطيع بخير، "بلدة طيبة ورب غفور".
لا تستهدف "الحرب على الإرهاب" "الإرهاب" وإنما السيطرة على الأفراد بعد أن تكون قد قضت على كل روابط التضامن بينهم. تحاصر المميزات الثقافية في زوايا الصراع المظلمة فيبدأ مسار تذويب الهويات وتقترح العولمة الأمريكية بديلا لذلك كله. يضيق الإسلام في أثناء ذلك بمعتنقيه ويتحول عوضا عن كونه هوية منفتحة على الإنسانية ومتسعة باستمرار إلى بوتقة يحتكرها "المسلمون الجيدون" بعد أن قرروا أنهم من تنطبق عليهم الصفة. تنحسر حركة الحقوق في خلال ذلك تحت وطأة استبداد الدول التي اغتنمت فرصة وجودها ويصبح أقصى أمل الفرد أن يعود إلى بيته في المساء دون أن يكون ضحية قصف أو تفجير أو إيقاف عن طريق الخطأ. في خضم هذه السريالية القاسية يفقد الإنسان بوصلته ويعلم أنه لن يكون بإمكانه أن يعيش إنسانيته كما تعود في الماضي. الآن أصبح يفهم أن "الإرهاب" و"الحرب على الإرهاب" والإستبداد وما خفي من ملمات إنما تستهدفه كإنسان يراد له أن يكون قطعة بلا روح ولا إرادة في متاهة لا يعلم حدودها ولا مخارجها
.

mardi 2 septembre 2008

تأبط نفطا

برلسكوني في بنغازي
تأبط نفطا
عدنان المنصر
مقال صادر بصحيفة الموقف التونسية العدد 463 بتاريخ 5 سبتمبر 2008


تاريخية بحق كانت زيارة برلسكوني لليبيا، ليس لأنها نادرة ومهمة، بل لحضور التاريخ المكثف فيها. جاء الرجل حاملا
معه،"كبادرة حسن نية"، تمثال حورية شحات الذي عثر عليه علماء آثار إيطاليون في ليبيا في 1913 وظل منذ ذلك الزمن معروضا في متحف ماسيمو بروما. كما جاء الرجل معتذرا عن عقود الإستعمار الثلاثة التي عانت خلالها المستعمرة الإيطالية السابقة أبشع أنواع الإستغلال والتقتيل والتخريب. ولأننا عرب ومسلمون ومستعمرون سابقون، فإننا نعفو عند المقدرة. من هذا المنطلق لا يمكن أن نرد الرجل خائبا وقد جاء إلينا معتذرا، حزينا أسفا.

إن تتبعا بسيطا لتفاعل الصحافة العالمية مع الزيارة ودلالاتها ليثير ملاحظة هامة. ففي حين ركزت الصحف العربية على مسألة الإعتذار واعتنت برمزية إعادة التمثال وانساقت في اعتبارات تعطي الأولوية للماضي، فإن الصحافة الغربية أكدت على المغانم الإيطالية من هذه الزيارة إلى الحد الذي بدت معه وكأنها غزوة جديدة تعطي لإيطاليا بالسلم ما عجزت عن أخذه بااضغط والقوة. والأمر في الحقيقة لا يعبر عن توصيف أحادي الجانب للواقع بقدر ما يعبر عن انتظارات كل طرف من اتفاقية الصداقة الايطالية-الليبية الموقعة في بنغازي يوم 30 أوت الجاري. ففي حين عبرت الصحافة العربية عن عمق الجرح الإستعماري وعن حاجتنا إلى ما يخفف عنا وطأة الظلم التاريخي، فإن الصحافة الغربية لم تول أهمية لغير الجانب الإقتصادي فانساقت في تعداد المكاسب الإيطالية من هذه الإتفاقية: عقود الطاقة، الإستثمارات، مكافحة الهجرة السرية، والحرب على الإرهاب.
جاء برلسكوني إلى ليبيا بعد ساركوزي وقد أسالت لعابه دون شك العقود التي فازت بها فرنسا إن في مجال التسلح أو في ميدان الطاقة. لكن الرجل الذي لم تسمح له تقلبات السياسة الداخلية الإيطالية دائما بإنهاء كل المهام التي بدأها ظل يعتبر تحسين العلاقات مع ليبيا إحدى أهم أولويات سياسته حتى عندما لم يكن في سدة رئاسة الحكومة. فهو الذي بدأ مسار إعادة تمثال حورية شحات بإمضائه كوزير للثقافة على القرار منذ 2002 ذلك القرار الذي أثار الكثير من اللغط داخل إيطاليا وبخاصة داخل أوساط علماء اللآثار والمؤرخين. وكما فعل ساركوزي ولكن بصراحة أكبر، اعترف برلسكوني دون مواربة بالجريمة التاريخية ملقيا بالمسؤولية عنها على الأجيال السابقة. وفي كلتا الحالتين كان اليمين الأوروبي الذي يتحمل تاريخيا المسؤولية السياسية والأخلاقية للإستعمار هو المبادر للإعتذار في حين أن اليسار الأوروبي، الأقرب موضوعيا من هذا "الفعل الحضاري" لم يجرؤ على السير في دربه. ليس في نيتنا أن نفاضل بين اليمين واليسار فليس هذا مجال المفاضلة، وإنما أن نبين مقدار براغماتية أوروبا في التعامل مع أكثر المسائل حساسية، وأهمها بلا شك المسألة الاستعمارية. ينظر اليمين الأوروبي إلى الوضع بطريقة جد بسيطة: هناك تنافس اقتصادي يشتد، هناك حاجة متزايدة لتأمين إمدادات الطاقة مع تصاعد نذر مواجهة جديدة قد توقف تدفق نفط الخليج، هناك جحافل من الحفاة العراة يغزون سواحل أوروبا من الجنوب يجب ردعهم، وهناك إرهاب يجب أن يكافح. الأمر بهذه البساطة، فلم المكابرة؟ بعض الأرقام يمكن أن تجعلنا نتفهم هذه الطريقة في النظر إلى الوضع: تمثل ليبيا المنتج الثاني للنفط في إفريقيا بعد نيجيريا (قبل الجزائر) وهي تملك طاقة إنتاج تقارب المليوني برميل يوميا، في حين أن مخزونها النفطي يناهز الخمس وأربعين مليار برميل. أما بالنسبة للغاز الطبيعي فإن المخزون المعلوم لا يقل عن 1300 مليار متر مكعب بغض النظر عما ستسفر عنه أعمال التنقيب الجديدة. من هذا المنطلق يمكن أن نفهم لماذا اعتذرت إيطاليا للشعب الليبي ولم تعتذر للشعب الأثيوبي، فالأمر هناك لا يستحق العناء.
عندما جاء الإستعمار إلى بلادنا، كان يحلو للدول الأوروبية أن تردد أن الأمر استدعته ضرورات تمدين الشعوب الهمجية، وبذلك الداعي أبيدت أجيال كاملة من الجزائريين والليبيين في معسكرات الإعتقال والمنافي والمحتشدات، كانت "الحضارة" تستحق ذلك العناء. وفي أثناء ذلك كانت خيرات أرضنا تنهب وتهرب إلى مصانع أوروبا وأسواقها، ومزارع أجدادنا تصادر وتوهب للمعمرين الفاتحين. من جانب أوروبا كانت هناك أيضا "تضحيات"، فقد أنفقوا الكثير لإخضاعنا والمحافظة علينا مقهورين. وعندما فاقت تكلفة الإخضاع مرابيح الغزو حملوا متاعهم (ومتاعنا) ورحلوا. ولأن أوروبا واقعية وعقلانية فإنها تخضع سياساتها دائما لمصالحها، فعندما استوجب الأمر تمجيد الإستعمار كضرورة للتمدين وكحاجة للحضارة، كان خطابها مسخرا، إن يمينا أو يسارا، لترسيخ ذلك في أذهاننا. أما اليوم، فلم يعد هناك من يقبل بمثل تلك التبريرات. ولأنهم يدركون عقدنا، ما ظهر منها وما بطن، ويعرفون جيدا ما يحتاجون إليه وكيف يبلغونه، فقد دخلوا بيوتنا من أبوابها: أقبلوا معتذرين أسفين وعيونهم على ما غفلوا عنه في الماضي من الخيرات. في كلتا الحالتين لم يكونوا صادقين وفي كلتا الحالتين أيضا كانوا يسخرون من ذكائنا.
إن الإعتذار الحقيقي والحضاري فعلا هو ذلك الذي يكون قد وقر في القلب وصدقه العمل. ليس من الضروري هنا أن نذكر بنظرة الغرب لنا، وهي نظرة لم تتغير منذ قرن ونصف إلا قليلا. بالنسبة إليهم لا نزال همجيين، في حين لا زالوا يعتقدون أنهم الناطقون باسم الحضارة والمدنية. ولأن عالم اليوم لا يولي قيمة لما يخرج عن نطاق المصلحة، فإن من مصلحتنا أن لا نعول على يقظة الضمير هذه تعويلا كثيرا ولا أن نجعل من الإعتذار عن الإستعمار عقدة وجودنا. لا يفيد كثيرا أن نظل متشبثين باعتذار نعلم أنه قد لا يعني في نظر الناطقين به شيئا، في حين من المتاح الإصرار على ترسيخ التفهم لخصوصياتنا الحضارية لدى الأجيال الأوروبية الشابة. كما لا يفيد كثيرا أن ننظر للحاضر بمرآة الماضي دائما، في حين أن الأمر أصبح يستدعي، مثلما فهم ذلك الأوروبيون، النظر إلى الماضي بمرآة الحاضر. لا يبدو تحقيق ذلك متاحا في المدى المنظور، لأن المسألة، كما تتجلى لنا في كل مرة، هي قبل كل شيء "مسألة كرامة
".

lundi 24 mars 2008

تزاحموا تراحموا


في استعمالات الدين:

تزاحموا تراحموا !!!

عدنان المنصر


دقائق حرجة جدا مر بها زعماء 9 دول افريقية يوم الأربعاء 19 جانفي في مراسم افتتاح "مسجد القذافي الوطني" بالعاصمة الأوغندية كامبالا عندما أدى تدافع بين الحراس الشخصيين للزعيم الليبي والرئيس الأوغندي إلى اندلاع شجار كاد يتحول إلى مجزرة بعد سحب الحراس لمسدساتهم، وهو ما كان سيؤدي، لا قدر الله، إلى فقدان قارتنا العزيزة لأكثر زعمائها ديمقراطية وشفافية وتفانيا في خدمة شعوبهم.

كانت المناسبة التي تداعى بسببها ذلك الحشد الإستثنائي من الزعماء إلى العاصمة الأوغندية بالغة الأهمية. فقد كان الأمر يتعلق بتدشين أكبر مساجد أوغندا الذي شرع في بنائه منذ سبعينات القرن المنصرم الديكتاتور عيدي أمين دادا، ولم يتسن الفراغ منه سوى بمساعدة ليبيا الحثيثة. غير أن مجهودات أكثر من عقود ثلاثة كادت تضيع في دقائق ست وهي مدة "المعركة" التي اندلعت بين الحراس الشخصيين للزعيمين الليبي والأوغندي. وفيما يبدو فإن "المعركة" اندلعت عندما حاول حراس العقيد منع الرئيس موسيفيني من دخول المسجد قبل العقيد أو بالتزامن معه، رغم أنه رئيس البلد المضيف الذي يقع المسجد على أراضيه. ولكن من جهة أخرى، كيف يمكن أن يكافأ العقيد على ما أنفقه من أموال إذا لم يكن الداخل الأول للمسجد، إضافة إلى ذلك فإن الزعيم الذي يقدم نفسه كزعيم للقارة ومؤسس لوحدتها العظيمة وداعية للإسلام لا يمكن أن يقبل بوجود أحد معه في الصورة، وهذا منطقي بالنظر إلى كل تلك الإعتبارات. تلك بعض أسباب "سوء التفاهم" التدشيني، ولكنها ليست كل أبعاده حتما.

العقيد زعيم إفريقي، لا يفتأ يتنقل في ربوعها بمناسبة ودون مناسبة، يلقي خطبة جمعة هناك، يفتتح مسجدا هنا، يتوسط لحل نزاع في مكان ثالث، ويؤنب الفرقاء على خلافاتهم التي تؤخر تحقيق الحلم العظيم بوحدة القارة. نتفهم هذا التوجه الإفريقي للعقيد، لأننا أفارقة أولا، ولأننا لمسنا الخيبات المتتالية التي منيت بها السياسة العربية للزعيم الليبي وقسوة الحظر الإقتصادي الذي سلطه الغرب والكثير من العرب على ليبيا. لم يبق أمام العقيد، فعلا، سوى إفريقيا. هذه القارة مهيأة، كما يقول البعض، لتقبل الزعامة الليبية. فليس هناك من ينافسها عليها أولا، كما أن الجميع فيما يبدو قد نسيها وأهمل مشاكلها، إضافة إلى أن الطفرة النفطية مكنت ليبيا من موارد ضخمة لا بأس أن ينفق بعضها على الإخوة السمر. لا عائق أمام زعامة القارة إذا فهمنا من ذلك حرصا، يبدو واضحا، على حل الخلافات وتهدئة الصراعات التي لا تفتأ مشتعلة بين الدول وداخل الكثير منها، على هذا المستوى يحقق الزعيم الليبي نجاحات كثيرة باستعمال تأثيره المعنوي والمالي على الأفرقاء. بديهي أن الوساطة، حتى عندما لا تنجح، فإنها تضع الوسيط فوق الخلافات وتجعله في منزلة الحكم، وهو ما يحصل مع العقيد. العقيد يستخدم ذلك ولكنه لا يكتفي به، فهو يقدم نفسه أيضا كداعية إسلامي حيث لا يفتأ يحرص على نشر تعاليم الإسلام داخل القارة، بطريقته. هنا جانب آخر من هذه الزعامة لا ينبغي إغفاله. وبما أن الإسلام يتجاوز في حدوده القارة الإفريقية فإن ذلك المسار يضع الزعيم الليبي في موضع يبدو أنه يحبذه كثيرا منذ فترة، موضع المنافس لدور السعودية في هذا الخصوص. قد نفهم جانبا من حرص الزعيم الليبي على اختتام أشغال بناء المسجد من هذا المنطلق، فالسعودية هي التي بدأت المشروع مع عيدي أمين دادا في 1972، لكن الإطاحة بالدكتاتور الأوغندي عطلت المشروع، وها هو ينجز اليوم على يد ليبيا. نفهم ذلك أيضا من خلال النقد الذي ما فتئ العقيد يوجهه للسعودية التي تحتكر، حسب قوله، الحج والكعبة وتوجههما لخدمة سياستها في حين أنهما مشاع للمسلمين.

لماذا يأخذ الإسلام كل هذه الأهمية في الدعاية الرسمية للدول؟ سيجيب الجميع أن المسألة متعلقة بقضية الشرعية، وهو ما نعتقد فيه أيضا. لا يحتاج هذا الجانب من الموضوع إلى بيان كثير. ولكن هذا هو الجزء الممتلئ من الكأس، فأين الجزء الفارغ؟ لعله يتمثل في عدم استناد هذه الأنظمة إلى المنبع الحقيقي للشرعية السياسية في عالم اليوم، وهي الديمقراطية. فالشرعية الدينية، مهما بلغت نسبة مطابقتها لواقع قناعة الدول والأنظمة، لا تكفي. إنها لا تكفي فقط، بل إنه عادة ما يقع الإستناد إليها للإيهام بأنها أهم وأفضل من الشرعيات الأخرى وأنها تبيح جميع السياسات التي قد يفهم منها تضييق على الحريات أو مصادرة لحقوق الشعوب في الحياة الكريمة. من يحتاج الحكام أكثر من غيره، بديهي أن الله لا يحتاج إليهم، وأنه لا يغنيه أو يفقره ما يفعلون. في هذا المستوى النظري، الشعوب هي التي تحتاج حكامها لقيادتها في معاركها ضد الفقر والأمراض والفساد. الله لا يحتاج إلى الحكام، ولكن الحكام يحتاجون إلى الله. لذلك نراهم ركعا سجدا، حاجين ومعتمرين، متزاحمين على "المبرات"، متمسكين ببعض الألقاب التي عفا عليها الزمن والتي لا تفتأ تصيبنا بالغثيان. هل يغني تأسيس مسجد عن تأسيس برلمان؟ وهل تعوض صلاة الجمعة الإنتخابات الديمقراطية؟ وهل تستطيع الإمامة أن تحل محل الزعامة السياسية؟ قد لا يكون أولوا الأمر مقتنعين في قرارة أنفسهم بأن ذلك ممكن، لكنهم يعرفون جدواه جيدا في وسط يسيطر فيه الشكل على المضمون. ماذا تستفيد تلك الشعوب من إيمان زعيم ما إذا كان إيمانه أو عدمه لا يغيران من حياتها البائسة شيئا؟ هذا يجرنا حتما إلى طرح السؤال المفزع: هل الديمقراطية مطلب حقيقي، بمفهوم الحاجة الواقعية، للشعوب؟ بمفهوم ما، يجب أن يكون كذلك، أما الواقع فأحكامه مختلفة.

من نفس مفهوم الواقع، لا يبدو أن الحكام في البلاد الإسلامية يؤسسون لممارسة جديدة. هم ينخرطون في نفس المنظومة الجاهزة التي صاغها السابقون، وإن كان بعضهم يبالغ أكثر من غيره في الإستناد إليها. بذلك ينتقل الصراع السياسي إلى ميدان ليس من المفترض أن يكون ميدانه. اقتناعا أو انتهازية يشكك جانب من المعارضين في حقيقة تقوى الزعماء ويقدمون، في خطابهم، الهم الديني على الهم الديمقراطي. وأكثر من ذلك، يكفر بعضهم بالديمقراطية التي جاءت بهؤلاء الزعماء، وكأنها هي التي جاءت بهم فعلا. وعندما يصلون إلى الموقع المراد الوصول إليه يستأنفون المسيرة ذاتها، يقفون على الأرضية ذاتها، يلتقط الإستبداد أنفاسه ويواصل طريقه بنفس العزم. يسبح الجميع إذا في ملكوت البنى الفوقية، وتبقى الديمقراطية والممارسة الشفافة للحكم والتصدي للمشاكل الواقعية للشعوب في الدرك الأسفل من النار.الديمقراطية تعني المحاسبة، أما حقيقة التقوى وزيفها، فأمر مختلف تماما لا يمكن التثبت منهما إلا خارج حدود الزمان. وطالما أن "بعض الظن إثم"، فالمتقي مؤمن حتى يثبت نفاقه.

كم يجب أن تتكرر المأساة حتى نفهم أن للحداثة السياسية ضوابطها وحقيقتها الخاصة، وأنها، إذا أرادت أن تكون حداثة فعلا، يجب أن تكون أدواتها مما ينفع الناس. إن أبشع الديكتاتوريات تلك التي تستند إلى عقيدة. المشكل ليس في العقيدة مطلقا. يمكن أن تكون المسيحية أو الإسلام أو حتى الوثنيات، يمكن أن تكون دينا أو إيديولوجيا وضعية، هذا ثانوي. نفس العقيدة يمكن أن تسند حكما مستبدا وأن تشرع لأكثر الحركات ثورية. لذلك فإن التعويل عليها في حكم الشعوب لا يبدو ذا طائل. من يستعمل الدين أكثر من غيره يربح أخيرا، ذلك ما يبدو عليه الوضع في البلاد المتخلفة، ليس هذا مجرد وصف لحالة معينة، بل قاعدة يبدو أن الجميع، أو بالأحرى الأكثر تأثيرا، يعولون عليها. من كلا المنظورين، الحاكم والمعارض، يبدو الدين كتلك الدجاجة التي تبيض ذهبا. وفي خضم ذلك كله يقع تناسي ما هو حقيقي. لماذا تثير السياسة الدينية اللغط أكثر مما تثيره السياسة الإقتصادية والإجتماعية؟ سيقول البعض لأن الشعوب لا تعرف مصلحتها، جواب سهل وجاهز لكنه لا يتقدم بنا أية مسافة إلى الأمام. الأمر يحتاج إلى كثير من الجهد والتربية حتى تفهم الشعوب أن الحلول يجب أن تكون من جنس المشاكل التي تسحقها وأن تتفطن إلى الخداع الذي تتعرض إليه كل يوم من أجل صرفها عما ينفعها. هل يعني ذلك إلغاء الديني تماما، هذا أمر لا يمكن بلوغه مهما تنافس في ذلك المتنافسون. المراد هو العودة بالسياسة لمربعها الأول، وكسر عملية الإحتكار التي يقوم بها كل طرف، حسب غاياته، للشرعية الدينية. في هذا المسار لا يبدو أن الحركات الدينية، أو ما اصطلح عليه بحركات الإسلام السياسي، هي العائق الوحيد أو الأكبر. من منطلقها، تبدو تلك الحركات في موقع من يرد الفعل على استغلال الأنظمة المفرط للحقل الديني حتى عندما لا يتطلب الأمر ذلك. ولكن أن تكون في موقع من يرد الفعل لا يعفيك من المسؤولية عن انعكاسات ما تأتيه. من جهتها فإن الأنظمة، عندما تحرم على بعض الأحزاب والحركات ولوج ذلك الحقل والإستقرار في ربوعه الوارفة، فإنها لا تمارس غير النفاق السياسي. هل تستطيع الأنظمة المذكورة، وبعضها كان إلى حد ليس بالبعيد ثوريا تقدميا، أن تتحمل تبعات الخروج من الحقل الديني ومواجهة خصومها ومعارضيها على حقول أخرى؟ ستتعرى تماما وستظهر عوراتها البشعة. بين الاستبداد المتلبس بالشرعية الدينية وبين الدين المتدثر بالسياسة لا يبدو أن الفارق كبير جدا. من هذا المنطلق يبدو أن الجميع منخرطون في المنظومة ذاتها، كل طرف يمول الآخر بعوامل بقائه. لذلك فلا مخرج من المنظومة إلا بكسرها وبالولوج إلى العالم الحقيقي الوحيد الممكن، عالم ما ينفع الناس. ليس في ذلك أي حط من قيمة الدين ولا أي تضخيم من مكانة السياسة، وإنما عودة بالأشياء إلى أصولها. ولكن في خلال ذلك، يجب تربية الشعوب على التخلص من آثام الدعايات التي تجعل من تسييس السياسة خيانة للدين، وهو مسار طويل لا يمكن توقع بلوغ مداه في جيل أو جيلين. ذلك أنه لا يمكن بتاتا الإقتصاد في التاريخ. كم استغرق الأمر لأوروبا من أجل التخلص من هيمنة الكنيسة على السياسة والولوج إلى الحداثة السياسية التي تمثل الديمقراطية أحد أبرز تجلياتها. قطعا ليست الديمقراطية النظام المثالي الوحيد الممكن، ولكنه أقل النماذج التي جربتها البشرية سلبيات. سيقول البعض أن الأمر لا يتعلق هنا بكنيسة، ففي الإسلام ليست هناك كنيسة ولا لاهوت، شكلا هذا صحيح، أما مضمونا، فالأمر يستدعي لسوء الحظ بعض النظر !

lundi 3 mars 2008

كول وأخواتها


كول وأخواتها

مقال صادر بجريدة الموقف التونسية، العدد 442 بتاريخ 7 مارس 2008


عدنان المنصر




نسق سريع للأحداث، مرور سريالي من التهديد إلى التنفيذ، من القتل المحسوب إلى المجزرة الواسعة، اختلاط رهيب للمواقف... هل هذا ما نبدو عليه اليوم؟ التوصيف ليس كاملا ولا يمكن أن يكون كذلك، نكتفي بتجميع أجزاء المتاهة دون أن نتبين بجلاء الطريق الواصل بين الدخول والخروج: بداهة لا شيء يربط بين وثيقة مراقبة الإعلام التي نظر فيها مجلس وزراء الداخلية العرب، الذي يبدو أنه سيحقق يوما ما الوحدة العربية، وبين إرسال المدمرة كول إلى شواطئ الشام. ولا شيء مبدئيا قد يجعل من استماتة البعض في سد منافذ غزة مرتبطا بالمحرقة التي بدأت هناك، كما لا شيء قد يجمع بين تمرد الحوثيين في صعدة وتنكيس عباس راياته في الضفة.

مع ذلك فإن الصورة بدأت تتضح لكل ذي عينين، منذ أن حلت كول بين ظهرانينا، شرق المتوسط. قال أحد الفنانين الساخرين الأمريكيين يوما وهو متكئ على مدفع إحدى البوارج الأمريكية، أنه إذا كانت واشنطن تقول أنها مهمة سلام، فكيف تكون مهمات الحرب؟ عودة سريعة إلى الوراء الذي لم يزل منذ ذلك الزمن أماما: السفن التي تأتي لزيارتنا من حين لآخر، تقصفنا، ترعبنا، نمضي، وينتهي كل شيء، مؤقتا. غير أن بايات ودايات وسلاطين ذلك الزمان لم يكونوا يعلمون أنها آتية، بل كانوا يسعون للتصدي ما أمكنهم ذلك وإن لم تسعفهم قدراتهم على قلب الموازين عموما. الآن، الوضع مختلف: يعلمون بما سيحصل قبل أن يحصل، يأخذون الوقت الكافي لتنبيه رعاياهم، يتمون استعدادات ما قبل الترحيل، يعتقدون أنهم بذلك يضاهون شكلا الدول الكبرى في الحرص على حياة مواطنيها، يعتقدون أنهم فعلا أنداد لها إذ أنها وضعت في علمهم بعض ما ستأتيه. وعندما يحصل العدوان، يصمتون دهرا ثم يبدأون في النطق كفرا، لتحميل الضحية وزر ما جنته عليها ظروف الزمان والمكان، يمارسون نصف رجولتهم بأقصى طاقتهم، يهيؤن أنفسهم لكسر أرجل الجياع إن طرقوا أبوابهم، وتحطيم رؤوس الرعية إن تململت وهاجت. عفوا لقد نكس بعضهم الأعلام، وكأنها أعلام أصلا، وأوقفوا المفاوضات، وكأنهم كانت يوما مفاوضات ، وفتح آخرون منافذ لاستقبال الجرحى الذين لن يحتاجوا لكسر أرجلهم ولا أيديهم.

في غضون ذلك تكون الجوقة قد انطلقت في النشيد، تمجد الواقعية وتدين الرعونة، تطنب في التأكيد على مصالحنا الإستراتيجية، تذكر بأن لا أحد يزايد عليها فيما جمعته من رأسمال ثوري، تسخر من شماريخ غزة وكأنها فعلت بصواريخها المدفونة ما هو أفضل، تحذر من الإرهاب والقاعدة والفوضى التي ستحرق الجميع، تتذكر السيادة والإتفاقات المبرمة ومقتضيات الشهامة... وعندما ينطلق العدوان، تبدأ في حساب المنافع وعينها على شارعها المتنطع، تتوقع هزيمة الضحية ولا شيء غير ذلك، لأن هذه الضحية هي جلادها الذي يقتلها في اليوم ألف مرة، يعري عجزها وثلث رجولتها. أما إذا ما لاحت بارقة انتصار غير مرغوب فيه واندحار للعدوان العاتي، فيعزون أنفسهم، يرتبكون، يشعرون أنهم المنهزمون: لا شك أن شيئا ما وقع أفشل الخطة. ليس متوقعا أن تفشل تلك الخطة، لأنها نجحت معهم في الزمن الماضي، قبل تخفيضات الرجولة.

يأتي دورهم مجددا، ينظرون حولهم فيرون جماهير يسكرها النصر، يغتاظون، سيعاقبونها. لن تسمع شيئا مما يحصل مستقبلا، لن ترى دماء ولا صرخات، لن يهيجها بعد اليوم محترفوا المقاومة، لن تشعر أنها معنية بما يحصل هناك قريبا منها في قلبها وروحها. ينظرون من شرفات قصورهم، أطباق لاقطة وقنوات لقيطة، لينته كل ذلك الآن. وفي أسفل الدنيا يتململ أحدهم، يفرك عينيه، يتثاءب كما يحسن أن يفعل، يمضغ نبتته المفضلة، ليفعل شيئا. لن يشك أحد في الأمر لو صدر عنه، فالجميع يعترف له بالثورية والحرص على الوحدة، والتنطع. ليبدأ إذا استنساخ الجوقات، لتغلق الأفواه الآبقة، العابرة للحدود المعتدية على الكرامات. العين على واحدة أو اثنتين، ليذهب الجميع إلى الجحيم إذا ما سهل ذلك الوصول إليهما. لأجل عينيه تكرم مليون عين، سيجتمعون ويقررون ويوافقون ويبدأون التنفيذ، فما يعتريه يعتريهم، هو الوكيل وهم أصحاب القضية.

أصحاب المعالي والفخامة والسيادة لا يفرحون إذا فرحت الرعية، يحسون صوابا أنهم مستهدفون، يتهيأ لهم أن أحدا ما في مكان ما يحسب لهم حسابا. لا يسرهم النصر مهما كان نسبيا لأنه يفضحهم، يجعل الأعناق تدور نحوهم تشعرهم أنهم أولوا الأمر، وما هم من الأمر في شيء. البعض أخطأ الطريق، هاجمهم، أشعرهم بتهديد قضى على ربع الرجولة المتبقي، منحهم الفرصة التي تبيض ذهبا، فاحترقنا جميعا. شيخ الحكمة هناك غاضب من الذين يقضون منتجعه، ملك الإتزان يكتشف أخيرا أنها المحرقة، ما زال يرى. ظلمة غزة لا تزعجهم، من دخل الضوء أصلا؟ شموعها تدمي عواطفهم، ما زالوا يملكون البعض منها. نفطهم يمطر الأمة حمما، هل نالنا منه غير ذلك أبدا؟

تصمت حمائمنا قليلا وكأن على رؤوسها الطير، فالحمامة الأم أصبحت قائدة المحرقة هناك. يحسون بالحرج أخيرا، فالبوصلة عادت للعمل والإتجاه لم يضع تماما في زحمة الشبهات، يتعرون، يدخلون باطن الأرض، يتقوقعون في برج فكرهم "الإنساني". ولكن دورهم محفوظ أبدا. مثل طيور الشؤم تماما سيفيقون عند ما تحل الكارثة، سيقولون لنا "ألم ننبهكم، ولكنكم قوم لا تعقلون؟" عندما تحل القارعة سيفرخون، سنباهي بهم الأمم كثرة وشأنا، فهم أبناء الهزيمة الشرعيون، سنعتذر منهم حينئذ: عذرا سادتنا، في المرة القادمة سننتصر، وستستأصلون. ذلك الشاب المعمم يزعجهم، لا يرون فيه ما يعرفون، ليس بمثل تقدميتهم، لا يحسن فرنسيتهم، ولا ركاكة منطقهم، وفوق ذلك فالدهماء تحبه وتجعله في سويداء قلبها. ينظرون في دفاترهم، يقلبون أوراقهم، لا يجدون فيها غير القوة منتصرا دائما، القوة في مقابل الحق سيف بتار، هذا إذا كان بالفعل حقا. لا حق في الصراع ولا باطل، لا إرادة ولا إيمان ولا شيء مما لا يملكون. يذبحون بأيديهم صفر الرجولة الأخير، نستمع إليهم ونراهم فنزيد إيمانا بأننا لا نسير في الإتجاه الخاطئ.

ولكن هل نحن بأفضل من هؤلاء وأولئك؟ ربما، إذا ما أحسنا الفهم، واستطعنا مجاراة النسق واحتفظنا بالإتجاه الصحيح. العدو هناك في التلة، وإن كان بعضه هنا وهناك، معششا في أجسادنا وفي جثث البعض منا. يقاوم مضاداتنا ولكنه يبدأ في التهاوي، لأنه يواجه للمرة الأولى إرادتنا في التعافي. يقاوم الجسد، نسقط ثم نقوم، لنسقط من جديد ولكن لا نمحي. تنتابنا الحمى ولكنها دليل الصمود، يجند الطغيان غربانه وبوارجه وحاملات طائراته. يغيضه مخزون الصمود في هذه الأمة، من أين يأتون بهذه القوة؟ من ظلمكم. ستينية الكيان قد تمر، ولكن من سيبقى أخيرا هم نحن. قد يرونه بعيدا، ولكننا نراه قريبا.

1