mercredi 24 juin 2009

في "مقام الرفق"

في "مقام الرفق"

عدنان المنصر

مقال صادر بصحيفة الموقف بتاريخ 19 جوان 2009

في تفاعلها على مقالي الصادر على جزئين بالموقف تحت عنوان "في مقام الحيرة"، تعرضت الصديقة رفيقة البحوري إلى بعض النقاط التي شدت انتباهها ملاحظة حصري النقاش مع مؤلفة "حيرة مسلمة" في فضاء الأفكار بتقديم قراءة فيها الكثير من "اللطف والمنطق". قدمت الصديقة رفيقة البحوري قراءة لقراءتي فوجدتني حائرا أنا أيضا، ربما كان ذلك من حقها. جاء مقالها كلاما على كلام على كلام، وهو تمرين صعب لا أظنه متاحا لكثير من الناس. ورغم أننا نختلف قليلا و كثيرا في مقاربة بعض المسائل إلا انها لم تكن أقل رفقا بي مفضلة النقاش الرصين على إغراء التشخيص.

نعم، بإمكان المرء أن يختلف مع كل الناس أو مع جزء منهم في مقاربة مسألة ما غير أن المحافظة في خضم هذا الاختلاف على الاحترام الواجب للمختلف هي الرياضة الأصعب. ذلك أن في الأمر قدرا من التجرد ليس متاحا للكثيرين قوامه الفصل بين الفكرة وصاحبها، وهو من هذا المنطلق سباحة ضد الجاذبية وتنسيب للتناقضات ووضع لها في إطارها الطبيعي الذي يجب ألاّ تغادره تحت أية دواع مهماسطا إغراؤها .
كم يحتاج كثيرون إلى من يقدم لهم المثل في احترام الآخر والتعايش مع الاختلاف وربما التناقض، لأنه لا بديل مضمون العواقب لذلك سوى الإقصاء والعنف وربما لاحقا القتل. من هو القاتل في الأصل؟ إنه ذلك الممارس للإقصاء في شكله الأكثر حيوانية، يعتقد أن التناقضات تزول بمجرد غياب المتناقض معهم. يمارس كثير من الناس هذا النوع من القتل كل يوم أحيانا وينام بعضهم قرير العين بعد ذلك، دون أن يخطر بباله أنه يستحق عقابا ما أو أن ما أتاه يستدعي إحساسا ولو عابرا بالذنب.

من الواضح أن تقلص الفضاء العمومي يجعل من مناقشة هذا الصنف من القضايا أمرا كثير الهامشية رغم مركزيته في عملية بناء وعي التعايش، وهو ما يجعل كثيرا من المهتمين بهذا الشأن يلجؤون إلى الفضاء الافتراضي، على الفايسبوك أو غيره، وهي عملية تعويض لا تغني من الواقع المعيش لمسائل التعامل مع الاختلاف شيئا ولا تنبت في صحراء المجتمع أية أشجار ثابتة الأصل. ذلك أنه عندما تكون التربة فقيرة و الانجراف قويا، فإن الصحراء تحتل في كل يوم فضاء كان إلى مدى قريب أخضر مشرقا محولة إياه إلى يباب تعوي فيه ذئاب الإقصاء المتعطشة إلى دماء "الخصوم".

كم نحتاج إلى أن نرفق ببعضنا البعض، ولكن مقام الرفق يحتاج تربية وسلوكا خاصين، وهو منزلة لايدركها إلا من استطاع التخلص من ربقة النرجسية المتعالية. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فإن الرفق بالمختلف لا يمحو الاختلاف بل يضعه في إطاره الطبيعي الوحيد، ذلك أن الهدف منه يبقى دائما التعايش وتفويت الفرصة على ذئاب الفكر الأحادي وضباع الإيديولوجيا المريضة أن تأتي على أخضر المجتمع ويابسه. لا يطلب من أحد أن يتخلى عن أفكاره ولا حتى أن يطرح عنه رداءه الإيديولوجي، بل أن يقتنع فقط أن الخصم ليس شرا مطلقا وأن تعميم الكراهية لا يعد سوى بالخراب.

ينفتح العالم في خضم ذلك كله ويزيد اتساعا، تتزاحم الأجيال على مائدة الإبداع الإنساني فتحقق من الفتوحات المعرفية والإنسانية ما لا ينكره إلا الجاحدون. غير أن مسارا ثانويا ولكن مدمرا يتشبث بتلابيب البقاء وعوض أن يتمتع بشمس الإنسانية ودفء التواصل، يزيد انغلاقا وتقوقعا في أنفاق النرجسية المقيتة والإيديولوجيا الرثة.

إن ثقافة الإقصاء إنكار للحق في الاختلاف، و جحود للطبيعة، ومرض فتاك ينتشر بيننا كانتشار الخلايا الخبيثة في الجسم الغض. يصر البعض على أن لا يرى أعراض هذا الوباء إلاّ لدى الخصوم ويصيح مفتخرا بسلامته وعافيته وحصانته المفترضة ضد جميع الأوبئة، وهذا في الحقيقة من أول أعراض الإصابة. غير أنهم ينكرون إصابتهم بالعدوى ويرفضون التداوي و اتباع أبسط تعاليم الوقاية. في الغالب يفيقون متأخرين جدا وقد يكابرون برفض الفحص حتى في ساعة الاحتضار .كم يبدو الأمر مؤسفا !

كم ينبغي أن يبذل من جهد للإقناع بأن الإصابة ليست وقفا على جمهور دون آخر وأن الصواب والعقل ليسا ملكية خاصة أو أصلا تجاريا؟ ينظر المرء في خطاب بعض القوم فيرى الآليات نفسها، بل المفردات عينها أحيانا، فيتوقع في كثير من الحالات النتيجة الحتمية ذاتها: سقوط مدو في هوة الانغلاق السحيقة. فعندما تنعت أستاذة خصومها "بالجراثيم" ماذا يمكن أن ننتظر من مريديها؟ وعندما ترى بعض "التقدميات جدا" في حرية الملبس والمعتقد "ردة"، ماذا يمكن أن نتوقع من "الرجعيات"؟ وعندما تسام المجموعة كل صنوف الشتائم والتحقير والتسفيه لها ولثقافتها وجذورها بدعوى التخلف عن نخبتها الرائدة، ماذا عسانا نأمل من "الدهماء" المسكينة؟ لو تمعن هؤلاء في دروس التاريخ لرأوا أن هذا السلوك نفسه هو ما منع آباء الفكر لديهم من الانغراس في تربة هي طيبة رغم أنوف الجميع، فضلا عن أن تزهر أشجارهم و تينع ثمارها. لكنها المكابرة الناجمة عن اليأس من مغادرة دائرة الهامشية الضيقة تتحول في الغالب سلوكا انتحاريا على مذبح "الفكر النير". حتما إن الانتحار أقل ألما من الموت البطيء !

يمارس الكل أو بعضه التكفير بدرجة أو بأخرى، ففي حين يرمي جزء من الناس بخصومهم خارج دائرة الإيمان معتقدين أنهم المخولون لمسك دفاتر الجنة والسعير، يقوم آخرون في المقابل بطرد الأولين من فردوس حداثتهم وتنويرهم منكرين عليهم حتى صفتهم البشرية وملحقين إياهم بمرتبة الكائنات المجهرية الخبيثة. مثل وهابية السلفيين تماما، تبدو وهابية الحداثويين جذرية لا تقبل من "الفتاوي" إلا أكثرها تشددا ولا تاريخية، ومثل تكفيريي الضفة الأخرى بالضبط يبدو هؤلاء متعطشين للاستئصال وقد ولغ بعضهم في دماء القوم ردحا من الزمن حتى أصبحوا يتلذذون ذلك، لا يستطيعون من طبيعتهم الثانية تحررا ولا فكاكا.
يضطرب النبض وتتصاعد الحمى ويقاوم الجسد المصاب ماوسعته المقاومة قبل أن يسعف بترياق التعايش، فيبدأ في طرح جراثيم الكراهية وفيروسات الحقد غير المبرر. تتحول الاختلافات إلى طاقة يحيا بها الجسم ويشرق احتراما وتسامحا فيدخل في حضرة الإنسانية الرحبة وينطلق مجددا في مسار إبداعه الخلاق.


أحلم هو أم وصفة-أكسير؟ كم في الهروب إلى أحلام اليقظة من عزاء لكوابيسها المزعجة القاتلة لإرادتنا في الحياة ! وكم من وصفة أهملت لمرارة في الطعم أو لعسر في الابتلاع والهضم أو لأعراض جانبية أخرى فذوت أجساد ومرضت نفوس وتبخرت طاقات وعم خراب.

في "مقام الحيرة "، الجزء الأول


في "مقام الحيرة "

-1-


عدنان المنصر


صدر بجريدة الموقف بتاريخ 8 ماي 2009

هل فات الوقت لتقديم كتاب ألفة يوسف؟ "حيرة مسلمة" بلغ طبعته الثالثة وربما الرابعة، ولكنه لا يزال يثير الكثير من الجدل حول ما لغمته به مؤلفته من أفكار يعتبرها البعض دليلا على جرأة زائدة عن الحد. علام تجرأت ألفة يوسف: على التطرق لقضايا الجنس والميراث؟ أم على نقد الفقهاء وتشريح الفقه والدعوة إلى مواصلة الإجتهاد في فهم أحكام القرآن؟ أم أن حيرتها، وهو ما يقلق كثيرين، تنطلق أولا وأخيرا من صفتها كامرأة مسلمة؟

لم تتناول ألفة يوسف في هذا الكتاب إلا القضايا الخلافية والشائكة، وهو في ظننا إختيار لا ينبغي مناقشتها فيه مبدئيا، أليس مفروضا أن يتحدث الكتاب عن الحيرة؟ لا يجد الباحث عن اليقين في هذا الكتاب شيئا كثيرا، بل إن المؤلفة ربما تعمدت الإكثار من إلقاء الحجارة في ما قالت أنها مياه راكدة، حتى أن المرء ليخيل إليه أن لم يبق من صرح إسلامه شيء ذا بال. ولعل القضايا المتعلقة بالجنس أكثر هذه المسائل إشكالا، فهي من النوع الذي لا ينطق به عادة إلا همسا. أما أن تنشر إمرأة حول هذا الموضوع فهو مما يرفض التونسيون وبالخصوص غير التونسيين أن يتعودوا عليه. كذلك الأمر بالنسبة لقضية الإرث التي تعتبر قضية ذات حساسية خاصة، شرعيا كما إجتماعيا.

اعتمدت المؤلفة مصادر كثيرة، من التفاسير خاصة ثم من كتب الحديث. وهذا طبيعي باعتبار أنها أعلنت منذ البداية رغبتها في تعرية ما يسمى بالإجماع حول بعض القضايا. ومعنى ذلك أن المؤلفة تشكك ضمنيا في كون الإجماع مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، غير أن هذه ليست تهمة. فقد اعتمد تمشي ألفة يوسف على التعرض لتناول الفقهاء من مؤلفي التفاسير للقضايا المذكورة آنفا، منتقلة بين فخر الدين الرازي (مفاتيح الغيب)، والزمخشري وابن العربي والطبري وابن تيمية...إلخ إلى أن تصل إلى الشيخ الطاهر بن عاشور. وقد استنتجت من خلال تعرض هؤلاء المفسرين لقضية الإرث على سبيل المثال إلى أنهم "يعمدون أحيانا إلى مجرد النظر العقلي ليقروا أحكاما إلهية وأنهم يجوزون ذلك متى شاؤوا ويمنعونه متى شاؤوا". ربما فات المؤلفة أن هؤلاء الفقهاء إنما كانوا مجتهدين، وأن كلا منهم قد تناول النص القرأني كنص تشريعي يتعامل معه وفق أليات معينة، ذلك أن للتفسير أدواته. غير أن المشكل الحقيقي لا يكمن هنا وإنما في إعتبار تلك الإجتهادات أمورا لا تخضع للنقاش. وبديهي أن كل فقيه يحاول الإستجابة لتحولات الواقع في قراءته للنص القرآني، وهو عين ما تحاول القيام به ألفة يوسف مع إختلاف المثال. فليس في الأمر كما ذهبت إلى ذلك المؤلفة تعسفا يرمي إلى "تضييق العمومي الإلهي إلى مخصوص بشري". ما هو "العموم الإلهي"؟ ما حدود عملية العموم الإلهي إذا لم يترجم نصوصا عملية تجيب على مشاكل الوقت؟

تميل المؤلفة إلى عدم إيلاء تطور وضعية المرأة مقارنة بفترة ما قبل الإسلام الأهمية التي تستحق، ولا تتعرض إلا لماما لمسألة نعتقد أن طبيعة تناولها التنسيبية للموضوع تحتمها. ورغم أن الكتاب تعددت طبعاته فهي تتجاهل بعض الإضافات التي تمت في هذا الخصوص مثل تناول محمد الطالبي ("ليطمئن قلبي") لهذا الموضوع والمقارنة التي أنجزها حول وضعية المرأة في الإنجيل والتوراة والقرآٍن، وهو تجاهل لا يليق بصاحبة الكتاب. تبدو المؤلفة منطلقة في حيرتها لا تلوي على شيء. لعله كان ضروريا أن يقع تناول مسائل الإرث وتعدد الزوجات ومسائل العلاقة الجنسية في الزواج في إطارالتناول القرآني العام لمسألة المرأة والحرية الكبيرة التي أصبحت تتمتع بها مقارنة بالفترة التي سبقت الرسالة.

تقوم المؤلفة بتحسس هذه النسبية ولكنها لا تلبث أن تضرب صفحا عن كل شيء يجيب على بعض تساؤلاتها. ما نريد الإشارة إليه هنا هو بعض الإضطراب الذي حكم أحيانا المنهج العام للباحثة. تدين المؤلفة استجابة الفقهاء لضرورات الواقع الذي نشأوا فيه وتتحدث أحيانا عن "مصالح ذاتية" أرادوا تغطيتها، وإن كانت لا تبين لنا ما هي طبيعة هذه المصالح الذاتية 58)، وهي في هذه الإدانة لا تفرق بين من أوقف حكما شرعيا اتفق على ثبوته في النص (إيقاف عمر تنفيذ بعض الحدود وفرضه تحريم بعض ما كان قد حلله الإجماع) وبين من استنبط حكما كان يبدو بعيدا عن منطوق النص. تلامس المؤلفة أحيانا حقل السلطة ولكنها لا تغوص فيه بالحد الذي يكفل توضيح العديد من الأشياء، وهو ما تناوله الدكتور الطالبي هلى سبيل المثال في خصوص قضية الردة وسياسة أبي بكر تجاه المرتدين غداة وفاة الرسول. لكن المؤلفة تسهب في المقابل في تحليل طبيعة توزيع السلطة في المجتمع بين رجال غالبين يحاولون تأبيد سيطرتهم وبين نساء مقهورات. غير أنها ربما نسيت مسألة التنسيب هنا. هل نعرف اليوم مجتمعا غير إسلامي انقلبت فيه طبيعة توزيع السلطة الإجتماعية تلك مهما بلغ هذا المجتمع تطورا وتحديثا؟ لا يتعلق الأمر بالقرآن، وهو أيضا ليس حكرا على المسلمين، ولكن ذلك ليس مبررا لإيقاف مسار التحديث بدعوى أن الأمر شائع. هناك سعي واضح من قبل المؤلفة للنظر إلى المرأة والرجل كعدوين متصارعين، لا يربح أحدهما إلا ما يفتكه من الآخر. وهذا التوجه وإن كان جديرا بالإحترام علميا، فإنه يعبر أيضا عن عقدة إجتماعية من صنف العقد التي أطنبت المؤلفة في تحليلها، عقدة المجتمع القضيبي. نعتقد أن المشكل ينبع، في رأينا، من النظر إلى أن المسألة تتلخص في صراع أبدي بين المرأة والرجل، وهو ما تميل إليه بعض المدارس الفكرية راهنا.ماذا تفعل المؤلفة بكل الآيات والأحاديث التي تعتبر المرأة والرجل قد خلقا "من نفس واحدة" وأن أحدهما "سكن" للآخر و "لباس" له؟

بل إن المؤلفة تذهب إلى المقارنة بين الحياة الزوجية من منظور المرأة وبين حالة العبودية وهو أمر يبدو لنا كثير التعسف، لتذهب إلى أن المسلمين الذين حرموا الرق في فترة من فترات تطورهم التاريخي ربما توجب عليهم السير في الطريق ذاته من أجل تحرير المرأة. المرأة عبد؟ كم في الأمر من مبالغة مهما اجتهدت المؤلفة في إيجاد كل "أوجه الشبه" الممكنة. لا تنظر المؤلفة المنطلقة في حيرتها إلى الزواج سوى كأحد وجوه تلك العلاقة غير المتكافئة بين "السيد" و "عبده"، وتتساءل عما إذا كانت طاعة المرأة زوجها في الفراش وجها أساسيا في تلك العلاقة الظالمة.

كان بالإمكان التعرض هنا إلى أن السياق لا يحتمل المقارنة لأن العلاقة بين الزوجين هي أساسا علاقة طوعية إختيارية، وأن أي خلل فيها إنما يداوى بأبغض الحلال، وهو ما تناولته بعجالة عند الحديث عن الخلع الذي وجدت له جذورا صلبة في الممارسة التشريعية الإسلامية. في مقابل ذلك تذهب المؤلفة إلى الحديث عن زواج المتعة ومسألة منعه التي تمت على يد الخليفة عمر، معتبرة أنه ربما كان هذا المنع قد تم لأنه "يمكن المرأة من بعض الحرية خلافا للزواج العادي الذي لا يشبه عقود البيوع فحسب بل يشبه عقود الرق والعبودية" (ص 102).

ربما تغافلت المؤلفة هنا عن أن هذا الحل ليس مثاليا للمشكل الأساسي الذي انطلقت من مقاربته في الأصل باعتبار أن حصر العلاقة بين الرجل والمرأة في الجنس يبتذل المرأة كما الرجل. لا نعتقد أن زواج المتعة، ورأينا يحتمل الخطأ طبعا، يكفل للمرأة كرامتها بل لعله يشرع اعتبار أن الجنس هو الأساس في العلاقة الزوجية. فهو من هذا الجانب تغطية شرعية لمشكل ظرفي من نوع المشاكل التي يعيشها الشباب اليوم. عندما تذهب المؤلفة إلى أن الهدف من الزواج لم يكن "تأسيس أسرة بمعناه المتداول اليوم"(ص102) فإنها تهمل نقطة رئيسية نعتقد أن إهمالها يجعل "الحيرة" أمرا حتميا. صحيح أن الإسلام يعتبر مسائل النسب رئيسية، وهو أمر نعود إليه لاحقا، ولكن الزواج إنما يهدف أساسا، حسب ما نعلم، إلى الإعمار بما يتيحه من تزايد ديمغرافي في حدود المؤسسة العائلية أو الأسرية. لذلك يعتبر الإسلام أن أي علاقة جنسية خارج إطار الزواج إنما هي محرمة أصلا، وهو أمر حققه إلغاء الرق بصفة كاملة بإلغائه ملك ذات اليمين. ما مدى جدية التفكير في العودة إلى ممارسة تنقل المرأة من ضمانات وضعها كزوجة إلى وضع "ملك اليمين ،حتى ولو كان الحرمان الجنسي وراء ذلك؟

من الغريب أننا نجد المؤلفة، في إطار بحثها عن حل لمشكلة الأبناء "غير الشرعيين" تقر زواج المتعة ولا تقر تعدد الزوجات عندما تقول: "لولا أن عمرا قد نهى عن المتعة لما وجدنا في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم هذا العدد المهول من الشباب والفتيات يعانون من الحرمان العاطفي ومن الكبت الجنسي. إننا نفضل على الأقل اعتبارا أن يولد أطفال في إطار زواج متعة فينسبون إلى آبائهم شرعا وقانونا ..." (ص 103). حتما إن المنطق الذي يقودها هنا ليس عقليا بالمرة، فأن تعتبر الزواج استغلالا عبوديا للمرأة وتعدد الزوجات إهانة لكرامتها وترسيخا لدونيتها بالنسبة للرجل ، وأن تغفل نفس تلك العيوب عندما يتعلق الأمر بزواج المتعة، أمر يستدعي التساؤل. المسألة مسألة قياس عقلي هنا، فزواج المتعة، مهما أبدعت المؤلفة في توضيح إيجابياته النسبية، لا يمنح المرأة مطلقا ما يحرمها منه التعدد. تهمل المؤلفة في الأثناء مسألة عقد الزواج ولا تنظر إليه إلا كترسيخ للعلاقة الجنسية، في حين أن صفته التعاقدية تعطي المرأة كما الرجل حق الاشتراط، مما يفتح المجال واسعا أمام تعدد نماذج لا مثيل له، وهو ما تناوله بعض الباحثين في خصوص الزواج القيرواني (أحمد الطويلي في"الصداق القيرواني"، محمد الطالبي في "أمة الوسط")الذي لم تشر ألفة يوسف إليه مطلقا رغم أنه كان حلا شرعيا لقضية التعدد وأذى المرأة الحاصل غالبا منه. قد نفهم من ذلك مرة أخرى أن الكاتبة ربما انتقت من كل شيء فقط ما يعمق حيرتها معرضة عما عداه.

يسمح "الصداق القيرواني" بأن تشترط الزوجة على زوجها أن لا يتزوج عليها امرأة أخرى كما يسمح للزوجة أن تبقي العصمة في يدها فتطلق زوجها متى شاءت. إضافة إلى ذلك فإن المهر الذي نظرت إليه المؤلفة فقط من زاوية أنه يرسخ علاقة بيع المرأة للرجل كبضاعة جنسية، يحتمل من التأويل ما لم تتناوله الكاتبة ولو لماما. يسمى المهر "أجرا"، لكنه يسمى أيضا "فريضة"، و "نحلة"، وإذا كانت ألفة يوسف قد فهمت "الأجر" كمقابل للجسد، فإننا نرى أنه فهم الدرجة الأولى الذي ما كنا نعتقدها، كمختصة، ترضى به وهي تعلم أن الغرض منه هو إظهار قيمة عقد الزواج وترسيخ لمبدأ حسن النية في الارتباط، وهو أحد أهم أسس الزواج. من الغريب أن المؤلفة لا ترى حرجا في زواج المتعة الذي ينتفي منه ركن حسن النية فيغدو، من هذا المنطلق وبالقياس، عقد بيع حقيقي أو قل عقد بغاء. كما أن "اقتراح" زواج المتعة يمكن أن يكون مدخلا لتعدد الزوجات، فلا نعتقد أنه بالإمكان أن يسمح به لغير المتزوجين ويمنع منه المتزوجون، يجب أن يكون لبعض الإقتراحات منطق يعتد به في عالم العقل.

(يتبع)

في "مقام الحيرة "، الجزء الثاني




في "مقام الحيرة "

-2-

عدنان المنصر

صدر بجريدة الموقف بتاريخ 15 ماي 2009


تطرقنا في الأسبوع الماضي إلى كتاب "حيرة مسلمة" لصاحبته الباحثة ألفة يوسف من زاوية تناولها للعلاقة الزوجية ومسألة تعدد الزوجات وزواج المتعة، ونواصل في هذا الجزء الثاني التعرض لهذه المسألة بطريقة نسعى من خلالها إلى محاورة المؤلفة ومناقشتها في بعض المنطلقات وفي تمشيها المنهجي.

إن هموم الحاضر موجودة بقوة في تناول المؤلفة لمسألة العلاقة الشرعية، حيث نراها تتفاعل مع مشاكل الفئات غير القادرة على الزواج عن طريق البحث في إمكانيات أخرى لتصريف الطاقة الجنسية، من ذلك كما أسلفنا زواج المتعة، وهو نفس التمشي الذي ذهب إليه الطالبي على سبيل المثال عندما اعتبر "نكاح السر" أو الزواج العرفي حلا محتملا لتلك القضية. ومعنى ذلك أن المسألة تبقى إجتماعية، وأنه يراعى في الحل أن يكون متطابقا قدر الإمكان مع الشرع. كذلك الأمر بالنسبة لتعدد الزوجات، فهي قضية إجتماعية تعاملت معها الأديان، المسيحية كما الإسلام، بما يتلائم أولا مع منحاها الإصلاحي ومع درجة تطور المجتمعات. هناك خلط كبير يقع فيه كثير من الناس بالقول أن الإسلام يشجع على تعدد الزوجات، الإسلام يحل ذلك ولا يفرضه أو يشجع عليه. ومن منطلق تاريخي فقد كان "الإكتفاء" بأربعة زوجات تطورا مقارنة بما قبل الإسلام حيث لم تكن الممارسة الإجتماعية تعترف بأي تحديد. وبغض النظر عن الشروط التي وضعها القرآن للسماح بالتعدد، فإن التطور الثقافي للمجتمعات ينقل المسألة حتما من الحيز الديني إلى الحيز الإجتماعي والثقافي، وهو ما نرى أنه من المقاصد الواضحة للشريعة. إن المشكل في نظرنا ينبع من سعي الحداثة لتعويض الدين عندما تسعى، في نسختها الأكثر شيوعا بيننا، لتعويض الحكم المقاصدي النسبي إلى حكم نهائي بات لا يحتمل المراجعة. حتما إن "دين الحداثة" أقل تسامحا من "دين الله".

إن مشاكل الواقع الراهن تدفع أحيانا بالبشر للبحث عن حلول لا تختلف شكلا عن ممارسة تعدد الزوجات، وهو ما نجد له صدى في سماح القوانين الغربية بالمعاشرة الحرة رغم ما قد ينشأ عنها من ضرر لمؤسسة الأسرة ومن عدم استقرار اجتماعي للمتعاشرين وأبنائهم. ولعل المؤلفة محقة عندما اعتبرت أن العراقيل أمام الزواج تجعل من الشباب مكبوتا إلى سن متقدمة نسبية، غير أنها ربما أغفلت أن تذكر أن هذه العراقيل هي في الحقيقة من ضمانات عدم شيوع تعدد الزوجات ولو سمح به قانونا، بل إن المؤرخين ربما أكدوا أن هذه الظاهرة كانت محدودة الإنتشار في بلادنا حتى قبل صدور مجلة الأحوال الشخصية. ونعتقد أن تلك القوانين رغم ما أنتجته من تعارض بين الممارسة القانونية والسماح الشرعي قد أحدثت ديناميكية إجتماعية إنعكست استقرارا أكثر في الأسرة، وأن واضعيها انطلقوا من نية للتوفيق بين مقاصد الشريعة وحتمية الإصلاح الإجتماعي. غير أن ما نعيبه على الحداثة والحداثيين سعيهم إلى تعويض المقدس الإلهي (الشرع) بمقدس آخر (القوانين) أقل استعدادا للنسبية والتلاؤم مع ما قد ينشؤه تطور المجتمعات من إشكالات.كما نعيب علي بعضهم في سياق متصل أن ينظروا إلى الزواج كعقد بيع لبضاعة جنسية في حين ترسخ بعض إقتراحاتهم هذا المبدأ وتنسف مبدأ الأسرة والمجتمع المتوازن نسفا.

قد تنتابنا الحيرة في تفسير بعض النصوص ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نحدد ما نريده بوضوح. في هذه النقطة بالذات، وقياسا على تمشي المؤلفة، فإن الحيرة تبدو، يا لغرابة الوضع، من نتاج الحداثة وليس من نتاج الإسلام. ألم تضيق الحداثة بسعيها لتعويض الدين مجال المناورة أمام من جاءت لتعبر عن توقهم إلى التلاؤم الأمثل مع العصر؟ وإذا كانت أحكام الشرع الإسلامي تحتمل التأويل إلى حد التناقض الناتج عن درجة السعي لملاءمة المبدأ مع الظرف، فإن "شرع الحداثة" لا يحتمل أي تأويل. من نفس المنطلق، من يعتبر تصريف الطاقة الجنسية أمرا معيبا، الإسلام (بسماحه بها في إطار الزواج المتعدد عندما تتوفر شروط كم يصعب ضمانها)، أم الحداثة (بنقلها الموضوع بأكمله إلى حقل الممنوع قانونا)؟ ومن يعتبر الممارسة الجنسية أمرا مسكوتا عنه بمنطوق الأحكام والقوانين (يكفي هنا أن نقارن بين حجم تناول المدونة الفقهية لمسائل الجنس مع أي مدونة أوروبية مهما ضربت عروقها في التاريخ)؟

تقترح ألفة يوسف على قرائها سؤالا أثار كثيرا من اللغط: "لماذا رفض الرسول أن يتزوج علي على فاطمة؟" وتورد القصة وفحواها أن "بني هشام بن المغيرة" استأذنوا الرسول في أن يزوجوا ابنتهم عليا، وهو ما صرح الرسول برفضه ثلاثا وهو على المنبر، على أساس أن فاطمة "بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها". تستنتج المؤلفة اعتراف الرسول بالأذى الناتج عن تعدد الزوجات بالنسبة للزوجة الأولى، ولا نخالفها البتة الرأي، غير أننا لا نوافقها فيما ذهبت إليه من وجود تعارض بين حديث الرسول ومنطوق النص القرآني. كان بإمكانها أن تقول أن الأمر يتعلق بابنة أبي جهل، فذلك يغير الكثير من الأشياء. هناك الكثير من المعطيات الظرفية التي تفسر رفض الرسول تلك الزيجة، من ذلك خريطة التصاهر وتأثيرها في توزيع النفوذ في فترة حساسة من تطور الإسلام. من الغريب أن المؤلفة لا تولي لكل تلك الظرفية أدنى اهتمام وهي التي تتمسك بالنسبية كأشد ما يكون التمسك. غير أن الأغرب هو قولها أن الأمر يحتمل تأويلين: أولهما أن القرآن لم يبح ولم يمنع، وبالتالي فإن التعدد منسوخ "عبر الزمان" باعتبار أن التعدد سيئة من سيئات الجاهلية. وثانيهما أن الرسول إنما تصرف "كأب حرم ما أباحه الله"، مستدركة أنها "لا تقف هذا الموقف الذي قد يمس من شمول الرسالة وقداستها" (ص 135). وبما أن المؤلفة قد استبعدت الإحتمال الثاني(وهو ما يتناقض مع ما ذهبت إليه قبلا عندما أكدت أنه "مما لا شك فيه أن الرسول كان يسلك أحيانا سلوكا بشريا لا يستوجب بالضرورة اتباعه باعتباره سلوكا يخضع لأذواق شخصية وأطر تاريخية"، ص 117) فقد بقي لنا الإحتمال الأول وهو أن إباحة التعدد "منسوخ عبر الزمان" وأن النص القرآني في نهاية الأمر "لم يبح ولم يمنع". ما معنى وضعية "لم يبح ولم يمنع" هذه؟ كم يتطلب الأمر من شجاعة للقول أن الإباحة لا تفرض الأمر، وأن الأذى الحاصل من التعدد أمر واضح بفعل الشروط الصعبة التي يضعها النص نفسه، ولكن المؤلفة تبدو كمن قررت ترك ما لا يريبها إلى ما يريبها.

في الإطار ذاته تتناول ألفة يوسف بعض المسائل الطريفة وتجهد نفسها في التفكير فيها لتقر في النهاية بأن الأمر عبثي، من ذلك مسألة تعدد الأزواج للمرأة الواحدة حيث تنطلق من تقرير أنه "لا نجد في القرآن آية صريحة تحرم زواج المرأة بأكثر من رجل" (ص126) وهذا صحيح، غير أن القول بأن المفسرين إنما استندوا إلى الآيتين 23 و 24 من سورة النساء لتحريم ذلك أمر فيه الكثير من السطحية. ينبغي العودة هنا إلى قضية الأنساب باعتبارها مبدأ مركزيا لم يأت به القرآن وإنما وجده فدعمه، وهو المبدأ الذي يدمره تعدد الأزواج للمرأة الواحدة، إلا إذا كان المراد أن يدعى الأبناء لأمهاتهم وليس لآبائهم، وهو أمر لم تذهب إليه المؤلفة. من الغريب أن المؤلفة لا تتوقف عند قضية الأنساب هذه رغم مركزيتها ليس في الفقه فحسب بل في ثقافة الإسلام كلها. تنتهي المؤلفة بعد 5 صفحات إلى الإقرار بعبثية الاحتمال الذي انطلقت منه، وهي عبثية نكتشفها في مواقع أخرى مما يجعل الحيرة، في بعض الأحيان، "مختلقة".

فعندما تتحدث الكاتبة عن اللواط والسحاق نجدها تعتبر أن ليس هناك نص صريح في القرآن يحرمهما، وقد فهم بعض الناس خطأ أن ألفة يوسف إنما تدعو إلى "الشذوذ الجنسي"، وهو أمر يدل على سوء فهم واضح للكتاب. تناقش المؤلفة مدى تطابق التفاسير مع منطوق النص القرآني في خصوص قضية قوم لوط، وتشكك في إمكانية أن يكون العقاب قد حل عليهم بسبب اللواط وحده، باعتبار أن "المنكر" الذي كانوا يأتونه في ناديهم لا يقتصر تعريفه على اللواط فقط. وعلى اللواط تقيس الكاتبة السحاق لتصل في النهاية إلى أن الفقهاء ربما حملوا في قراءاتهم للنص ما لا يحتمله ضرورة أو أنهم، مرة أخرى، "ضيقوا معنى النص". غير أن هدف المؤلفة كما فهمناه يتجاوز هذه النقطة ليصبح إدانة لاعتبار اللواط فعلا محرما لمجرد أنه يجعل الرجل في وضعية المرأة، وهو ما يرسخ حسب رأيها الطبيعة البطركية للمجتمع الإسلامي. في القرآن أيضا لا نجد أشياء كثيرة، مثال العلاقة الجنسية بين إنسان وحيوان، كما لا نجد نهيا عن أكل القذرات،هل يعني ذلك أنه سكوت قابل للتأويل؟

من الغريب، مرة أخرى، أن الكاتبة التي أطالت البحث في هذه المسائل قد نظرت إلى النص في غياب الطبيعة والمألوف والعرف، ذلك أن الجنس أصلا هو تكامل بين الأنثى والذكر بما يحقق هدف الإعمار في إطار من الألفة والمودة والرحمة، أما القول بأن الآية "زين للناس حب الشهوات من النساء..." تحتمل أن المقصود بها الرجال تجاه النساء والنساء تجاه النساء فهو لا يعدو أن يكون تأويلا مناقضا لروح الطبيعة والفطرة و"المعروف"، تلك الروح السابقة والمحددة والمتحكمة في الشرع الإسلامي، وهو ما سلمت به المؤلفة لاحقا عندما قالت "أن تأويل القرآن لا يمكن أن يخرج عن المعروف" (ص 226) . حتما، إن "القرآن ليس مسؤولا عن استيهامات قارئيه وشهواتهم العميقة" (ص 221)، ولكنه أيضا يحتوي على نوع من المنطق الداخلي الذي ينبغي أخذه بعين الإعتبار عند التصدي لفهمه.

من الصعب أن نتناول كل النقاط التي أتت عليها ألفة بوسف في كتابها، إلا إذا تطلب الأمر حلقات تمتد على أسابيع عديدة، وهو أمر يبدو غير متاح. حسبمنا أننا نقدر المجهود المعرفي الذي قامت به المؤلفة، والمؤلفون يعرفون أن أكبر تكريم لهم هو مناقشتهم في مضمون كتبهم. ذلك أن كتاب ألفة يوسف بوصفه دعوة إلى السؤال إنما هو دعوة إلى النقاش، وذاك في حد ذاته كاف ليعطى ما يستحق من اهتمام. إن حيرة ألفة يوسف هي حيرة الحداثة، أو قل حيرة أحد وجوه الحداثة، تجاه عودة الدين إلى الساحة. هناك تخوف على مكتسبات الحداثة في هذا الكتاب، وتوق إلى حث مسار التحديث الذي لا ينبغي أن يتوقف، في المجال التونسي، عند مجلة الأحوال الشخصية التي غدت قاصرة، في نظر الكاتبة، عن الإستجابة للتطلعات المشروعة لتحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. إنها تبدو كمن يحث الخطى لضمان أسبقية إضافية على "الخصم". غير أنها في سعيها ذاك كثيرة التعثر، ذلك أن حيرتها تمنعها من رؤية طريقها بوضوح: ألا يتطلب الأمر، بالموازاة مع تحيين فهمنا للشرع وأحكامه، أن نقوم بتحيين) ( update فهمنا وممارستنا للحداثة، أم أن وأد المقدس يستتبع حتما تفريخ مقدس آخر أقل استعدادا للتسامح وصالح، هذه المرة، "لكل زمان ومكان"؟.


حيرة في" مقام الحيرة" ، محاورة للأستاذ عدنان المنصر

حيرة في" مقام الحيرة"
محاورة للأستاذ عدنان المنصر

رفيقةالبحوري

أريد أن أتوقّف عند مقال"في مقام الحيرة" للأستاذ عدنان المنصر وهو من المقالات التي كتبت حول كتاب "حيرة مسلمة "لألفة يوسف. وقد شدّني المقال لما اتّسم به من الرّصانة الأكاديمية والبعد عن المهاترات . فأردت أن أتحاور معه في بعض النقاط التي أثارها، وفي منطلقات نقده للكتاب
تميّز مقال الأستاذ عدنان المنصر بالأدب واللطف ولم نلحظ فيه عنفا ولا تهجّما رغم اختلافه مع المؤلّفة في عديد القضايا. وهذا شيء محمود أريد أن أسجّله في ظلّ حمّى المهاترات التي حفّت بالكتاب. وقد عبّر عن احترازاته بكثير من الكياسة، فالقارئ يلاحظ عدم ارتياح الأستاذ عدنان لاقتصار ألفة يوسف على تناول القضايا الخلافيّة الشّائكة، وإكثارها من إلقاء الحجارة في المياه الرّاكدة التي يمكن أن تزعزع صرح إسلام المرء، وتشكيكها في اعتبار الإجماع أصلا من أصول التشريع كذلك يسجّل أنّها لم تعتمد المراجع التي سبقتها في طرح الموضوع، ولكن كلّ هذا ورد في صيغ أقرب إلى ملاحظة الظاهرة منها إلى الاعتراض الصّريح. وفى النقاش سعى إلى تلطيف كلامه بكثير من صيغ الاستغراب والتذكير والتلميح. وكان يحمل ما ذهبت إليه على سبيل التّغافل أو الإهمال أو التّهاون حتّى يخفّف من حدّة ما اعتبره ابتعادا عن الصّواب.
ولم يمنعه كل هذا اللّطف من أن يناقشها في كثير من القضايا، منها خاصّة موقفها من الفقهاء والمفسّرين، وموقفها من العلاقة الزّوجيّة في الإسلام، وعلاقة الرّجال بالنّساء عموما، والمهر، وزواج المتعة، وتعدّد الزّوجات. وفى نقاش الأستاذ عدنان المنصر الكثير من المنطق.. ولكن هنالك بعض المسائل أريد أن أتوقّف عندها، وخاصّة ما بدا لي تناقضا محوريّا في تعامله مع الموروث الديني، تناقضا بين التعامل معه بمنطق إيماني ينزّله في مجال الحقائق المطلقة التي من المفروض أن لا نبحث لها عن مبرّرات، والتّعامل معه كإرث فكري يمكن ربطه بسياقه التاريخي وتفهّم العوامل التي أنتجته.
من الواضح أن الأستاذ عدنان عند الحديث عن الفقهاء يحاول أن ينزّل اجتهادهم في مجال الفعل الإنساني المحدّد بسياق تاريخي والمحكوم بطبيعة النّظام الاجتماعي الذي عاشوا فيه. ولا يستغرب منه هذا الموقف وهو مدرّس التاريخ، فهو يرفض أن يكون اجتهاد الفقهاء تضييقا للعموم الإلهي إلى مخصوص بشري كما ذهبت إلى ذلك ألفة يوسف. ويتساءل ونتساءل معه: "ما حدود عمليّة العموم الالهى إذا لم يترجم نصوصا عمليّة تجيب على مشاكل الوقت؟" .و يبدو موقفه مقنعا فالحكمة المطلقة لا بدّ أن تجد لها صيغا مخصوصة تطبّق بها في الواقع، والمقاصد القرآنية لا بدّ أن يتمّ تثبيتها في أحكام دنيويّة. ونستنتج من موقفه هذا أنّه يعطي أهميّة للتطوّر التاريخي ولارتباط الأحكام بالواقع المتغيّر، ويلوم ألفة يوسف لأنّها تدين استجابة الفقهاء لضرورات الواقع، وكذلك لأنها لا تعطى قيمة لتطوّر وضع المرأة في الإسلام مقارنة بفترة ما قبل الإسلام، ومقارنة بوضعها في الإنجيل والتّوراة.
ونحن نؤيّد الأستاذ المنصر في اعتبار أن ظهور الإسلام مثّل نقطة تحوّل في حياة النّساء وأنّه شرّع العديد من الأحكام التي تحسّن وضع المرأة، ونحمد له التذكير بذلك. إن التّشريع الاسلامى يعدّ نقطة مضيئة في العصور الإسلامية الأولى، وذلك لأنّه تماشى مع ما تطلّبه واقع الحياة إذّاك، ومثّل عامل تطوير للمجتمع، فحرّم عادات كانت سائدة مثل الوأد، وأقر تشريعات جديدة مثل حق المرأة في الميراث، إنّ عدنان المنصر محقّ في الاعتزاز بهذا الفضل للتّشريع الاسلامى في مواكبة العصر، ولكن هذا الاهتمام بالبعد الاجتماعي والتاريخي يختفي تماما عند الحديث عن واقع المرأة المعاصرة، ما إن نتجاوز الحديث عن العصر الاسلامى الأوّل ويقع الحديث عن الحقوق الاجتماعيّة المعاصرة حتى نشهد انتقالا من المنطق التاريخي إلى المنطق العقائدي، والى القول بإطلاقيّة الأحكام. وضرورة تساميها عن الواقع والتاريخ وضرورة قبولها كحقائق مسلّمة لا ينبغي إعادة النّظر فيها. ويختفي تماما المنطق الذي يبارك التّطوّر ويساير سنّة الحياة.
نشهد انتقالا مفاجئا من مستوى التحليل التاريخي والاهتمام بالعوامل الاجتماعيّة ونمط العيش وخصوصيّة العصر والبيئة خاصّة خلال تطرّق الأستاذ عدنان لمؤسّسة الزواج. يستنكر الأستاذ مقارنة الزّواج بالعبوديّة ويقول:"المرأة عبد؟ كم في الأمر من مبالغة مهما اجتهدت المؤلّفة في إيجاد كل أوجه الشّبه الممكنة" ويرى أنّ السّياق لا يحتمل المقارنة لأنّ العلاقة الزّوجيّة هي أساسا علاقة طوعيّة اختياريّة، وانّ أيّ خلل فيها إنّما يداوى بأبغض الحلال.8
ورغم الحجّة البلاغية المتمثلة في أسلوب الاستفهام الذي يفيد الاستغراب والتعجّب، فإننا نعجز عن كتم سؤال للأستاذ: أيّ زواج عرّف هنا؟ هل هذا هو تعريف الزّواج حسب الشّرع الإسلامي؟ أم إنّه عرّفه حسب ما يمكن أن يسمح به واقع دولة يعدّ قانونها في نظر الكثير من جهابذة الإفتاء الاسلامى، كفرا ومروقا.
- إنّنا عندما ننظر إلى النّصوص التي تؤسّس للزّواج في التّشريع الاسلامى لا نجد فيها أي أثر لهذا الحيّز من الحرية المستفاد من تعريف الأستاذ بالنّسبة للمرأة. إنّ حقوقها وواجباتها في هذه النّصوص لا تختلف عن العبد إلاّ في كونها لا تباع ولا تشترى. وقد فهم الفقهاء القدامى هذا وصرّحوا أن الزّواج هو نوع من الرّق وهذا ما نجده في كتاب :"إحياء علوم الدّين" للإمام الغزالي :" الزّواج نوع رقّ..." و الواقع التاريخي يبيّن أنّ مثل هذا التعبير ليس من قبيل الاستعارة أو المجاز بل هو واقع تعيشه النساء ويحافظ عليه الشرع ويعاقب من تخرج عليه .
يمكّن الشرع الزّوج من أن يتحكّم في كل ما يخصّ المرأة في حياتها وحياة أولادها. وليس للمرأة الحرّية في جسمها، فلا حقّ لها في أن تمتنع عن العلاقة الجنسيّة، ولا عن الإنجاب، ولا حقّ لها في التنقّل و لا الشّغل، ولا طلب العلم بدون إذن زوجها، بل له السّلطة عليها حتّى في علاقتها بربّها فهو يستطيع أن يمنعها من القيام بواجب ديني إن أراد، والأهم من كلّ ذلك أنّها لا تستطيع أن تفسخ هذا العقد. تزوّج المرأة شرعا بأمر وليّها ،فرضاه أهم من رضاها، ثم هي لا تستطيع أن تتمتع حتى بحرية أبغض الحلال.
قد يرى الأستاذ في هذه الصّورة القاتمة ما يمكن أن يزعزع "صرح إسلام المرء" ولكن ليس هذا قصدي. إنّي أرى أنّ الصّمت عن مثل هذه الأحكام التي تحكّم الرّجل في المرأة رغم أنها صارت فاعلة في المجتمع وقادرة على التّمييز بين الضّار والنّافع وقادرة على حماية نفسها ،هو الذي يمكن أن يضر بالدين والمجتمع . إن الواقع الذي تعيشه المرأة، والوعي الذي أحرزته بحكم خروجها للتّعليم والشّغل يجعل من الضروري أن تخرج من منزلة القاصر، وإخفاء هذه الحقيقة يشبه من كان له دمّل ولم يعالجه بل أخفاه، لم لا نرى في معالجة هذه القضايا الاجتماعيّة إعلاء لشأن الإسلام وبناء لصرحه؟!
ركّزت على هذه النّقطة كنموذج في تناول القضايا وهذا ما أردت أن أناقشه. لأنّ الذي يهمّني هو المنهج في الطرح وليس مسائلة القضايا نفسها. وقد لاحظت إن عديد القضايا الأخرى كتعدّد الزّوجات، والمهر... لا تطرح لتناقش وإنّما لتبرّر. وليس أدل على ذلك من دفاع الأستاذ عدنان عن توزيع السلطة في المجتمع بين الرجال والنساء، فقد قال: هل نعرف اليوم مجتمعا غير إسلامي انقلبت فيه طبيعة توزيع السلطة الاجتماعية تلك مهما بلغ هذا المجتمع تطوّرا وتحديثا ؟ لا يتعلق الأمر بالقرآن وهو ليس حكرا على المسلمين."طرح الأستاذ سؤالا، ثم أجاب عنه بموقف عقائدي، والتصريح بهذا الموقف، مهما كانت صحّته، في شكل إجابة عن مثل هذا السؤال من شأنه أن يعطل كل تأمّل في تجارب الشعوب الأخرى ،ويقصي كل إمكانية تفكير، وسعي في تغيير هذا الاختلال الذي ينخر توازن الأفراد، والأسر، والمجتمعات. و يلغي إجابة أخرى هي أنّه، حتى وإن لم يتعلق الأمر بالقرآن، فإن توزيع السلطة في مجتمعات غير أسلامية لعلّها لم تنقلب تماما ولكنّها تغيّرت، وشتّان بين شعوب ما زالت تناقش هل تستطيع المرأة أن تقود السيارة وشعوب تنتخب المرأة لرئاسة الجمهورية
كذلك لفت نظري موقفه من الحداثة، إنّنا نشتمّ نوعا من الارتياب في الحداثة كأنّها تمثّل العدو الغاشم الذي يتربّص بالإسلام، وهنا أتساءل عن مفهوم الحداثة. الحداثة بما هي ظهور للجديد، أليست هي سنّة الحياة. والإسلام نفسه ألم يكن حديثا عند ظهوره. إن كلّ حديث إنما هو عامل تطوير وحياة.وهل نمثّل نحن فقط الماضي حتّى نخاف من الحداثة؟
- وأقول للأستاذ عدنان : إذا كان له اعتراض على الحداثة الغربيّة، فالحداثة يمكن أن تكون خاصّة بنا، لم الإصرار على اعتبار أنّ خصوصيتنا هي الموروث، والمحافظة على الماضي. ألم يكن للغربيين ماض وموروث عندما أسّسوا حداثتهم ألم يحن الوقت لنعيش دون أن نقيس على أجدادنا ونربي أبناءنا لزمن غير زماننا؟

jeudi 7 mai 2009

ديمقراطية الفتوى

ديمقراطية الفتوى

عدنان المنصر

مقال صادر بصحيفة الموقف التونسية بتاريخ 25 أفريل 2009

لعل المتابع للساحة الإسلامية يلاحظ منذ بعض الوقت شيوع ممارسة جديدة يبدو أن الإنفجار الإعلامي الذي نشهده منذ عشرية على الأقل قد شجع عليه: لقد أصبح المفاتي في كل مكان.حتما هناك حاجة للإفتاء، وهي حاجة ملحة أحيانا لكثير من المسلمين الذين عادة ما يتوجهون إلى علماء الشريعة بأسئلة محددة يطلبون إجابات واضحة عليها بما يسمح لهم بتحقيق حالة معينة من التوازن بين ضرورات الحياة المعاصرة ومقتضيات التمسك بالتعاليم الإسلامية المنظمة للعبادات والمعاملات.

لقد أصبح الإفتاء ظاهرة مثيرة للإنتباه منذ وقت غير بعيد. ورغم أن الممارسة قديمة قدم الإسلام نفسه فإن تحولها إلى ظاهرة ملفتة إنما يبدو رهين تطور وسائل الإتصال الحديثة التي أصبح بمقدورها ليس نشر نصوص الفتاوى فحسب وإنما أيضا ربط صلة مباشرة بين المفتي والمستفتي بما يحقق نوعا من "ديمقراطية الفتوى". يمكن اليوم أن يلقي المستفتي بسؤاله إلى الشيخ عبر موقعه الإلكتروني، وكثير من المشايخ قد دخلوا بعد عصر الكمبيوتر على الأقل كأداة نشر، أو برفع سماعة الهاتف والإتصال بالمشايخ الذين أصبحوا يملؤون علينا الشاشات و"يبدعون" في إيجاد الحلول، سعيدها وشقيها، للمسلمين الحائرين. لا نناقش في هذا المقال جدوى الفتوى من عدمها، فالمسألة وإن لم تكن فقهية فحسب فإنها تحقق استجابة لدى حاجة واقعية لقسم كبير من الناس. ما سنحاول تناوله بالخصوص يتعلق بجدوى ومغزى اتجاه معين في الإفتاء نعتقد أنه يرمي إلى تحقيق حاجات بعيدة عن المشاغل الفقهية الحقيقية للمسلمين ويحول "مؤسسة الإفتاء" إلى خادم أمين وطيع في يد مراكز قوى بعينها لا يهمها الفقه ولا الشرع ولا الإسلام بقدر ما يهمها استغلال ذلك كله وما يسمح به من سيطرة على مجموع الناس المعنيين به من أجل السيطرة على مساحة واسعة في الوعي الجمعي.

والحقيقة أن ما نعني به من عبارة "مراكز قوى" يتجاوز الحكومات والأنظمة ليصل إلى كل الهياكل القادرة على بلورة فهم معين للإسلام يحقق لها فائدة مباشرة، سواء كانت تلك الفائدة سياسية، إقتصادية أو حتى معنوية. لم تعد مهمة المفتي سهلة فيما يبدو، بل لعلها لم تكن كذلك أبدا. فهو تحت ضغط دائم ليس من جانب عامة الناس فقط وإنما من تلك المراكز التي تتوجه إليه في مناسبات معينة، من أجل الحصول على غطاء شرعي لقرار اتخذ أو يهيأ لاتخاذه. يذكر الجميع تجربة بورقيبة في هذا الشأن، عندما حاول الحصول على موافقة رجال الشرع، وبخاصة "مفتي الجمهورية" آنذاك على بعض اجتهاداته، وكان ذلك بمناسبة إصلاح الأحوال الشخصية ولاحقا مسألة صوم رمضان للعمال. لمثل تلك الحاجات تقع العودة إلى المفتي، ولمثل تلك الحاجات وجد المفتي أصلا. فالمفتي بهذه الصيغة، صيغة اسم الفاعل، إنما هو موظف كغيره من موظفي الدولة، غير أن مجال اختصاصه مختلف عن بقية الموظفين. لعل المفتي ظهر عندما تبين للدول أن البراغماتية السياسية تقتضي منها إنهاء حالة معينة من "فوضى الإفتاء" التي كانت تجعل من كل المتفقهين، ومن غيرهم، يعتقدون أن بإمكانهم إصدار نصوص فتوى. كانت هناك حاجة لمأسسة الممارسة فظهر المفتي. ولا يهم إن كانت الدولة هي من يوظف المفتي أو أن مؤسسة أخرى، تقع هي ذاتها تحت سيطرة تلك الدولة مثلما هو حال المفتي في بعض بلدان المشرق (الأوقاف)، فالأمر يبدو من هذه الناحية شكليا طالما أن التوظيف يعني إمكانية العزل ودفع الرواتب. ولو عدنا إلى التجربة التونسية لرأينا أن بورقيبة لم يحدث منصب مفتي الجمهورية إلا لتجاوز المعارضة التي لقيتها إصلاحات الأحوال الشخصية، حيث عبر بصراحته المعهودة على طبيعة المهمة المنتظرة من "الممثل الرسمي للإسلام" في تونس.

هكذا إذا فقد كان تركيز الإفتاء كمؤسسة رسمية مرحلة ضرورية في المسيرة نحو تطويع الممارسة التشريعية الدينية وربطها بحاجات الدولة. يظهر ذلك بوضوح كبير اليوم، في كثير من بلاد عالمنا العربي الإسلامي. بل لعل بعض البلدان تضم بالإضافة إلى المفتي موظفين دينيين آخرين لا يقلون عنه نفوذا. فنجد على سبيل المثال أن أكبر وظيفتين دينيتين في مصر هما شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية، ويكفي أن يستذكر إسما الرجلين ليفهم الدور الحقيقي الذي يطلب من مثلهما أداءه عادة. أما في المملكة السعودية فإن رئيس هيئة كبار العلماء ومفتي المملكة هو الممثل الرسمي للمؤسسة الدينية، وتعتبر فتاويه أعلى قيمة نظريا من بقية الفتاوى.

إن ما ينبغي التأكيد عليه هنا أنه لا حدود للخدمات التي يمكن أن يقدمها المفتي الرسمي لسلطة محرجة في مجتمع متدين. يمكن العودة إلى ظرفية غزو العراق الأول وسنرى عدد الفتاوي التي صدرت عن ممثلي الإسلام الرسمي في "جواز الإستعانة بالكافر على المسلم الباغي"، وإلى ظرفية اتفاقية كامب دافيد لنلاحظ "الإجتهادات" والقياسات الطريفة عندما أصبحت تلك الإتفاقية شبيهة بصلح الحديبية (يفترض ضمنا أن السادات يعوض، هنا، الرسول). كما يمكن الإطلاع على بعض مواقف نفس الدول من حرب لبنان (2006) والعدوان الأخير على غزة من خلال الفتاوي الرسمية التي صدرت إبانهما، فقد أفتى أحدهم بعدم جواز الدعاء بالنصر لحزب الله، باعتباره من "الشيعة الروافض المارقين عن الدين القويم"، كما أفتى آخر بأن التظاهر من أجل نصرة غزة إنما هو من قبيل الإفساد في الأرض وشغل المسلمين عن أعمالهم، وأخيرا صدرت عن نفس الأوساط فتوى تعتبر "الجهاد الإلكتروني" ضد المواقع الأمريكية والصهيونية على شبكة الأنترنت غير جائز شرعا. لقد أنستنا تلك الإبداعات فتوى الرضاع !

وبقدر ما تعبر تلك "الإجتهادات" عن حد أدنى من البراغماتية (بغض النظر عن "عقلانية" المسلك) فإن بإمكانها أن تعبر أيضا على أقصى درجات الإنغلاق، والمسلكان، على عكس ما يبدو عليه الأمر، متوازيان تماما. نذكر في هذا الإطار "إبداعين" يدلان على حرص أكيد لدى مؤسسة الفتوى، أحيانا وفي بعض البلاد، على الدخول في أدق الخصوصيات الفردية التي لا نعتقد، مع إقرارنا بعدم امتلاكنا لما يعادل قدرة أساطينها على "التفكير السليم"، أنها تتناقض مع السلوك الشرعي. تتعلق الأولى بتحريم الإحتفال بعيد الحب Saint-Valentin من منطلق أنها عادة نصرانية وأن "من تشبه بقوم فهو منهم"، وتغافلا عن مبدأ "تهادوا تحابوا". أي منطق يجعل الإسلام عدوا للحب مترصدا له؟ أما الفتوى الثانية فقد تفتقت عنها قريحة أخرى اعتقدت أن ممارسة العلاقة الزوجية دون ملابس يجعل العلاقة الزوجية غير شرعية.كم وددنا أن يعلمنا سماحته كيف نفعل ذلك بكامل ملابسنا ! تحضرنا في نفس السياق فتوى "على الهواء" بضرورة إنفاذ قسم الطلاق لمجرد أن الزوجة لم تحضر للزوج المتقدم بالإستفسار كوبا من الماء بنفسها متحدية قسمه ومرسلة بالكوب مع أحد أبنائها. بدا الرجل نادما متحرجا، ولكن سيف المفتي سبق عذل المستفتي. كم نرثي لذلك الرجل الذي قد يكون طلق زوجته من أجل كوب ماء، وكم نرثي له حتى وإن لم يطلقها، لأنه ربما كان يعيش على وهم ذنب عظيم لم يرتكبه، غير أن رثاءنا الأكبر يتوجه إلى من يفترض أن يكون أحرص الناس على نشر قيم الحب والعدل والعطف، ماذا عساه يبقى من الإسلام إذا ذهب كل ذلك ؟

هل ندين بنفس الإسلام؟ هل نقدر الحياة الزوجية والعائلة بالقدر نفسه؟ هل نملك نفس المشاعر؟ كم تبدو مريرة تلك الأسئلة التي تنتابنا من حين لآخر فتعكر، على الأقل، صفو نفوسنا وتزيد الإسلام غربة على غربته. قد يحتج العض بأن الحالات المذكورة شاذة من النوع الذي يحفظ، غير أن ما نراه رأي العين هو ذلك المسار المخيف الذي اتفق أنه في زمن ما حول المسيحية من ديانة رقيقة تقوم على شعور متعال بالذات الإنسانية إلى أقسى المعتقدات وأكثرها قهرا لمعتنقيها. كم هي بشعة تلك الصور التي تنتشر هنا وهناك عن عمليات الرجم الجماعي لبعض النساء بشبهة الزنا في العراق وغيره، غير أن الأبشع هو تحول الإسلام إلى ذريعة لوحشية الدهماء المستفزة. كم هي مؤلمة صور قطع الأيدي والأطراف بدعوى تطبيق أحكام الشريعة، غير أن الأكثر إيلاما هو تحول الإسلام من دين رحمة ومحبة إلى دين حدود لا يقتص سوى من المساكين.

لا يجب أن نسغرب بعد ذلك أن ينتشر إستعمال الفتوى خارج مجال سيطرة الدولة ويصبح أداة في يد الجماعات المتطرفة المسلحة، ذلك أن المنطق الكامن وراء السلوكين هو نفسه. هناك حاجة إلى تقنين التعليمة الدينية ومركزتها واستغلالها من طرف دولة أو مشروع دولة. ولكن في المقابل هناك قبول كبير لدى مجموع المحكومين بذلك طالما كان العنوان هو "تطبيق الشريعة". من الجانبين، لا يبدو أن الوضع يبرر، لسوء الحظ، أي إحساس إشكالي. ما ينسى، في خضم ذلك كله، أن الإسلام رحمة ومحبة، وأن الله لا يمكن أن يحتكر أو يسجن، وأن ما يقال لا يغني عن فهم ما يراد وما يحدث.

vendredi 27 février 2009

عرق المقهورين

عرق المقهورين
عدنان المنصر
نشر بصحيفة الموقف التونسية بتاريخ 27 فيفري 2009

عن المغاربية للطباعة والإشهار صدر مؤخرا كتاب للباحث الأزهر الماجري، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة منوبة، بعنوان "عرق البرنوس"، وهو ترجمة لكتاب بول فينيي دوكتون Paul Vigné d’Octon (1859-1943)الصادر في بداية القرن الماضي (1911) والذي حاول فيه أنذاك توثيق البعض من مظاهر القهر الإستعماري في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-1940) والذي حمل عنوان La Sueur du burnous : les crimes coloniaux de la IIIe République. أحدث الكتاب في حينه ضجة كبيرة في الأوساط الإستعمارية نظرا للجرأة التي تميز بها في فضح التجاوزات الإستعمارية من خلال النموذج التونسي وخروجه عن "ضوابط" الكتابة الفرنسية حول الشأن الإستعماري.
لهذه الترجمة قصة ذلك أن معرب النص وقع صدفة عن نسخة من الكتاب المذكور في مكتبة شركة الفسفاط، عندما أجبر على الإنتقال للعمل في المتلوي في إطار نقلة عقاب بسبب نشاطه النقابي في قطاع التعليم الثانوي. غير أن الكتاب كان معروفا لدى المختصين في حقل التاريخ المعاصر وخاصة من أساتذتنا حيث نجده مثبتا في قائمات المصادر المستخدمة لإنجاز أطروحاتهم. من المفيد أن نشير هنا إلى أن كتاب دوكتون الذي عومل بكثير من الإزدراء من طرف الأوساط الإستعمارية لم يكن مصيره أفضل بكثير لدى الاحثين التونسيين عموما حيث يوضع عادة في صنف الكتابات السياسية التي لا يمكن الوثوق بها. بالرغم من ذلك فإن صاحب الكتاب، النائب في البرلمان الفرنسي ذي الميولات الإشتراكية والفوضوية، قد أنجز كتابه هذا في إطار بعثة تقصي حقائق قادته إلى شمال إفريقيا بصفة متقطعة بين 1907 و 1909. وقد سمحت له مهمته تلك بالإستماع إلى الكثير من الشهود ومعظمهم من التونسيين عن عمليات سوء التصرف والرشوة والإستبداد والإستغلال التي كانت تثقل كاهل الفئات الريفية الفقيرة. يعود للأستاذ الأزهر الماجري الفضل في بعث هذه الوثيقة من جديد وإتاحته كنص مصدري أمام الباحثين والطلبة ومجموع المهتمين بالحقبة الإستعمارية في بلادنا. ولكن مهمة الأستاذ الماجري لم تقف عند حدود التعريب الذي كان جيدا من وجهة نظرنا، بل في القيام بجهد بحثي ترجمت عنه عملية التحقيق التي توخى القيام بها أحيانا وكذلك وضع فهارس ثرية تساعد على مطالعة الكتاب والولوج إليه بيسر أكبر.
هذا الكتاب هو أحد الأجزاء الثلاثة المكونة للنص النهائي لتقرير دوكتون، حيث خصص المؤلف الجزء الثاني والثالث للجزائر والمغرب.يمكن تقسيم الكتاب إلى محاور اهتمام متعددة تلتقي جميعها في توضيح أبعاد العملية الاستعمارية وتأثيراتها على حياة التونسيين. فقد اهتم المؤلف بتحليل أوجه الفساد الإداري في إدارة الحماية والإدارة التونسية، مبينا أوجه الإرتباط يين النظام الإستعماري وبين ظاهرة الفساد. كما تعرض إلى قصية الإستيلاء على الأراضي التونسية من طرف كبار المعمرين والشركات الرأسمالية وبتسهيل من رجال السياسة والإدارة. كما تناول دوكتون قطاع المناجم والسكك الحديدية من خلال مثال شركة فسفاط قفصة ومعاناة الخماسة، إضافة لمواضيع سياسية وقانونية مثل قضية العدلية التونسية ووضع الصحافة وتقييم نقدي لحركة الشاب التونسي.
يلاحظ المطلع على الكتاب تركيز المؤلف على أوضاع الجنوب التونسي، وقد برر ذلك بقوله أن هذه المنطقة هي الأكثر تعرضا للعسف والاضطهاد بسبب بعدها عن العاصمة حيث تتركز السلط وأجهزة المراقبة وحيث يمنع التطور النسبي للرأي العام من وقوع الكثير من التجاوزات أو يخفف
منها في الحد الأدنى. والواقع أن هذه المنطقة كانت باستمرار مسرحا لأبشع أنواع المظالم ضد التونسين، ولا يتوقف الأمر على القبائل المترحلة التي كانت ترى مراعي قطعانها تتبخر بيد الشركات الإستعمارية، ولا على سكان الواحات الرازحين تحت سطوة سلطات مرتشية وفاسدة. فقد أدى الشروع في استغلال الفسفاط وتركيز السكة الحديدية إلى تركيز بروليتاريا متعددة الأصول كانت عرضة لظروف عمل قاسية ولاستغلال متصاعد. يمكن القول أن منطقة الجنوب كانت تشكل خلاصة وضعية النهب الإستعماري والتفقير المسلط على التونسيين. هناك درجة كبيرة من القهر تبدو من خلال وصف الكاتب لحياة هؤلاء السكان، وهو يفضح بالمناسبة جميع أشكال التحالفات التي لا يستمر نظام الفساد من دونها. يطلق المؤلف على المنطقة المنجمية تسمية "الأرخبيل السجني"، في تشبيه واضح بالنظام الإحتشادي، ويسهب في وصف مآسي العمال-المعتقلين الذين تبتلعهم كل يوم فوهات الموت. "أيها الداخلون إلى معتقل قفصة أتركوا آمالكم خارج الباب"، ذلك ما استخلصه المؤلف من تجربته حول بشاعة الإستغلال الإستعماري لليد العاملة المتنوعة ومن انتشار الفساد الذي كان يعتبر مكملا لمنظومة القهر. يبقى العامل باستمرار عرضة لابتزاز الشركة وأعوانها، بدءا من التوظيف الذي لا يمكن أن يتم دون دفع الرشى، وانتهاء بعمليات الإقتطاع الظالمة لأجزاء من الأجر لأتفه الأسباب. تبدو منطقة الجنوب بهذا المعنى عبارة عن منجم شاسع في الهواء الطلق، لا تستغل فيه ثروات الطبيعة فحسب، بل أيضا السكان المحليون أو المستوطنون ذوو الأصول الطرابلسية والجزائرية والمغربية. يلخص الأمر كنه العملية الإستعمارية بوصفها عملية سيطرة واستغلال شاملين يغطيهما الفساد وأنظمة العلاقات المشبوهة والمحمية من السلطة العليا.
تبدو السلطة في هذا الفضاء، مهما اختلفت درجاتها وأشكالها، تونسية أو فرنسية، سلطة تنظم النهب والتفقير والفساد الذي يشترك في جني محاصيله أيضا نواب البرلمان وأعضاء الحكومة في باريس، وهم الذين يسميهم المؤلف "باللصوص الرسميين". لقد أنجزت كامل البنية التحتية للإستغلال الإقتصادي الإستعماري على كاهل دافعي الضرائب التونسيين الذين رأوا أموالهم تتحول نقمة عليهم. ويحيط بهذا النظام سور من القوة الباطشة بكل محتج أو غاضب قد تسول له نفسه التساؤل عن عدالة النظام السائد. لا يفيد هنا أن نعيد التذكير بأن هذا الوضع كان مغطى ببناء كامل من التبريرات التمدينية التي لم تستطع في الحقيقة أن تمنع تطور الحماية الفرنسية إلى الوضع الحقيقي الوحيد الممكن في النمط الإستعماري: استغلال بشع لكل المقدرات ولكل السكان، سيطرة قاسية على كل مفاصل الإدارة، تحالف مع فئات من الأعيان الكواسر الذين لا غنى لكل نظام استعماري عليهم من أجل تحقيق الهيمنة القصوى على السكان.
يسهب دوكتون في تحليل النظام السجني بالبلاد التونسية، وقد جاء وصفه لحالة عدد من السجون مستندا لزيارات قام بها للبعض منها، مستفيدا دون شك من صفته البرلمانية، مستخلصا في النهاية أن وضعية مآوي الخنازير في أرياف فرنسا أفضل حالا بكثير من هذه الفضاءات التي يتكدس داخلها السجناء وقوفا لضيق المساحة: "إنها عبارة عن خراب ومواقع قاذورات تفتقر للحد الأدنى لشروط الحياة الطبيعية مثل التهوئة والنور". طبيعي أن يهلك عدد من المساجين في هذه المعتقلات لأن القايد أو نائبه نسيا أو تناسيا تقديمهما للمحاكمة، كما أنه من الطبيعي أن تتحول تلك المعتقلات إلى بؤر لجميع الأمراض المعدية وخاصة التيفوس.
هل فعل هؤلاء ما يستدعي مضاعفة العقاب بهذه الطريقة؟ يذكر دوكتون أن معظم من التقاهم من معتقلين كانوا كذلك بسبب عدم دفعهم للضرائب، وهي جريمة لا تستحق كل تلك الدرجة من التشفي في عرف الدول المتحضرة والمتخلفة على حد سواء، وكذلك بسبب التجاسر على بعض الأعوان الإداريين التونسيين. لقد كان الهدف هو تحطيم كل إرادة لدى التونسيين، وتحويلهم إلى سوائم تشقى وتعرق ثم تموت. لقد نجح نظام الحماية بوضوح في جلب ولاء عدد من التونسيين إلى صفه، منيطا بهم القيام بكل الجهد الذي يضمن بقاء السيطرة الإستعمارية على الأرض وعلى السكان، والأمثلة عن هؤلاء التونسيين من كواسر المدن والأرياف كثيرة في الكتاب. كان واضحا أن ذلك التحالف هو ما مكن النظام الإستعماري من البقاء فقد كان تحالف مصالح وقع تشييده على كواهل المقهورين ومن أجل استنزاف كل مقدراتهم. تبين مسألة الإستيلاء العقاري شدة قوة هذا التحالف حيث تتحول أخصب أراضي القبائل إلى أراض استعمارية وحيث يفوز ممثلوا السلطة من التونسيين بأجود القطع باستعمال نفوذهم وكل الحيل الممكنة يحميهم في ذلك نفوذهم واحتكارهم لاستعمال القوة والقدرة على السجن وتغاضي الإدارة العليا.
لم يكن للتونسيين من يدافع عنهم في وجه نظام السيطرة القاسي ذاك. عندما أنجز دوكتون تحقيقه كانت قد بدأت في البروز حركة النخبة المثقفة التونسية التي أطلق عليها اسم حركة الشباب التونسي. من المثير ملاحظة النقد الشديد الذي يوجهه الكاتب لرموز هذه الحركة واتهامه لهم بإدارة ظهورهم لمعاناة إخوانهم التونسيين والإكتفاء عوضا عن ذلك ببعض الخطابات والمقالات التي لا تغير من وضعهم القاسي شيئا. يفضح دوكتون مجاملات الشبان التونسيين للإدارة ورموز النسق الإستعماري وتجاهلهم لبؤس التونسيين في المدن والأرساف والمناجم واستبطانهم الإيديولوجيا الإستعمارية: "تمثل هذه الفئات الفقيرة الأغلبية الساحقة في المجتمع أما أنتم والشرائح المدينية التي تمثلونها وتدافعون عن مصالحها فلستم إلا قلة. لا شك أن تأطير هذه الجموع المفقرة وتنظيم غضبها من طرف مناضلين أكثر مصداقية والتزاما سيخلق بالضرورة قوة تحرر ضاربة. هذا هو واجبكم ودوركم الحقيقي أيها الشباب التونسي. يجب أن تكونوا المعبرين الحقيقيين على هذا الألم الريفي الصامت، وهذا الغضب المشروع، وتوظيفه للضغط على المستعمر حتى يكون أقل وحشية وأكثر انسانية. ولئن لم تغير الطرق السلمية شيئا من واقع الأمر عندها يكون من حقكم اللجوء إلى الثورة وهي السلاح الأخير الذي تستعمله كل الشعوب المضطهدة لمقاومة جلاديها"(ص 253-254).
من المفيد للأجيال الشابة اليوم أن تطالع هذا الكتاب حتى تعرف حجم المعاناة التي عاشها آباؤنا وأجدادنا طيلة حوالي القرن من الزمن، بل منذ ما قبل الحماية الفرنسية. ورغم ما يمكن أن يوجه للكتاب من انتقادات فإنه يبقى مصدرا جديرا بأن يطلع عليه. إن ما نجح مؤلف التقرير في توضيحه هي حالة التحالف التام بين المستفيدين من قهر التونسيين واستغلالهم وزيف الإدعاءات بتمدين المقهورين وتطويرهم
.