حيرة في" مقام الحيرة"
محاورة للأستاذ عدنان المنصر
رفيقةالبحوري
أريد أن أتوقّف عند مقال"في مقام الحيرة" للأستاذ عدنان المنصر وهو من المقالات التي كتبت حول كتاب "حيرة مسلمة "لألفة يوسف. وقد شدّني المقال لما اتّسم به من الرّصانة الأكاديمية والبعد عن المهاترات . فأردت أن أتحاور معه في بعض النقاط التي أثارها، وفي منطلقات نقده للكتاب
تميّز مقال الأستاذ عدنان المنصر بالأدب واللطف ولم نلحظ فيه عنفا ولا تهجّما رغم اختلافه مع المؤلّفة في عديد القضايا. وهذا شيء محمود أريد أن أسجّله في ظلّ حمّى المهاترات التي حفّت بالكتاب. وقد عبّر عن احترازاته بكثير من الكياسة، فالقارئ يلاحظ عدم ارتياح الأستاذ عدنان لاقتصار ألفة يوسف على تناول القضايا الخلافيّة الشّائكة، وإكثارها من إلقاء الحجارة في المياه الرّاكدة التي يمكن أن تزعزع صرح إسلام المرء، وتشكيكها في اعتبار الإجماع أصلا من أصول التشريع كذلك يسجّل أنّها لم تعتمد المراجع التي سبقتها في طرح الموضوع، ولكن كلّ هذا ورد في صيغ أقرب إلى ملاحظة الظاهرة منها إلى الاعتراض الصّريح. وفى النقاش سعى إلى تلطيف كلامه بكثير من صيغ الاستغراب والتذكير والتلميح. وكان يحمل ما ذهبت إليه على سبيل التّغافل أو الإهمال أو التّهاون حتّى يخفّف من حدّة ما اعتبره ابتعادا عن الصّواب.
ولم يمنعه كل هذا اللّطف من أن يناقشها في كثير من القضايا، منها خاصّة موقفها من الفقهاء والمفسّرين، وموقفها من العلاقة الزّوجيّة في الإسلام، وعلاقة الرّجال بالنّساء عموما، والمهر، وزواج المتعة، وتعدّد الزّوجات. وفى نقاش الأستاذ عدنان المنصر الكثير من المنطق.. ولكن هنالك بعض المسائل أريد أن أتوقّف عندها، وخاصّة ما بدا لي تناقضا محوريّا في تعامله مع الموروث الديني، تناقضا بين التعامل معه بمنطق إيماني ينزّله في مجال الحقائق المطلقة التي من المفروض أن لا نبحث لها عن مبرّرات، والتّعامل معه كإرث فكري يمكن ربطه بسياقه التاريخي وتفهّم العوامل التي أنتجته.
من الواضح أن الأستاذ عدنان عند الحديث عن الفقهاء يحاول أن ينزّل اجتهادهم في مجال الفعل الإنساني المحدّد بسياق تاريخي والمحكوم بطبيعة النّظام الاجتماعي الذي عاشوا فيه. ولا يستغرب منه هذا الموقف وهو مدرّس التاريخ، فهو يرفض أن يكون اجتهاد الفقهاء تضييقا للعموم الإلهي إلى مخصوص بشري كما ذهبت إلى ذلك ألفة يوسف. ويتساءل ونتساءل معه: "ما حدود عمليّة العموم الالهى إذا لم يترجم نصوصا عمليّة تجيب على مشاكل الوقت؟" .و يبدو موقفه مقنعا فالحكمة المطلقة لا بدّ أن تجد لها صيغا مخصوصة تطبّق بها في الواقع، والمقاصد القرآنية لا بدّ أن يتمّ تثبيتها في أحكام دنيويّة. ونستنتج من موقفه هذا أنّه يعطي أهميّة للتطوّر التاريخي ولارتباط الأحكام بالواقع المتغيّر، ويلوم ألفة يوسف لأنّها تدين استجابة الفقهاء لضرورات الواقع، وكذلك لأنها لا تعطى قيمة لتطوّر وضع المرأة في الإسلام مقارنة بفترة ما قبل الإسلام، ومقارنة بوضعها في الإنجيل والتّوراة.
ونحن نؤيّد الأستاذ المنصر في اعتبار أن ظهور الإسلام مثّل نقطة تحوّل في حياة النّساء وأنّه شرّع العديد من الأحكام التي تحسّن وضع المرأة، ونحمد له التذكير بذلك. إن التّشريع الاسلامى يعدّ نقطة مضيئة في العصور الإسلامية الأولى، وذلك لأنّه تماشى مع ما تطلّبه واقع الحياة إذّاك، ومثّل عامل تطوير للمجتمع، فحرّم عادات كانت سائدة مثل الوأد، وأقر تشريعات جديدة مثل حق المرأة في الميراث، إنّ عدنان المنصر محقّ في الاعتزاز بهذا الفضل للتّشريع الاسلامى في مواكبة العصر، ولكن هذا الاهتمام بالبعد الاجتماعي والتاريخي يختفي تماما عند الحديث عن واقع المرأة المعاصرة، ما إن نتجاوز الحديث عن العصر الاسلامى الأوّل ويقع الحديث عن الحقوق الاجتماعيّة المعاصرة حتى نشهد انتقالا من المنطق التاريخي إلى المنطق العقائدي، والى القول بإطلاقيّة الأحكام. وضرورة تساميها عن الواقع والتاريخ وضرورة قبولها كحقائق مسلّمة لا ينبغي إعادة النّظر فيها. ويختفي تماما المنطق الذي يبارك التّطوّر ويساير سنّة الحياة.
نشهد انتقالا مفاجئا من مستوى التحليل التاريخي والاهتمام بالعوامل الاجتماعيّة ونمط العيش وخصوصيّة العصر والبيئة خاصّة خلال تطرّق الأستاذ عدنان لمؤسّسة الزواج. يستنكر الأستاذ مقارنة الزّواج بالعبوديّة ويقول:"المرأة عبد؟ كم في الأمر من مبالغة مهما اجتهدت المؤلّفة في إيجاد كل أوجه الشّبه الممكنة" ويرى أنّ السّياق لا يحتمل المقارنة لأنّ العلاقة الزّوجيّة هي أساسا علاقة طوعيّة اختياريّة، وانّ أيّ خلل فيها إنّما يداوى بأبغض الحلال.8
ورغم الحجّة البلاغية المتمثلة في أسلوب الاستفهام الذي يفيد الاستغراب والتعجّب، فإننا نعجز عن كتم سؤال للأستاذ: أيّ زواج عرّف هنا؟ هل هذا هو تعريف الزّواج حسب الشّرع الإسلامي؟ أم إنّه عرّفه حسب ما يمكن أن يسمح به واقع دولة يعدّ قانونها في نظر الكثير من جهابذة الإفتاء الاسلامى، كفرا ومروقا.
- إنّنا عندما ننظر إلى النّصوص التي تؤسّس للزّواج في التّشريع الاسلامى لا نجد فيها أي أثر لهذا الحيّز من الحرية المستفاد من تعريف الأستاذ بالنّسبة للمرأة. إنّ حقوقها وواجباتها في هذه النّصوص لا تختلف عن العبد إلاّ في كونها لا تباع ولا تشترى. وقد فهم الفقهاء القدامى هذا وصرّحوا أن الزّواج هو نوع من الرّق وهذا ما نجده في كتاب :"إحياء علوم الدّين" للإمام الغزالي :" الزّواج نوع رقّ..." و الواقع التاريخي يبيّن أنّ مثل هذا التعبير ليس من قبيل الاستعارة أو المجاز بل هو واقع تعيشه النساء ويحافظ عليه الشرع ويعاقب من تخرج عليه .
يمكّن الشرع الزّوج من أن يتحكّم في كل ما يخصّ المرأة في حياتها وحياة أولادها. وليس للمرأة الحرّية في جسمها، فلا حقّ لها في أن تمتنع عن العلاقة الجنسيّة، ولا عن الإنجاب، ولا حقّ لها في التنقّل و لا الشّغل، ولا طلب العلم بدون إذن زوجها، بل له السّلطة عليها حتّى في علاقتها بربّها فهو يستطيع أن يمنعها من القيام بواجب ديني إن أراد، والأهم من كلّ ذلك أنّها لا تستطيع أن تفسخ هذا العقد. تزوّج المرأة شرعا بأمر وليّها ،فرضاه أهم من رضاها، ثم هي لا تستطيع أن تتمتع حتى بحرية أبغض الحلال.
قد يرى الأستاذ في هذه الصّورة القاتمة ما يمكن أن يزعزع "صرح إسلام المرء" ولكن ليس هذا قصدي. إنّي أرى أنّ الصّمت عن مثل هذه الأحكام التي تحكّم الرّجل في المرأة رغم أنها صارت فاعلة في المجتمع وقادرة على التّمييز بين الضّار والنّافع وقادرة على حماية نفسها ،هو الذي يمكن أن يضر بالدين والمجتمع . إن الواقع الذي تعيشه المرأة، والوعي الذي أحرزته بحكم خروجها للتّعليم والشّغل يجعل من الضروري أن تخرج من منزلة القاصر، وإخفاء هذه الحقيقة يشبه من كان له دمّل ولم يعالجه بل أخفاه، لم لا نرى في معالجة هذه القضايا الاجتماعيّة إعلاء لشأن الإسلام وبناء لصرحه؟!
ركّزت على هذه النّقطة كنموذج في تناول القضايا وهذا ما أردت أن أناقشه. لأنّ الذي يهمّني هو المنهج في الطرح وليس مسائلة القضايا نفسها. وقد لاحظت إن عديد القضايا الأخرى كتعدّد الزّوجات، والمهر... لا تطرح لتناقش وإنّما لتبرّر. وليس أدل على ذلك من دفاع الأستاذ عدنان عن توزيع السلطة في المجتمع بين الرجال والنساء، فقد قال: هل نعرف اليوم مجتمعا غير إسلامي انقلبت فيه طبيعة توزيع السلطة الاجتماعية تلك مهما بلغ هذا المجتمع تطوّرا وتحديثا ؟ لا يتعلق الأمر بالقرآن وهو ليس حكرا على المسلمين."طرح الأستاذ سؤالا، ثم أجاب عنه بموقف عقائدي، والتصريح بهذا الموقف، مهما كانت صحّته، في شكل إجابة عن مثل هذا السؤال من شأنه أن يعطل كل تأمّل في تجارب الشعوب الأخرى ،ويقصي كل إمكانية تفكير، وسعي في تغيير هذا الاختلال الذي ينخر توازن الأفراد، والأسر، والمجتمعات. و يلغي إجابة أخرى هي أنّه، حتى وإن لم يتعلق الأمر بالقرآن، فإن توزيع السلطة في مجتمعات غير أسلامية لعلّها لم تنقلب تماما ولكنّها تغيّرت، وشتّان بين شعوب ما زالت تناقش هل تستطيع المرأة أن تقود السيارة وشعوب تنتخب المرأة لرئاسة الجمهورية
كذلك لفت نظري موقفه من الحداثة، إنّنا نشتمّ نوعا من الارتياب في الحداثة كأنّها تمثّل العدو الغاشم الذي يتربّص بالإسلام، وهنا أتساءل عن مفهوم الحداثة. الحداثة بما هي ظهور للجديد، أليست هي سنّة الحياة. والإسلام نفسه ألم يكن حديثا عند ظهوره. إن كلّ حديث إنما هو عامل تطوير وحياة.وهل نمثّل نحن فقط الماضي حتّى نخاف من الحداثة؟
- وأقول للأستاذ عدنان : إذا كان له اعتراض على الحداثة الغربيّة، فالحداثة يمكن أن تكون خاصّة بنا، لم الإصرار على اعتبار أنّ خصوصيتنا هي الموروث، والمحافظة على الماضي. ألم يكن للغربيين ماض وموروث عندما أسّسوا حداثتهم ألم يحن الوقت لنعيش دون أن نقيس على أجدادنا ونربي أبناءنا لزمن غير زماننا؟
mercredi 24 juin 2009
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
1 commentaire:
شكرا رفيقة على صرامتك ولطفك في الآن نفسه، ولكن أود أن أسوق بعض الملاحظات في انتظار أن أجيبك على مقالك بمقال على نفس الصحيفة إثراء للحوار بيننا وحتى نحد من انعكاسات سوء التفاهم الذي يرتد صراعا ثم إقصاء وعنفا، مثلما يحدث اليوم كثيرا. أول هذه الملاحظات أنه ينبغي لمن يريد التصدي لمناقشة مقالك، في نظري، أن يكون قد قرأ كتاب ألفة يوسف ومقالي التقديمي له في الموقف، وكان قد صدر على عددين، حتى لا نبقى في خبط العشواء وحتى يعرف المتدخلون عم يتحدثون.هذا الاهتمام بالبعد الاجتماعي والتاريخي يختفي تماما عند الحديث عن واقع المرأة المعاصرة، "بمراجعة بسيطة للتقديم أحت رفيقة، يمكن أن تلاحظي بكثير من اليسر أنني لم أغفل النظر في واقع المرأة المعاصرة انطلاقا من النموذج التونسي بالذات حيث اعتبرت أن الإصلاحات التي تمت، وإن كانت مسقطة تاريخيا، فإنها حققت نقلة حداثية واجتماعية في بلادنا.نعم سيدتي، العلاقة الزوجية علاقة طوعية وليست علاقة عبودية، والمرجع في ذلك هو الأصل الشرعي والمنطق العقلاني في الآن نفسه، حيث لا أرى أي تناقض بين المصدرين. وإذا كان الغزالي قد نظر للمسالة من منطلق بيئته، فلا شيء يمنعنا من أن نعتبر ذلك النظر خاضعا لظرفية ربما كانت عوامل معينة تمنعها من بلوغ صورة أصل العلاقة، ما يقع فيه الكثيرون هو اعتبار فهمهم للآية أو الحديث هو الفهم الوحيد والممكن والنهائي، لذل قلت أن الإجتهاد لا يمكن أن يتوقف وأن الأصل في الإجتهاد التلاؤم مع تطور المجتمع، غير أن للإجتهاد يا سيدتي أصولا تجعل الجاهل بها عاجزا عن تقديم الإضافة.نعم، يجب أن تخرج المراة من منزلة القاصر الشرعي، بل لعلي أقول أن النموذج التونسي، إذا ما روعيت بعض الخصوصيات، قابل للتصدير إلى البلاد التي لازالت المرأة تعاني فيها من الإضطهاد، وعندما ذكرت توزيع السلطة في المجتمعات كان ذلك من قبيل ملاحظة الشيء وليس تبريره، فهو أمر لا يمكن أن يبرر وإنما يفهم. ما قولك سيدتي أن البلاد التي لم تشهد إصلاحات عميقة كالتي حصلت في بلادنا، وهي أكثر البلدان الإسلامية تخلفا، تحكم المرأة فيها، بل لعلها لا تحكم فيها إلا المرأة، مثل بنغلاديش، وأن الناس هناك لا يرون في الأمر أي تناقض مع تعاليم دينهم. فالوضعية الإجتماعية والخلفية الثقافية هي التي تحدد فهمنا للنص، وتعدد الأفهام يوسع معنى النص ولا يضيقه. لذلك سيدتي فليس في الأمر أي موقف عقدي، نحن لا نناقش قضية إيمانية هنا، بل قضية إجتماعية لها منطقها الخاص وهو أمر لا أعتقد أنه يمس شيئا من إيماني، كما لا يمس منه عرض الدمل على مشرط الجراح ، لكن الوصفة الطبية ليست نهائية في الوقت نفسه، ذلك أنه عليها أن تتطور بحسب حالة الدمل وتشخيص وضعية المصابمن هذا المنطلق، لا أعتقد أن البلدان التي تمنع قيادة المرأةللسيارة هي التجسيد الحي للإسلام، ولعلك تعرفين موقفي من هذه المسالة، بالعكس تلك البلدان هي التشخيص الحيلمقولة الإستعباد وهي في نظري في تناقض صارخ مع روح الشرع وإن ملأ أمراؤها وشيوخها الدنيا صراخا بتأكيد تقواهم وتمسكهم بالشرع، لذلك فنحن في هذه النقطة متفقان تماما. أما في خصوص مسالة الحداثة، فربما كان علي التوضيح أكثر، وربما كان أن أكتب الحداثوية مكان الحداثة، ولكن هذه قضية قد لا يتسع لها المجال هنا، ما أريد أن أقوله اختصارا أن الأمر يتعلق بدمل آخر، لا ينبغي هو الآخر إخفاؤه، وقد نعود إلى ذلك في الرد على صفحات الموقف ثم على الفايس بوك
Enregistrer un commentaire