في "مقام الحيرة "
-1-
عدنان المنصر
صدر بجريدة الموقف بتاريخ 8 ماي 2009
هل فات الوقت لتقديم كتاب ألفة يوسف؟ "حيرة مسلمة" بلغ طبعته الثالثة وربما الرابعة، ولكنه لا يزال يثير الكثير من الجدل حول ما لغمته به مؤلفته من أفكار يعتبرها البعض دليلا على جرأة زائدة عن الحد. علام تجرأت ألفة يوسف: على التطرق لقضايا الجنس والميراث؟ أم على نقد الفقهاء وتشريح الفقه والدعوة إلى مواصلة الإجتهاد في فهم أحكام القرآن؟ أم أن حيرتها، وهو ما يقلق كثيرين، تنطلق أولا وأخيرا من صفتها كامرأة مسلمة؟
لم تتناول ألفة يوسف في هذا الكتاب إلا القضايا الخلافية والشائكة، وهو في ظننا إختيار لا ينبغي مناقشتها فيه مبدئيا، أليس مفروضا أن يتحدث الكتاب عن الحيرة؟ لا يجد الباحث عن اليقين في هذا الكتاب شيئا كثيرا، بل إن المؤلفة ربما تعمدت الإكثار من إلقاء الحجارة في ما قالت أنها مياه راكدة، حتى أن المرء ليخيل إليه أن لم يبق من صرح إسلامه شيء ذا بال. ولعل القضايا المتعلقة بالجنس أكثر هذه المسائل إشكالا، فهي من النوع الذي لا ينطق به عادة إلا همسا. أما أن تنشر إمرأة حول هذا الموضوع فهو مما يرفض التونسيون وبالخصوص غير التونسيين أن يتعودوا عليه. كذلك الأمر بالنسبة لقضية الإرث التي تعتبر قضية ذات حساسية خاصة، شرعيا كما إجتماعيا.
اعتمدت المؤلفة مصادر كثيرة، من التفاسير خاصة ثم من كتب الحديث. وهذا طبيعي باعتبار أنها أعلنت منذ البداية رغبتها في تعرية ما يسمى بالإجماع حول بعض القضايا. ومعنى ذلك أن المؤلفة تشكك ضمنيا في كون الإجماع مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، غير أن هذه ليست تهمة. فقد اعتمد تمشي ألفة يوسف على التعرض لتناول الفقهاء من مؤلفي التفاسير للقضايا المذكورة آنفا، منتقلة بين فخر الدين الرازي (مفاتيح الغيب)، والزمخشري وابن العربي والطبري وابن تيمية...إلخ إلى أن تصل إلى الشيخ الطاهر بن عاشور. وقد استنتجت من خلال تعرض هؤلاء المفسرين لقضية الإرث على سبيل المثال إلى أنهم "يعمدون أحيانا إلى مجرد النظر العقلي ليقروا أحكاما إلهية وأنهم يجوزون ذلك متى شاؤوا ويمنعونه متى شاؤوا". ربما فات المؤلفة أن هؤلاء الفقهاء إنما كانوا مجتهدين، وأن كلا منهم قد تناول النص القرأني كنص تشريعي يتعامل معه وفق أليات معينة، ذلك أن للتفسير أدواته. غير أن المشكل الحقيقي لا يكمن هنا وإنما في إعتبار تلك الإجتهادات أمورا لا تخضع للنقاش. وبديهي أن كل فقيه يحاول الإستجابة لتحولات الواقع في قراءته للنص القرآني، وهو عين ما تحاول القيام به ألفة يوسف مع إختلاف المثال. فليس في الأمر كما ذهبت إلى ذلك المؤلفة تعسفا يرمي إلى "تضييق العمومي الإلهي إلى مخصوص بشري". ما هو "العموم الإلهي"؟ ما حدود عملية العموم الإلهي إذا لم يترجم نصوصا عملية تجيب على مشاكل الوقت؟
تميل المؤلفة إلى عدم إيلاء تطور وضعية المرأة مقارنة بفترة ما قبل الإسلام الأهمية التي تستحق، ولا تتعرض إلا لماما لمسألة نعتقد أن طبيعة تناولها التنسيبية للموضوع تحتمها. ورغم أن الكتاب تعددت طبعاته فهي تتجاهل بعض الإضافات التي تمت في هذا الخصوص مثل تناول محمد الطالبي ("ليطمئن قلبي") لهذا الموضوع والمقارنة التي أنجزها حول وضعية المرأة في الإنجيل والتوراة والقرآٍن، وهو تجاهل لا يليق بصاحبة الكتاب. تبدو المؤلفة منطلقة في حيرتها لا تلوي على شيء. لعله كان ضروريا أن يقع تناول مسائل الإرث وتعدد الزوجات ومسائل العلاقة الجنسية في الزواج في إطارالتناول القرآني العام لمسألة المرأة والحرية الكبيرة التي أصبحت تتمتع بها مقارنة بالفترة التي سبقت الرسالة.
تقوم المؤلفة بتحسس هذه النسبية ولكنها لا تلبث أن تضرب صفحا عن كل شيء يجيب على بعض تساؤلاتها. ما نريد الإشارة إليه هنا هو بعض الإضطراب الذي حكم أحيانا المنهج العام للباحثة. تدين المؤلفة استجابة الفقهاء لضرورات الواقع الذي نشأوا فيه وتتحدث أحيانا عن "مصالح ذاتية" أرادوا تغطيتها، وإن كانت لا تبين لنا ما هي طبيعة هذه المصالح الذاتية (ص 58)، وهي في هذه الإدانة لا تفرق بين من أوقف حكما شرعيا اتفق على ثبوته في النص (إيقاف عمر تنفيذ بعض الحدود وفرضه تحريم بعض ما كان قد حلله الإجماع) وبين من استنبط حكما كان يبدو بعيدا عن منطوق النص. تلامس المؤلفة أحيانا حقل السلطة ولكنها لا تغوص فيه بالحد الذي يكفل توضيح العديد من الأشياء، وهو ما تناوله الدكتور الطالبي هلى سبيل المثال في خصوص قضية الردة وسياسة أبي بكر تجاه المرتدين غداة وفاة الرسول. لكن المؤلفة تسهب في المقابل في تحليل طبيعة توزيع السلطة في المجتمع بين رجال غالبين يحاولون تأبيد سيطرتهم وبين نساء مقهورات. غير أنها ربما نسيت مسألة التنسيب هنا. هل نعرف اليوم مجتمعا غير إسلامي انقلبت فيه طبيعة توزيع السلطة الإجتماعية تلك مهما بلغ هذا المجتمع تطورا وتحديثا؟ لا يتعلق الأمر بالقرآن، وهو أيضا ليس حكرا على المسلمين، ولكن ذلك ليس مبررا لإيقاف مسار التحديث بدعوى أن الأمر شائع. هناك سعي واضح من قبل المؤلفة للنظر إلى المرأة والرجل كعدوين متصارعين، لا يربح أحدهما إلا ما يفتكه من الآخر. وهذا التوجه وإن كان جديرا بالإحترام علميا، فإنه يعبر أيضا عن عقدة إجتماعية من صنف العقد التي أطنبت المؤلفة في تحليلها، عقدة المجتمع القضيبي. نعتقد أن المشكل ينبع، في رأينا، من النظر إلى أن المسألة تتلخص في صراع أبدي بين المرأة والرجل، وهو ما تميل إليه بعض المدارس الفكرية راهنا.ماذا تفعل المؤلفة بكل الآيات والأحاديث التي تعتبر المرأة والرجل قد خلقا "من نفس واحدة" وأن أحدهما "سكن" للآخر و "لباس" له؟
بل إن المؤلفة تذهب إلى المقارنة بين الحياة الزوجية من منظور المرأة وبين حالة العبودية وهو أمر يبدو لنا كثير التعسف، لتذهب إلى أن المسلمين الذين حرموا الرق في فترة من فترات تطورهم التاريخي ربما توجب عليهم السير في الطريق ذاته من أجل تحرير المرأة. المرأة عبد؟ كم في الأمر من مبالغة مهما اجتهدت المؤلفة في إيجاد كل "أوجه الشبه" الممكنة. لا تنظر المؤلفة المنطلقة في حيرتها إلى الزواج سوى كأحد وجوه تلك العلاقة غير المتكافئة بين "السيد" و "عبده"، وتتساءل عما إذا كانت طاعة المرأة زوجها في الفراش وجها أساسيا في تلك العلاقة الظالمة.
كان بالإمكان التعرض هنا إلى أن السياق لا يحتمل المقارنة لأن العلاقة بين الزوجين هي أساسا علاقة طوعية إختيارية، وأن أي خلل فيها إنما يداوى بأبغض الحلال، وهو ما تناولته بعجالة عند الحديث عن الخلع الذي وجدت له جذورا صلبة في الممارسة التشريعية الإسلامية. في مقابل ذلك تذهب المؤلفة إلى الحديث عن زواج المتعة ومسألة منعه التي تمت على يد الخليفة عمر، معتبرة أنه ربما كان هذا المنع قد تم لأنه "يمكن المرأة من بعض الحرية خلافا للزواج العادي الذي لا يشبه عقود البيوع فحسب بل يشبه عقود الرق والعبودية" (ص 102).
ربما تغافلت المؤلفة هنا عن أن هذا الحل ليس مثاليا للمشكل الأساسي الذي انطلقت من مقاربته في الأصل باعتبار أن حصر العلاقة بين الرجل والمرأة في الجنس يبتذل المرأة كما الرجل. لا نعتقد أن زواج المتعة، ورأينا يحتمل الخطأ طبعا، يكفل للمرأة كرامتها بل لعله يشرع اعتبار أن الجنس هو الأساس في العلاقة الزوجية. فهو من هذا الجانب تغطية شرعية لمشكل ظرفي من نوع المشاكل التي يعيشها الشباب اليوم. عندما تذهب المؤلفة إلى أن الهدف من الزواج لم يكن "تأسيس أسرة بمعناه المتداول اليوم"(ص102) فإنها تهمل نقطة رئيسية نعتقد أن إهمالها يجعل "الحيرة" أمرا حتميا. صحيح أن الإسلام يعتبر مسائل النسب رئيسية، وهو أمر نعود إليه لاحقا، ولكن الزواج إنما يهدف أساسا، حسب ما نعلم، إلى الإعمار بما يتيحه من تزايد ديمغرافي في حدود المؤسسة العائلية أو الأسرية. لذلك يعتبر الإسلام أن أي علاقة جنسية خارج إطار الزواج إنما هي محرمة أصلا، وهو أمر حققه إلغاء الرق بصفة كاملة بإلغائه ملك ذات اليمين. ما مدى جدية التفكير في العودة إلى ممارسة تنقل المرأة من ضمانات وضعها كزوجة إلى وضع "ملك اليمين ،حتى ولو كان الحرمان الجنسي وراء ذلك؟
من الغريب أننا نجد المؤلفة، في إطار بحثها عن حل لمشكلة الأبناء "غير الشرعيين" تقر زواج المتعة ولا تقر تعدد الزوجات عندما تقول: "لولا أن عمرا قد نهى عن المتعة لما وجدنا في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم هذا العدد المهول من الشباب والفتيات يعانون من الحرمان العاطفي ومن الكبت الجنسي. إننا نفضل على الأقل اعتبارا أن يولد أطفال في إطار زواج متعة فينسبون إلى آبائهم شرعا وقانونا ..." (ص 103). حتما إن المنطق الذي يقودها هنا ليس عقليا بالمرة، فأن تعتبر الزواج استغلالا عبوديا للمرأة وتعدد الزوجات إهانة لكرامتها وترسيخا لدونيتها بالنسبة للرجل ، وأن تغفل نفس تلك العيوب عندما يتعلق الأمر بزواج المتعة، أمر يستدعي التساؤل. المسألة مسألة قياس عقلي هنا، فزواج المتعة، مهما أبدعت المؤلفة في توضيح إيجابياته النسبية، لا يمنح المرأة مطلقا ما يحرمها منه التعدد. تهمل المؤلفة في الأثناء مسألة عقد الزواج ولا تنظر إليه إلا كترسيخ للعلاقة الجنسية، في حين أن صفته التعاقدية تعطي المرأة كما الرجل حق الاشتراط، مما يفتح المجال واسعا أمام تعدد نماذج لا مثيل له، وهو ما تناوله بعض الباحثين في خصوص الزواج القيرواني (أحمد الطويلي في"الصداق القيرواني"، محمد الطالبي في "أمة الوسط")الذي لم تشر ألفة يوسف إليه مطلقا رغم أنه كان حلا شرعيا لقضية التعدد وأذى المرأة الحاصل غالبا منه. قد نفهم من ذلك مرة أخرى أن الكاتبة ربما انتقت من كل شيء فقط ما يعمق حيرتها معرضة عما عداه.
يسمح "الصداق القيرواني" بأن تشترط الزوجة على زوجها أن لا يتزوج عليها امرأة أخرى كما يسمح للزوجة أن تبقي العصمة في يدها فتطلق زوجها متى شاءت. إضافة إلى ذلك فإن المهر الذي نظرت إليه المؤلفة فقط من زاوية أنه يرسخ علاقة بيع المرأة للرجل كبضاعة جنسية، يحتمل من التأويل ما لم تتناوله الكاتبة ولو لماما. يسمى المهر "أجرا"، لكنه يسمى أيضا "فريضة"، و "نحلة"، وإذا كانت ألفة يوسف قد فهمت "الأجر" كمقابل للجسد، فإننا نرى أنه فهم الدرجة الأولى الذي ما كنا نعتقدها، كمختصة، ترضى به وهي تعلم أن الغرض منه هو إظهار قيمة عقد الزواج وترسيخ لمبدأ حسن النية في الارتباط، وهو أحد أهم أسس الزواج. من الغريب أن المؤلفة لا ترى حرجا في زواج المتعة الذي ينتفي منه ركن حسن النية فيغدو، من هذا المنطلق وبالقياس، عقد بيع حقيقي أو قل عقد بغاء. كما أن "اقتراح" زواج المتعة يمكن أن يكون مدخلا لتعدد الزوجات، فلا نعتقد أنه بالإمكان أن يسمح به لغير المتزوجين ويمنع منه المتزوجون، يجب أن يكون لبعض الإقتراحات منطق يعتد به في عالم العقل.
(يتبع)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire