dimanche 11 juillet 2010

حول النكبة مجددا

حول النكبة مجددا

بعض من دروس الأعداء
عدنان المنصر مؤرخ جامعي (تونس)


لا معنى لشهر ماي من كل عام دون تذكر فلسطين ونكبتنا. منذ إثنين وستين عاما والوضع على ما تركتنا عليه جيوش العرب وملوكها وجامعة دولها، لا بل أشد سوءا: شعب يقاوم في الوقت نفسه عسف المستوطنين وقهر الدول الكبرى، وظلم ذوي القربى، ومقومات صمود رسمي تتضاءل تحت شمس التاريخ الحارقة كجلد حمل ذبح منذ ستين عاما.
عندما ترك الأنقليز فلسطين للمستوطنين في ماي 1948، بعد ربع قرن قضوه هناك في تهيئة الظروف لشعب الله المختار حتى يضم إلى "تاريخه الطويل" قليلا من الجغرافيا العربية القاحلة، كان الإعتقاد أن الأمر لم يفلت تماما من يد العرب، وأن ما حصل ليس إلا حكم القوة الزائل تحت وطأة الإرادة المكافحة من أجل العروبة والإسلام وتحت قيادة جامعة المستبدين الناشئة والأنظمة الوطنية والقومية في المشرق الذي تنفس أخيرا ووضع عنه عهر سايكس وبيكو.
لا شيء كان يحرك العرب مثل فلسطين، وإن النظر في حركة التطوع التي شملت معظم البلدان العربية للقتال في فلسطين تبين أن الأمر قد هز الوجدان بطريقة أنست المستعمرين أنهم مستعمرون، والمستبد عليهم أنهم هم أيضا ضحايا التاريخ الجحود، مثل عرب فلسطين تماما. منذ ذلك الوقت والأمور لم تتغير إلا قليلا: شعوب تهتز لفلسطين في كل مجزرة للأرض والبشر، وتنسى في اهتزازها ذاك قيودها القديمة، وولاة أمور يتولون كل الأمور، ما ظهر منها وما بطن، تتجه نحوهم العيون فترتد في كل مرة خائبة حسيرة. منذ عقود ستة تتكرر هذه الحركة اليائسة والقاتلة، ذلك أن العرب مازالوا لا يعرفون النظرية التجريبية ويعتقدون أن التقاء نفس العوامل قد ينتج شيئا مختلفا في كل مرة...
عندما بدأت المنظمات الصهيونية في أوروبا ترسل بالمستوطنين إلى فلسطين العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر كان الأمر خطوة في مسار طويل انتقلت فيه "المسألة اليهودية" من مسألة أقلية دينية قابلة لوضعية الإضطهاد المعادي للسامية إلى وضعية قضية قومية تبحث عن حل سياسي. من زاوية تاريخية بحتة لا يمكن أن يبقى المرء ممتنعا عن ملاحظة الجهد الخارق الذي أنجزته الصهيونية كتعبير سياسي عن الحل القومي المنشود للمسألة اليهودية. ذلك ما يفسر دعوة رشيد رضا العرب، آنذاك، إلى الإستفادة من الدرس الذي قدمته الصهيونية، كانت تلك دعوة لا تعوزها الحكمة ولكنها بقيت إلى اليوم عويلا في صحراء التاريخ وقحط الثقافة السياسية العربية.
جاء نجاح الصهيونية في النهاية كمحصلة لتضافر عوامل مختلفة التقت في صعيد واحد يضيق المجال عن حصرها جميعا. على المستوى الفكري انتقلت الصهيونية الثقافية من وضع كانت المسألة اليهودية تطرح فيه بعبارات العاطفة والتباكي، إلى وضع مختلف تماما يمسك فيه اليهود بمصيرهم بأنفسهم ويعيدون تأسيس الهوية اليهودية من جديد. لم يبق في ذاكرتنا عن صهيونية هذه المرحلة سوى تيودور هرتزل. غير أن الرجل، رغم الجهد التنظيمي والتنظيري الذي قام به، لا يكاد يكون له كبير حضور في الذاكرة اليهودية المعاصرة إذا ما قورن بآخرين ممن هيأوا الفكر اليهودي لتقبل الصهيونية وتطويع الفهم التوراتي لضرورات المرحلة الجديدة، مثل ليو بينسكر وموشي لليانبلوم وأحد عام، وهم أيضا من التيار الصهيوني العلماني. إن أهم انتصار للفكرة الصهيونية هو ذلك الذي حققته داخل الفكر اليهودي فثورته وجعلت منه سندا للمشروع القومي الصهيوني. ما يجب الإحتفاظ به هو أنه في مثال الصهيونية لم يستغرق الجدل حول مسألة التوفيق بين المعتقد الديني والأهداف القومية سوى الوقت الضروري لتحقيق إقلاع آمن، بعد ذلك أمكن حل بقية التعقيدات المرتبطة بنقل المسألة من مجرد رؤية نظرية إلى مشروع مجسم على الأرض. من جهة أخرى، وفي تكامل تام مع هذا المسار، حصل تحالف متين بين أهم تيارين في الفكر الصهيوني: التيار العلماني والتيار الديني. كان تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية مظهرا من مظاهر نجاح هذا التحالف، وهي المنظمة التي أخذت على عاتقها متابعة إنجاز مراحل المشروع النهائي الهادف إلى تأسيس دولة لليهود في فلسطين. غير أن هذا التحالف لم يكن هدفه إنهاء الخلافات بين التيارين وإنما تنسيبها بدفعهما نحو انجاز مهمة واحدة وفي هياكل واحدة: كان هناك اتفاق على أن أهمية الهدف تلغي أية ذرائع لعدم التوحد، وهي قناعة لا تزال تقود المجتمع الصهيوني اليوم في مواجهة كل المسائل التي يطرحها استمرار وجوده. لقد قدمت المنظمات الصهيونية المتدينة، وخاصة منظمة "عشاق صهيون" القوة البشرية الدافعة للمشروع الصهيوني، ورغم مركزيتها في الحركة الصهيونية فإنها قبلت بالتحالف مع العلمانيين الصهيونيين (رغم ضعف تمثيليتهم ونخبويتهم) وحتى بالإندماجيين الذين انخرطوا من جهتهم في العمل الخيري عن طريق الدعم المالي للمستوطنين اليهود في فلسطين.
إن المشروع الصهيوني مشروع قومي بدرجة أولى، وديني بدرجة ثانية. يمثل الدين الغطاء الذي التحف به الجميع ذلك أنه كان يقدم الشرعية التوراتية العليا لكل المشروع مصبغا عليه هالة من القداسة. لا نفهم سر نجاح المشروع الصهيوني في إنجاز كيان سياسي بفلسطين دون أن نأخذ ذلك بعين الإعتبار: من منطلق استعماري بحت، كان العلمانيون في الحركة الصهيونية الذين صاغت الحركة الإستعمارية الأوروبية فكرهم إلى حد ما، ميالين للبحث عن مجال جغرافي مختلف لتأسيس كيان اليهود السياسي. لذلك فقد اتجهت أنظارهم نحو الأرجنتين على سبيل المثال، وهو أمر نجد له أثرا واضحا في كتاب هرتزل "دولة اليهود"، ذلك أنه كان يؤمن أنه لا نجاح لمشروع دولة ما لم تكن له قاعدة اقتصادية مريحة. غير أن هذاالتوجه كان يلغي الطابع الديني للمسألة اليهودية، وهو طابع حددته التعاليم التوراتية بوضوح من ناحية تأكيدها على أرض الميعاد: "السنة القادمة في أورشليم" لم تكن تعني "السنة القادمة في الأرجنتين" حتما. لو قدر للتيار العلماني في الحركة الصهيونية أن يواصل السير في تلك الطريق لكان الأمر قد قضي تماما ولعادت الفكرة الصهيونية فكرة نخبوية عاجزة عن أن تجسم على أرض الواقع. كانت تلك النخبة في حاجة إلى دعم بشري واسع، وككل مجتمع في مرحلة اضطهاد فقد كان الحقل الديني، بوصفه أحد أهم حقول الهوية تاريخيا، قادرا على مد النخبة بما تحتاجه: جمهور واسع من المتعطشين لتحقيق الأهداف الصهيونية يدفعه في ذلك إيمان توراتي لا يرقى إليه شك بعدالة الطموحات القومية اليهودية.
عندما نقول أن المشروع الصهيوني هو مشروع قومي بالأساس فإننا نعني أنه كان يقدم الحل لقضية قومية أصبح تجاوزها مستعصيا بالطرق القديمة. لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية الخدمات التي قدمتها اللاسامية للمشروع الصهيوني، بل إن هرتزل الذي كان أكثر الشخصيات الصهيونية وضوحا إزاء هذه القضية، اعتبر أن اللاسامية ليست مشكلة بل جزءا من الحل القومي، إذ أنها تعطي للمشروع الصهيوني قوته الدافعة عن طريق تحطيم آمال اليهود في الإندماج في المجتمعات الأوروبية، بغض النظر عن جدوى قوانين التحرير وتطبيقاتها حتى في البلدان التي لم تكن الحكومات فيها تغطي عمليات الإضطهاد (أوروبا الغربية).
من ناحية تاريخية أيضا لا يمكن نكران التأثر الذي أحدثته الفكرة القومية الأوروبية على الحركة الصهيونية بحيث بدت الصهيونية منسجمة في عصرها رغم حضور الطابع الديني فيها. وفي السياق ذاته فإن الحركة الإستعمارية الأوروبية التي عرفت أوجها في أواخر القرن التاسع عشر قد جعلت من تأسيس دولة على أرض الغير أمرا مقبولا به أخلاقيا من منطلق المهمة التمدينية التي قرر الغرب أن يضطلع بها في القارات المتخلفة، هذا أمر شديد الحضور في الخطاب الذي ألقاه تيودور هرتزل أمام القيصر الألماني في فلسطين (2 نوفمبر 1898). كانت الصهيونية منسجمة مع عصرها ، "عصرية تنمو من صميم أحوال اليوم الحاضر " كما قال في نفس الخطاب، ولا تشكل أي نشاز مع الفكر السائد في أوروبا ومع الطموحات القومية اليهودية.
هناك من جانب الصهيونية قدرة فائقة على التلاؤم مع عصرها وتوجيه كل العوامل لخدمة أهدافها النهائية، من هذاالمنطلق فإن استخدام التحالفات مع القوى الكبرى ليس العنصر الوحيد الذي خدم تحولها من فكرة إلى كيان سياسي، ذلك أن أهم التحولات قد جاءت نتاج حركة داخلية في الفكر اليهودي وضعت نصب عينيها تأسيس مشروع دولة، بغض النظر عن عدالة هذا التأسيس من عدمه. التاريخ إرادة الأقوى دائما، ومحصلة صراع إرادات. من المنطلق ذاته فإن الإيديولوجيا ليست مقدسة لذاتها بل هي عنصر من جملة عناصر يقع توظيفها في تحقيق إرادة الشعوب والأمم.
عندما جاء اليهود من شرق أوروبا كانوا قد حملوا معهم الأفكار الإشتراكية، مثلما حمل يهود أوروبا معهم الفكر الليبرالي الإقتصادي وتقديس الربح والمبادرة الفردية. بالموازاة مع التكامل الذي حصل بين العلمانيين والمتدينين، حصل تكامل آخر كان من نتائجه بناء مجتمع يهودي صهيوني قادر على البقاء، إلى حد ما، باستعمال موارده الذاتية.
كانت المستوطنات التي وقع تأسيسها على أراضي عربية (فرطت فيها الإقطاعية المحلية للمستطنين اليهود) قد بدأت البحث عن سبل بقائها بالتوجه نحو اقتصاد الربح، وهو أمر طبيعي باعتبار أن الممولين قد جاؤوا من أوساط الإستثمار والأعمال. لكن سرعان ما توقف الممولون أمام سؤال حارق: هل الهدف هو تحقيق الربح، أم وضع أسس مجتمع صهيوني مكتف بذاته وقادر على الإستمرار؟ هنا حصلت انعطافة كبرى أسهم فيها الإشتراكيون الصهيونيون عن طريق تصور مستوطنات خارجة عن الدورة النقدية، معولة فحسب على اليد العاملة اليهودية، وقائمة على العمل الجماعي التعاضدي. لم يتساءل الأولون إن كان ذلك مناقضا لمبدأ المبادرة الحرة، كما لم يتساءل الآخرون إن كان الأمر يسرع أو يؤخر قيام المجتمع العمالي على أرض الميعاد، ذلك أن الإيديولوجيا ليست مقدسة إلا في حدود قدرتها على تقديم إجابات لتحديات الواقع.
هناك جهد كبير يتوجب القيام به من أجل فهم طبيعة المشروع الصهيوني بفلسطين، ومن المعيب أن الأوساط المهتمة بقضية هذه الأرض وهذا الشعب تظل تنظر للمسألة من زاوية العداء الغريزي الذي لا يقدم بنا خطوة واحدة للأمام. كما أن هناك دروسا يفترض أن نتعلمها من الآخرين، وخاصة من أعدائنا الذين نجحوا. لا يتعامل مع مسائل كتلك التي يطرحها الصراع العربي الصهيوني من منطلق الكراهية أو المحبة فهذا حقل آخر قد يقع الإحتياج إليه في بعض الحالات، ولكنه قد يتحول إلى عبء على محاولة الفهم. طيلة عقود ستة، واجه العرب والمسلمون إسرائيل ومشروعها بالعواطف، لكن أقلية محدودة تعاملت مع الموضوع تعاملا عقلانيا وفهمت أن أول سبيل القدرة على مواجهة ذلك المشروع الذي لا يمكن اعتباره، في أدنى الحالات، سوى اعتداء على الإنسان وقيم العدالة، يمر بمحاولة تفكيك عناصره والتعامل العقلاني معه لاستباق التطورات التي قد تطرأ عليه، وبالتالي علينا.
طيلة عقود ستة هي تاريخ الصراع بين اسرائيل وجيرانها العرب، تركز أكبر جانب من الصراع الحقيقي بين القوميين واليساريين، وبين الشيوعيين والبعثيين، وبين أولئك أو بعضهم وبين الإسلاميين، متطرفهم ومعتدلهم. طيلة عقود ستة كانت فلسطين وقضيتها بضاعة رخيصة في سوق الإيديولوجيات الرثة، وغطاء يشرع لقيام الأنظمة وسقوطها وعنصرا قارا في التجاذبات بين الحكومات ومعارضيها. ما يثير الانتباه هو أن فلسطين التي تسكن قضيتها الوجدان العربي منذ عقود عديدة، وقبل اعلان قيام الكيان الصهيوني على أرضها، والتي يقول الجميع، من مختلف الحساسيات وفي كل الفضاءات، أنها قضيتهم الأولى التي يهون من أجلها كل شيء، لم تقدم الذريعة الكافية لتحقيق مثل هذا التوحد. يضيء ذلك الأهمية الحقيقية التي تحتلها هذه المأساة من وجداننا إذ أن المرء لا يضحي إلا من أجل ما يعتقد أنه يستحق تضحيته، وحتما فإن الإيديولوجيا عزيزة علينا جدا فقد ورثناها كابرا عن كابر ولا نرضى عنها بديلا، فنحن أمة ايديولوجيا، نعتقد أننا نسقط إذا سقطت. لا يرضى علمانيونا أن يقودهم متدينون، ولا يقبل متدينونا أن يتزعمهم علمانيون، فهناك حدود لكل شيء !

مقال صادر
بموقع الأوان

http://www.alawan.org/%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D8%AC%D8%AF%D8%AF%D8%A7.html

مزالق الاستشراق قراءة في كتاب الإستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، مقالة في الإسلام "المبكّر"، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا" عدنان المنصر، موقع الأوا


قراءة في كتاب
الإستشراق الأنجلوسكسوني الجديد،
مقالة في الإسلام "المبكّر"، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا"

عدنان المنصر، موقع الأوان،

كتاب الأستاذة آمنة الجبلاوي الموسوم بـ"الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، مقالة في الإسلام "المبكّر"، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا"، هو في الأصل بحث جامعي ناقشته المؤلفة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحضارة العربية الإسلامية بالجامعة التونسية. يقع الكتاب في 232 صفحة من الحجم المتوسط (1) وقد ضمّ بالإضافة إلى المتن بعض الملاحق التي تساعد القارئ على الولوج إلى بعض المفاهيم المتناولة في المؤلف وكذلك عددا من المراسلات التي تمّت بين الأستاذة الجبلاوي ومايكل كوك، أحد المستشرقيْن الذين اشتغلت المؤلفة على كتاباتهما حول الإسلام المبكر.

في حوار مطول مع مجلة حقائق التونسية يعود إلى جويلية 1995 عدد المؤرخ هشام جعيط مكامن الخور في المنهج الاستشراقي الجديد الذي تمثله باتريسيا كرون بدرجة أولى، وخلص إلى التخوف من تأثيرها على أجيال الباحثين الشبان وهو تأثير يستند بالأساس إلى الإعجاب بطابع الاستفزاز الذي تعتمده عن طريق التشكيك في كل شيء يخص الإسلام والقرن الأول من تاريخه، أكثر من استناده إلى أي تناول علمي حقيقي. غير أن هشام جعيط وإن اعتبر أن إسقاط أبحاث كرون في الماء ليس بالأمر الصعب فإنه اعتبر الجهد البسيط المطلوب لذلك مضيعة كبيرة للوقت لا تضاهي القيمة الحقيقية لكرون وغيرها من ممثلي التيار الذي تنتمي إليه. في هذا السياق يبدو عمل آمنة الجبلاوي استجابة لحاجة معرفية في أوساط التاريخ والحضارة الإسلاميين، وهو حتما ليس مضيعة للوقت كما قال هشام جعيط، فالباحثة تتصدى بهذا الجهد لمهمة شديدة الخطورة تستحق أن يبذل كل جهد من أجل إنجازها. في مثل هذه الأعمال من الأفضل أن يتم الأمر بالطرق العلمية وبإتباع منهج بحث سليم، وهو ما تقوم به آمنة الجبلاوي.

قسمت المؤلفة عملها إلى بابين تناولت في الأول "مشاغل الباحثين" بما يعني المواضيع الأساسية التي اشتغل عليها كلّ من كوك وكرون، وهي أساسا أطروحتهما حول تشكّل الإسلام، أو ما يسمّيانه "بالهاجرية"، و"مسألة السياسة المبكّرة أو طبيعة النفوذ الدينيّ في القرن الأوّل للهجرة"، وقضية الاقتصاد المكّي وعلاقته بنشوء الإسلام. أمّا الباب الثاني فقد خصّصته المؤلّفة لتتبّع منهج الباحثين من جهة طبيعة نظرتهما لمصادر دراسة تاريخ الإسلام المبكّر وموقفهما من المصادر العربية، مع نقد مكثّف من طرف المؤلّفة لهذا المنحى تولّت خلاله فضح الهنات المنهجية وتبيان محدودية الاستفادة، موضوعيا، من المصادر التي اعتبر المستشرقان أنّها كافية لوحدها لدراسة إسلام القرن الأوّل.

يمثل كل من مايكل كوك Michael Cook وباتريسا كرون Patricia Crone اتجاها متمايزا عن الاستشراق التقليدي بالفعل، فقد اشتغلا، إمّا فرديا أو بصفة مشتركة، على مسائل وإشكالات مركزية في نشأة الإسلام بنظرة مختلفة عن الاتجاه التقليدي الذي يمثله لامنس Lamensأو وات Watأو لويس Lewisوغيرهم. يقوم إنتاج المستشرقين الأكاديمي على عنصر أساسي وهو إعادة التفكير في كثير من الإشكاليات بالاستغناء عن المصادر العربية، على أساس أنها لا تنقل صورة واقعية عن إسلام الجذور، بل وجهة نظر أطراف معيّنة أخضعت المصادر لانتظاراتها السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، وأنّ الحلّ الجذريّ يكمن في التعويل على مصادر "محايدة" أو "خارجية" كما يقول الباحثان مثل المؤرّخ البيزنطي بروكوبيوس وبعض البرديات والموادّ الأثرية والقصائد والأخبار اليونانية واللاتينية والعبرية والسريانية والقبطية والآرامية.

تتوقّف آمنة الجبلاوي عند هذه النقطة الأساسية في منهج المستشرقين كرون وكوك، لتؤكّد استحالة اعتبار هذه المصادر بريئة تماما أو على الأقلّ أكثر تجرّدا من المصادر الإسلامية، فهي "نابعة من شهادات من هم في موقع المنخرط في الصراعات الدينية والعسكرية والسياسية مع الحضارة الإسلامية، مما ينقص من براءة وموثوقية هذه النصوص ويدعونا إلى التريّث قبل الإسراع في التعامل معها بثقة لامحدودة" (ص150). يتناغم ذلك مع نقد الكثير من المؤرخين لمنهج المستشرقين المذكورين، حيث تقوم المسألة على منطق واضح لخّصه دانييل نورمانD.Nordman بالسؤال البسيط التالي : هل يمكن لدارس المسيحية أن يستغني بتاتا عن المصادر المسيحية على أساس أنها غير محايدة ويعتمد فحسب على المصادر "الخارجية" الأخرى؟

في الأصل، لا ينبغي أن يتعلّق الأمر هنا سوى بالمنهج العلمي، ولأنه ليس بإمكان المؤرخ أن يخترع منهجا جديدا في كلّ مرّة، فإن الانتقائية المنهجية تبدو أخطر أنواع الانتقائية العلمية على الإطلاق، إذ أنها تسقط الباحث في وحل الخصومات الإيديولوجية المتخمة بسوء الفهم المتعمد، وتنزل بالحوار العلمي إلى حضيض الجدل الديني والاستعلاء الثقافي. لا يمكن لمؤرخ يحترم اختصاصه ومنهجه أن يصف المسلمين، عندما يكونون موضوع دراسة علمية بأنهم "وكر لصوص" أو أن يقول إنّ زعيمهم، محمّدا، قد "رفع لديهم روح القتال والجشع القبلي إلى مرتبة الفضائل الدينية العليا"، إلى غير ذلك من الانزلاقات غير المبرّرة في عمل يدعي العلمية والتجرد. لا غرابة إذا أن يذهب فيكتور سحاب إلى القول بأن الأمر لا يتجاوز "تنفيس كرون عن مشاعرها حيال الإسلام ويظهر قوّة تأثير عواطفها الشخصية في إفساد تحليلها التاريخي إفسادا تامّا ينزع عنه أية قيمة مرجعية" (ص 172).

عندما يدعو الباحثان إلى اعتماد الأركيولوجيا في فهم تاريخ الإسلام الأول يفوت كليهما التأكيد على هزال المادة الأركيولوجية التي يعتمدانها، حيث يكاد الأمر يقتصر على بعض قطع العملة القديمة وبعض الحروف على عدد قليل من المعالم. لا تبدو التجريبية هنا ذات فائدة كبيرة، كما لم يصرّح مؤرّخون قبلهما بوجوب التطابق الكامل بين المواد الأدبية والأركيولوجية كشرط لتأكيد صحّة حادثة أو أثر. من الغريب أنّ المستشرقين يضربان صفحا كلّيا على المصادر العربية بدعوى تأخّرها عن ظهور الإسلام (الحديث خاصة وكذلك كتب الإخباريين) أو عدم إمكان اعتماد القرآن مصدرا لتاريخ الدعوة، في حين أن المنهج التجريبي يفترض، هنا، إخضاع هذه المصادر للنقد والتمحيص وليس الإلقاء بها كليا وبصورة باتة. يتعارض ذلك مع منهج المستشرقين السابقين الذين تميز عدد منهم بحسن الإطلاع على المصادر العربية وإتقان لغة العرب، وبغض النظر عما توصلوا إليه من نتائج فإنه لا يمكن اتهامهم بالجهل بالمصادر العربية. حتما ليس كل جديد ضمانا للجودة، بل إنه في هذا المجال بالذات، وباعتماد هذا المنهج الأعرج، يصبح سقوطا للعلم وللمنهج التجريبي الذي يدعى احترامه.

توجّه آمنة الجبلاوي نقدا شديدا لمنهج كوك وكرون وتؤكّد التنافر الكبير بين ما يقع ادّعاؤه من علمية وبين حقيقة الاختيارات المتبعة من قبلهما. وأوّل مزالق المستشرقين في هذا الخصوص هو "محاولة تطويع المادة التاريخية بحيث تتناسب والنتائج التي يريدانها"، على نمط سرير بروكوست الشهير. هل قلة الثقة في سلامة المادة المصدرية العربية هي ما يدفع المستشرقين حقا لعدم إيلائها العناية اللازمة؟ ذلك ما يصرح به كلاهما على الأقل لكنهما لا يحترمان مبدأ القرب الزمني دائما، فيستعملان مثلا مادة مسيحية تعود إلى القرن العاشر، بل لا يعدمان أحيانا العودة إلى المصادر العربية (التي وقع إقصاؤها بصفة مطلقة) إذا ما صادف أن وافقت افتراضاتهما. من الخطأ اعتبار المصادر "الخارجية" محايدة دائما، ففي هذا المثال بالذات أنتجت المصادر المسيحية في ظرفية من الصراع مع العالم الإسلامي، مما يدعو المؤرخ إلى مزيد الحذر منها باعتبار الأعداء مشغولين دائما بتشويه صورة بعضهم البعض. لا يمكن لمؤرخ يعتد بمنهجه أن ينكر هذا الميل الطبيعي للمصادر للانسياق في الصراعات، وأن يتجاهل ذلك في مجهوده لبناء تعامل نقدي مع المادة التي يشتغل عليها. بالموازاة مع ذلك تهوي بحوث المستشرقين المذكورين أحيانا عديدة في الإسقاط، تلك الخطيئة المنهجية الكبرى التي لا يجب على مؤرخ أن يقع في حبائلها، فلا يضيرهما القفز من قرن إلى آخر، ومن فضاء إلى آخر، والمساواة بين مصدر يتعلق بحضارة قديمة وبين مقال صحفي صادر بالسودان في عهد جعفر نميري…إلخ. (ص 183-186).

تذكر المؤلفة اعتراضات المستشرقين على أعمال باتريسيا كرون ومايكل كوك، وهي اعتراضات عديدة تطال المنهج كما النتائج التي توصّل إليها الباحثان، مما يجعل من كتاباتهما أعمالا تفتقر إلى مصداقية علمية كبيرة. المشكل أن كرون وكوك ينتقدان اعتماد المستشرقين الكلاسيكيين على المصادر العربية رغم النقد الذي كانوا قد وجهوه لهذه المصادر، بل إنهما في سعيهما المتسارع لتحطيم ما أتى به السابقون لا يهتمان بإنجاز بناء جديد، حيث لا تبدو المعرفة بالتاريخ الإسلامي لديهما نتاج عملية تراكمية بل تهديما متواصلا، وبعض بناء أحيانا ولكن على فراغ.

في مؤلفهما الأساسي المشترك، هاجاريزم Hagarism (أنظر تفكيك المؤلفة لهذا المفهوم في القسم الثاني من عملها خاصة) يمضي المستشرقان إلى اعتبار الإسلام نتاجا للجمع بين قيم يهودية وقوة بدوية همجية. في هذا الكتاب تتراكم نتائج كل الأخطاء المنهجية التي ارتكبها المؤلفان من إسقاط وتجاهل للمصادر العربية وتعويل في غير محله على أركيولوجيا فقيرة ونصوص "خارجية" بعيدة عن الزمن التأسيسي للإسلام زمنيا وجغرافيا. على العكس من المنهج العلمي المعتمد في الدراسات التاريخية الجادة، يعمد الباحثان إلى طرح جملة من الخلاصات حول تاريخ الإسلام والقرن الأول ثم يقومان بكل المحاولات الممكنة وغير الممكنة لإثباتها، ليستخلصا في النهاية أن الإسلام لا يعدو أن يكون "ثقافة شبه لقيطة لأنها أخذت من كل حضارة شيئا ما" (ص 47). تعتقد المؤلفة أن الأمر نتيجة طبيعية لخواء المنهج وانتقائيته، وتعبير واضح عن سيطرة الأفكار الخاطئة المسبقة على عمل الباحثين. في خضم الكتابة "العلمية" تلك، لا يتورع كل من كوك وكرون عن إلصاق التقييمات السلبية والذاتية بالمسلمين وبالثقافة العربية التي نشأ الإسلام في فضائها، فيرميان كل التعبيرات الثقافية العربية بالسطحية وانعدام المضمون. لا يجد المؤلفان في التراث الإسلامي الوجداني أدنى درجة من الرومانسية، ماعدا زغاريد النساء (هكذا)، لذلك فإن الإسلام لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة اليهودية أو المسيحية اللتين كانتا قابلتين للتطور (ص 56). كما يؤكد المستشرقان عجز الإسلام عن استيعاب التراث اليوناني بانتقاء الأمثلة والمرور السريع من الانطباع إلى التأكيد، كل ذلك مع حرية نظرية كبيرة يقدمان فيها أمثلة متباعدة في الزمان والمكان في تجاهل تام لوجوه الالتقاء بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى. يبدو الإسلام إذا تراكما لجملة من التأثيرات وسعيا عبثيا للتمايز عن اليهودية وبعض مذاهبها بالذات، ديانة "خشنة" محكومة بمحددات تطور ثقافية جينية تجعله عاجزا، بوصفه التعبير الأمثل عن الهمجية، عن أن يقدم شيئا ذا بال للثقافة الإنسانية.

تتناول الباحثة بالنقد والتحليل أيضا دراسة باتريسيا كرون حول الاقتصاد المكي وعلاقته بظهور الإسلام والذي حاولت فيه نقض النظرية الاقتصادية التي تقوم على اعتبار الإسلام نتاجا لوضعية اقتصادية مرتبطة بثراء النشاط التجاري المكي وكذلك بأزماته، وهي النظرية التي قامت عليها تحليلات وات، وخاصة لامنس. لا يبدو أن كرون معنية بتنسيب الأحكام السابقة أو بتعويض المعطى الاقتصادي بمعطى آخر أكثر صمودا أمام النقد، وإنما بنقض مكة واقتصادها من الأساس، حيث تعتبر اعتماد الدراسات الاستشراقية السابقة على المصادر العربية نقيصة تسمح بتجاوزها تماما، لتصل في النهاية إلى أن التجارة المكية أكذوبة كبرى، وأن مكة لم تكن مفترق طرق التجارة، وأن البضائع المتبادلة بين المكّيين وغيرهم لا تبرر الحديث عن نشاط تجاري حثيث، بل إنّ مكة التي يتحدث عنها المسلمون، وكذلك المستشرقون، ليست هي مكة المعروفة اليوم، وإنما قد تكون القدس الحالية، فكل ما وصلنا عن مكة لا يعدو أن يكون في نظرها سوى نتاج للخلط مع أماكن أخرى، وتضخيم متعمّد مصدره الشوفينية العربية. في خضم ذلك تحطم كرون، في تجاهل تام لدراسات بالغة الجدية حول المسألتين، فكرة الحرم وكذلك معنى الإيلاف، وقد ذهبت الدراسات السابقة إلى اعتبارهما من أهمّ عوامل الأمن الميسّر للنشاط التجاري في مكة ولريادة دورها الاقتصادي في الجزيرة العربية. تتعجّب آمنة الجبلاوي من انطلاق كرون هنا، وفي كل المواضع الأخرى، من "أطروحات ثابتة ونتائج محدّدة" وتحاملها على هذه الفترة باتباع سلوك انطباعي وتبني "عدائية محيرة" تجاه موضوع بحثها (ص 118-119).

يبدو من العسير، في هذا المجال المحدود، تتبع كل النقاط التي تثيرها المؤلفة في سياق تفكيكها للخطاب الاستشراقي كما يبدو من خلال كتابات كوك وكرون، غير أن ما نرمي التأكيد عليه هو بالأساس الخواء المنهجي الذي وسم أعمال المستشرقين المذكورين والذي جعلت منه آمنة الجبلاوي نقطة الارتكاز الرئيسية في دراستها. الكتاب متخم بالأمثلة عن المزالق المنهجية لهذا التيار الاستشراقي الجديد، وهو من هذه الناحية يمكن اعتباره رصدا علميا لظاهرة الخلط والإسقاط التي تسم أبحاث بعض المتصدين لدراسة القرن الأول من تاريخ الإسلام. من الهام التأكيد هنا على الإضافة الثابتة التي قدمها الاستشراق الأوروبي في فهم جوانب من تاريخ الإسلام كظاهرة تاريخية وتعبير ثقافي وسياسي عن هوية في طور التشكل في القرن الأول، وبغض النظر عن كون الخلاصات التي انتهت إليها الدراسات الاستشراقية الجدية قد صدمت في أحيان عديدة معتقدات المسلمين في تاريخ طهوري نقي ومستقر، فإنها قدمت منهجا علميا يعتد بمعظمه في الأوساط الأكاديمية. غير أن القضية تكمن، في أحد جوانبها، في ميل الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، في النموذج الذي يقدمه كل من كوك وكرون علي الأقل، إلى نقض الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والأطروحات التي تضمنتها بضربة مكنسة وحيدة، لمجرد اعتمادها كجزء من مصادر البحث، على الآثار الكتابية العربية. هل يعوض ذلك الإقصاء تجريح النصوص ووضعها تحت مجهر النقد العلمي بالنسبة لمؤرخ يفترض أن يكون له نوع من البرود الأدنى تجاه موضوعات بحثه؟

تشير المؤلفة إلى تشابه بين التمشي الذي يتبعه الاستشراق الجديد، ممثلا هنا بكوك وكرون، وبين ذلك الذي ينتهجه الخطاب السلفي حول الإسلام الأوّل، فالخطاب السلفي يعتبر نفسه الحامي الوحيد للحضارة الإسلامية من زيف "التحريف" المنطلق من "نوايا خبيثة". بالموازاة مع ذلك يعتبر الخطاب الاستشراقي الجديد "وصيّا" على الحقيقة التاريخية ومحتكرا لها (ص 164). في الحالة الأولى يمثّل الإيمان الدافع الأساسيّ لسلوك يتعارض في أحيان عديدة مع الموضوعية التاريخية، أما في الحالة الثانية فإنّ ادّعاء العلمية الأخرق يغطي على فراغ المنهج وعدم استناده إلى مقاييس تناول أكاديمي رصين. وبالفعل فإنّ التمجيد من منطلق إيماني، مثل التحطيم من منطلق استعلائي، لا ينتجان إلا حالة متشابهة من التنكر للموضوعية التاريخية العلمية.

إنّ المعارضة الكلية والتامّة لنتائج البحث الاستشراقي في تاريخ الإسلام يبدو نتاج سلوك وثوقيّ غير علمي يستقي شرعيته من الرغبة في الاحتفاظ بصورة معيّنة عن تاريخ الإسلام، بغضّ النظر عن واقعيتها بالمقارنة مع ما يفترض أن يكون حقائق علمية تثبتها البحوث. غير أنّ اعتبار كلّ العمل الاستشراقي إضافة يعتدّ بها في فهم تاريخنا لمجرّد أنها تزعزع معتقداتنا لا ينبع هو الآخر من سلوك أقل مرضية وخواء. في السياق ذاته فإن تمجيد الماضي، وهنا القرن الأول، لاعتبارات إيديولوجية مرتبطة بتوازنات معينة حكمت توزيع السلطة بين الفرقاء التاريخيين وتفاعل الديني مع السياسي على أرضية قبلية، ليس أقل مجلبة للاتهام بانعدام العلمية والموضوعية من تحطيم التاريخ الإسلامي كله بمسح القرن التأسيسي من التاريخ والإلقاء به في مرتبة الخرافة المفتعلة، لاعتبارات تفضح نفسها بالإسقاط والتحامل والموقف الثقافي الاستعلائي. تقول آمنة الجبلاوي في خاتمة دراستها أن كلا من كوك وكرون، بكثرة انتقائهما الأمثلة من حاضر الإسلام والقفز عبر القرون دون منطق علمي إنما كانا "يكتبان تاريخ القرن السابع بهواجس القرن العشرين ويجيبان عن أسئلة الماضي بما يوافق حاجات الحاضر" (ص 196)، وهي خلاصة تؤكّد من خلالها المؤلفة ما ذهب إليه إدوارد سعيد من ارتباط جزء من البحث الاستشراقي بحاجيات إستراتيجية معيّنة لدى قوى مثل الولايات المتحدة. "هل هناك من يقين في ما يؤمن به المسلمون اليوم؟" (ص 147) لا يبدو في هذا السؤال الذي يطرحه المستشرقان أيّ استفزاز من الناحية الموضوعية، ولكنه يفضح منهجا ويعرّي الاعتبارات الثقافية والإستراتيجية والسياسية التي يبدو أنها تتحكم في جانب معتبر من إنتاجهما الأكاديمي حول تاريخ القرن الأول. هذا القرن "سرق من تاريخنا" وحل محله "الفراغ" كما تقول آمنة الجبلاوي، غدا كأنه لم يكن، وكأنه "كخرافة عديمة الجدوى" (ص 188).

هذا الكتاب هام لأنه تفكيكيّ لا يتناول الخطاب الاستشراقي من منطلق العداء أو الإعجاب، بل يخضعه إلى المنهج العلمي الصارم، لذلك فهو من الكتب التي يجب أن تقرأ بعناية كبيرة. ورغم أن درجة التكثيف فيه كبيرة، وهذا متوقّع باعتبار طابعه الأكاديمي، فإنّه متاح أمام المنشغل بالإشكالات التي تثار حول تاريخ الإسلام والصراعات التي تندلع من حين إلى آخر بمناسبة أو دون مناسبة كلما تعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، بل وبالثقافة العربية الإسلامية في بيئتها الثقافية والجيوستراتيجية الراهنة. هذا الكتاب ينبغي أن يقرأ، لأنه كان ينبغي أن يكتب، وقد كتب.

هامش:
1- وذلك في طبعته الأولى الصادرة عن دار المعرفة للنشر بتونس (2006)، وفي 248 صفحة في طبعته الثانية الصادرة عن دار الجمل (2008)، ونشير هنا إلى أننا سنعتمد في ذكر الإحالات على الطبعة الأولى

المصدر
موقع الأوان، 9 جوان 2010

http://www.alawan.org/%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82.html

A tous ceux qui ne retrouvent leur courage que devant un cadavre : un peu de respect s’il vous plait !!

Mzali est décédé hier à l’âge de 84 ans dans un hôpital de Paris. L’homme souffrait depuis quelques temps de complications cardiaques. Ecarté du pouvoir il y a presque un quart de siècle, et ayant vécu en exil presque vingt années, c’est maintenant qu’il est vraiment mort. Demain il sera six pieds sous terre, ou un peu moins, là n’est pas la question. Ce qu’on découvre des réactions sur le réseau FB n’est pas sa disparition, mais ces « courageux », ces « gens de principes » qui ont enfin une occasion de se montrer militants, amoureux du peuple que Mzali aurait massacré par sa politique abominable. L’homme ne mérite pas qu’on prie pour sa miséricorde, apparemment ! Ceci me rappelle un certain chef d’opposition, vivant actuellement en exil à Londres, qui croyait que c’est de son propre vouloir que dépendrait le « sort métaphysique » de Bourguiba, refusant un petit « Allah yar7mou » qui l’aurait agrandi aux yeux de ses concitoyens. Décidément, tout le monde n’a pas le sens de la relativité !

Mzali fut un homme politique, un dinosaure d’une époque bien révolue. Quelle que fut sa politique, ses fautes, et ses dérapages, on ne peut le juger sans une certaine distance avec son époque, les historiens et certains des politiques le font bien, mais avant cela, il faut que le temps ait fait son travail. Certains le savent, d’autres moins, et c’est bien dommage. En attendant, traiter un homme politique comme on traite un vulgaire criminel, et attendre sa mort ou son départ des affaires pour crier son « courage », ne révèlent pas une grande âme. On aurait aimé voir les mêmes personnes vociférer les mêmes insultes à l’égard de certains vivants dont les déboires seraient bien plus évidents, mais ce serait trop leur demander.

J’appartiens à une génération qui est redevable à l’Etat de l’indépendance de tout ce qu’elle est devenue. Il ne s’agit ici d’aucun complexe, mais d’une reconnaissance, car maintenant je suis bien content d’être né à cette époque là. A cet Etat je suis redevable de mon instruction, d’avoir échappé à toutes les maladies qui sévissent toujours dans certains pays qui ont obtenu leur indépendance à la même époque que la Tunisie. A cet Etat je suis redevable de la maison de jeunes, ou "du peuple", ou j’ai appris les jeux d’échecs, et aux stades ou j’ai bien joué enfant. Mzali était en effet passé par tous ces départements !

Enfant du peuple ayant vécu la privation, Mzali fut fidèle à son pays, en s’intéressant à sa jeunesse, en s’engageant dans sa vie littéraire, en écrivant, en enseignant, et même en commettant ses fautes politiques les plus connues. Ceux qui font de lui une cible de vengeance politique bien tardive doivent certainement ignorer la nature et la structure du pouvoir sous Bourguiba.

J’ai connu cet homme en tant que sujet de recherche, j’ai travaillé sur ses écrits et sur sa politique, et je l’ai rencontré deux fois chez lui pour discuter de ses mémoires. J’ai aussi vécu les évènements de janvier 1984 (où « révolte du pain » comme on aime l’appeler) où j’ai appris surtout à le haïr. Mon petit village a essuyé des pertes humaines lors de la vague de répression qui a suivi une manifestation, presque la seule dans son histoire, et un camarade de classe avait succombé à des balles tirées à bout portant par les forces de l’ordre assiégées. Mzali ne fut pas un ange, certes, et avait lui aussi ses propres calculs ; qui n’en aurait pas parmi cette race ! Il a pourtant le mérite d’avoir été authentique, et d’avoir fait partie du petit nombre de bâtisseurs de la République qui avaient la suite dans les idées, et une conception assez claire du rôle de l’Etat national.

Quand je vois les Français revisiter la mémoire de Jacques Mesrine, le grand bandit et criminel français, et lui consacrer des dizaines d’écrits, d’émissions, et de films cinématographiques et documentaires, une tristesse me saisit : notre mémoire restera-t-elle à jamais sélective ? Sommes nous condamnés à porter toujours des jugements personnels sur ce qui est politiques, et des jugements politiques sur ce qui est personnel ?

Désolante est cette manie de vouloir prouver son courage devant un cadavre, déplorable est cette rapidité de porter des jugement arrêtés et standards sur un sujet qu’on devrait traiter avec un peu de retenue, d’habitude, quand il s’agit d’une personne disparue. Sauf que Mzali n’est pas disparu, ou du moins entièrement, comme bien d’autres avant lui, et certains de ceux qui suivront comme lui le même chemin.
Paix à leurs âmes donc, et à tous les « courageux », toute ma compassion.

mercredi 14 avril 2010

..............سلاما


سوسة في 4 أفريل 2010
السيد رئيس تحرير مجلة حقائق



تحية طيبة
أما بعد فيشرفني أن أحيل لسيادتكم، عملا بمبدأ حق الرد، نصا أرد فيه على مقال صدر بالعدد الأخير من مجلتكم (حقائق عدد 110، من 29 مارس إلى 11 أفريل 2010) تناول مشاركتي في أحد المؤتمرات العلمية، فالرجاء التفضل بنشره لإضاءة الرأي العام حول هذه المسألة. وتقبلوا فائق عبارات التقدير.

عدنان المنصر



ردا على مقال "الأستاذ المنصر في ملتقي حضره أكاديميون إسرائيلبون: خطوة معزولة....ولكنها ليست الأولى"

..............سلاما

استرعى انتباهي وانتباه الكثيرين المقال الصادر بالعدد من مجلة حقائق والذي تناول مشاركتي في مؤتمر علمي ببرلين في جوان 2007، وقد ذهب فيه مؤلفه إلى اتهامي بالتطبيع الأكاديمي مع إسرائيل وإخفاء هذه المشاركة، وهو ما أرد عليه في النقاط التالية:
- تعمد صاحب المقال المقارنة في الجملة الأولى بيني بوصفي مؤرخا تونسيا وين مؤرخ إسرائيلي مناهض للصهيونية داسا في خلال هذه المقارنة ما معناه أن التونسي صهيوني وأن الإسرائيلي متعاطف مع الفلسطينيين. أربأ بمجلة حقائق ومن يكتبون فيها أن يصدر عنهم هذا الدس، فهو ينطلق من سوء نية واضحة وثلب شخصي يمكن أن يكون منطلقا لتتبعات عدلية ضد صاحب المقال سأبين في النقاط التالية عدم استناده لأية دلائل.
- واصل صاحب المقال في الفقرة الثانية استعمال الدس فأشار إلى أنني "محسوب على أحد التيارات السياسية الدينية" دون أن يقدم على ذلك دليلا واضحا. كنا نعتقد أن هذا الأسلوب في الدس الأمني الرخيص قد ولى إلى غير رجعة، ولو قدر لمن يهمهم الأمر أن يعتمدوا على هذا النوع من الخدمات الأمنية لكان الأمر شديد السوء، ولكنهم أكثر ذكاء ويعرفون من نكون.
- في النقطة الثالثة أشار صاحب المقال أنني أشرت في مدونتي الإلكترونية إلى مشاركتي في مؤتمر بأكس أون بروفانس حول اتفاقية الشراكة التونسية المتوسطية في سبتمبر 2006 ولم أشر إلى مشاركتي في مؤتمر برلين حول نفس الموضوع في جوان 2007. لو كان صاحب المقال حريصا على الحقيقة وعلى إنارة الرأي العام لتفطن إلى أن المدونة غير محينة منذ مدة ولوجد أنني نشرت على صفحتي في الفايسبوك فهرس الكتاب الصادر عن ندوة برلين والذي نشر منذ شهرين فحسب، وتوجد أسماء كل المشاركين في هذا الفهرس. عندما يكون البحث عن الحقيقة هو الهدف الفعلي للصحفي فإنه لا يعدم وسيلة لإظهارها ويتجنب الإنتقاء الموجه. كان بوسع مؤلف المقال المذكور أن يستجلي الأمر ولكنه خير عوضا عن ذلك قد اختار الإنطلاق من فرضية ومحاولة إثباتها بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة، فعدنان المنصر معروف للرأي العام وعنوانه الإلكتروني منشور وله مع بعض صحفيي "حقائق" والمتعاونين معها علاقات شخصية، كما أن عنوان الكلية التي يدرس بها معلوم وكذلك رقم هاتفه لمن أراد. ونظرا لأن صاحب المقال يخلط بين أمور كثيرة فإننا نتفضل عليه بأن نوضح له كيف ينعقد مؤتمر علمي وما هي حدود المعلومات التي يملكها المشاركون فيه، انطلاقا من أعمال مؤتمر برلين المذكور.
- انعقد مؤتمر برلين في إطار برنامج بحث واسع موله الإتحاد الأوروبي حول المتوسط لمحاولة تقييم مسار برشلونة واتفاقيات الشراكة، وقد انخرطت فيه شبكة من الجامعات المتوسطية نجد من بينها جامعة تونس. كنت الوحيد الذي وجهت له دعوة المشاركة من تونس بالنظر إلى مقترح البحث الذي قدمته، حيث انتميت إلى فريق بحث اشتغل على موضوع "المتوسط كمشروع تبنيه الحكومات والمجتمعات المدنية". هذا الفريق انقسم إلى قسمين: قسم خاص المتوسط الغربي عقد مؤتمره التحضيري بأكس أون بروفانس وهو الذي انتميت إليه، وقسم خاص بالمتوسط الشرقي. في برلين وقع الجمع بين الورشتين، وحينها اكتشف وجود الإسرائيليين. في اليوم الأول الذي انعقد بالسفارة المصرية ببرلين قدمت بعض المداخلات الموجهة لما يسمى بصناع السياسات، وقد حضره ممثلون عن كل السفارات والبعثات الديبلوماسية المهتمة بالشأن المتوسطي، وكان من بينهم الملحق الإقتصادي للسفارة التونسية ببرلين لأن للأمر علاقة بالمسائل الإقتصادية وقضايا الهجرة إلى أوروبا. ألقى مارك هيلر مداخلته في ذلك اليوم المفتوح ووقف الأوروبيون على عداء الكيان الصهيوني للمشروع المتوسطي، ذلك أن المحاضر الإسرائيلي بين أنه لا يمكن لإسرائيل أن تنتمي لمشروع يمثل أعداؤها الموجودون في ضفته الجنوبية عنصرا مركزيا في بنائه. قدمت مداخلتي في اليوم الثاني بمقر جامعة برلين الحرة، حول تقييم الشراكة المتوسطية من منظور تونسي، وهو نفس اليوم الذي قدمت فيه أنجليكا تيم مداخلة حول أحد المشروعات البيئية. وبافتراض أنني أملك معلومات مخابراتية تتيح لي الحصول على قصة حياة المشاركين وانتماءاتهم السياسية، وهو أمر غير متاح لسوء الحظ، فما كنت لأترك مقعدي شاغرا، ولا أن أترك بقية المشاركين بمن فيهم الإسرائيليين، يناقشون في غياب أي تونسي مسائل تهم التونسيين أيضا، ذلك أنني أعتبر أن في الهروب من هذه المناسبات جبنا لا يجدر بأية اعتبارات مهما كانت أن تغطي عليه.
- عندما يشارك جامعي في مؤتمر علمي فإنه لا صفة رسمية له. الجامعي لا يمثل إلا نفسه وفكره ومنهجه ونتائج أبحاثه. وهذا رد على ما كتبه صاحب المقال عندما رأي في مشاركتي تطبيعا باسم الجامعة التونسية. يفترض بحسب هذا المنطق أن ينسحب التونسيون من جميع المؤتمرات العلمية عندما يكون من بين المشاركين إسرائيليون، وأن لا يشاركوا إذا إلا في مؤتمرات الشعوذة والديماغوجيا العقيمة. فلينسحب الأطباء والمهندسون وغيرهم من العلماء من جميع المؤتمرات إذا حتى يرضوا بعض أصحاب الخطاب القومجي الرافضين فتح أعينهم على حقيقة عالمهم اليوم، حيث يمثل كل تخل عن مهمة علمية تخليا لا يقل عارا عن الهروب من ساحة معركة.
- لست في وارد التذكير بمواقفي القومية والوطنية، فهذا الأمر لا ينكره إلا جاحد، وكتاباتي على أعمدة الصحف وفي الملتقيات العلمية والمؤلفات الجماعية، وكذلك مشاركاتي في وسائل الإعلام المختلفة، تنطلق من فكرة أساسية، وهي أن الثقافة إلتزام مجتمعي وأخلاقي، وبحث عما يجمع بين الناس مهما اختلفوا، وقناعة بأن ما يجمع التونسيين أكثر بكثير مما يفرقهم، بالإستناد إلى التجربة التاريخية ذاتها. ولعل ذلك ما يقلق البعض بالفعل فانخرطوا في مسار من التشويه لا تخفى الأدلة عليه، توضح الأمر التهم المتناقضة في نفس المقال. كل شيء مطلوب من خلال هذا "التحقيق"، إلا الحقيقة.
- ماهو مفهوم التطبيع؟ كان يجدر بصاحب المقال أن يشير إلى ذلك ولو عرضا، ولكنه لم يفعل لأنه انطلاقا من مضمون ما كتبه فإن كل شيء يغدو تطبيعا: كان عليه أن يدعو الدولة التونسية إلى الإنسحاب من الأمم المتحدة، ومن منظمة الصحة العالمية، ومن المنظمة العالمية للزراعة وغيرها... فإسرائيل عضو فيها جميعا. ذلك يتطلب حتما قدرا من الشجاعة أكبر بكثير من مهاجمة الجامعيين الذين لا يجدون الوقت الكافي للإجابة عن ترهات كنا نظن الزمن قد عفا عليها. التطبيع هو أن تفعل ما من شأنه أن يجعل وجود إسرائيل وجودا طبيعيا، ويقتضي ذلك في المجال الجامعي أن تنسق معهم عقد مؤتمرات، أو تعقد معهم اتفاقيات، أو تستدعيهم لإلقاء محاضرات... ينبغي أن تكون أنت من ينظم أولا، وأن يكون هدفك هو التطبيع، وأن يفهم هذا الهدف من خلال ما تكتب وتنشر، بحيث يبدو تواصلا لمسار فكري معين. هل وجد مؤلف المقال الذي أغرته الإستنتاجات المتسرعة والمنطلقة من سوء فهم (إذا ما افترضنا أن وراءها نية حسنة) كل ذلك؟ أما نحن، فلو كانت تلك قناعتنا لما خشينا التصريح بها، مثلما صرحنا بمواقف لم ترض الكثيرين في مجالات أخرى، وقد تكون أزعجت.
- الغريب أن صاحب المقال الذي بهرنا بحسه القومي، وبكثرة التهم ضدنا،لم يقدم لنا تصوره للكيفية التي يواصل بها الأكاديميون القيام بواجباتهم دون أن يسقطوا في حبائل التهم التي تفضل بإلصاقها بهم. الجامعيون بحاجة ماسة إلى نصائح أمثال صاحب المقال فليتفضل بمساعدتهم على تلمس طريقهم، كم يحتاجون إلى هذه المساعدة !
- أما نحن، فإننا سنواصل عملنا، وسنذهب حيث وجدنا أن حضورنا لازم، وحيث وجدنا أن بإمكاننا أن نفيد. ذلك أن تكلفة تكويننا التي اقتطعت من قوت التونسيين وعرقهم لا تسمح لنا بملازمة الأركان القصية وبالتخلي عن المهام التي نعتقد أنها في صلب دورنا، وأهمها على الإطلاق رفع الجهل، والتقريب بين التونسيين، ودفع الأجيال الشابة في طريق الفهم العقلاني والنقدي لماضيهم وحاضرهم، إعدادا لمستقبلهم الذي لن يكون إلا مشرقا، فنحن من ذلك واثقون تمام الثقة. الجامعيون فخر هذه البلاد، ومنارة أجيالها الشابة. والإساءة إليهم بالإجتزاء والإنتقائية لا ترفع صاحبها مطلقا ولا تحقق له من الشهرة إلا سرابها المر. الجامعيون الذين نفتخر بالإنتماء إليهم لا يمكن النيل منهم بمثل هذه الأساليب، وإذا ما "أخطأ" البعض في حقهم فإنهم يوضحون، ثم يمشون هونا، ويقولون سلاما. فسلاما.

مجلة حقائق، 12 أفريل 2010

عدنان المنصر


أستاذ محاضر بجامعة سوسة

يقظة الذاكرة


في الحاجة إلى الرموز

يقظة الذاكرة


عدنان المنصر
أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سوسة
مقال صادر بجريدة الموقف بتاريخ 12 مارس 2010


أحدث شريط "اغتيال حشاد" الذي بثته قناة الجزيرة بعض الضجة في معظم الأوساط المهتمة بالسياسة والتاريخ
والذاكرة، وهي ضجة يمكن تفهم أسبابها بالنظر إلى أهمية القضية من ناحية وكذلك لعلاقتها بملفات عديدة لم تحسم لعل أهمها قضية التورط الرسمي الفرنسي في التخطيط والتنفيذ. ما يثير الإهتمام هو أن أكثر المتفاجئين بهذه الضجة هم المؤرخون أنفسهم الذين تفطنوا إلى أن ما يعرفونه حول المسألة ليس أمرا شائعا وأن هناك حاجة متعاظمة إليهم يتجاوز أفقها قاعات التدريس والمجلات العلمية والمناقشات الأكاديمية.
ليس ماهو أهم في قضايا الذاكرة من مسألة الرمز التاريخي، وهذا الرمز وإن تجسد في غالب الأحيان في شخصية أو حادثة فإن الأمر، في المطلق، يمكن أن يشمل أيضا بعض مواقع الذاكرة الأخرى كمعلم تاريخي على سبيل المثال. إن قيمة الرمز تتمثل الخصوص في خلقه نوعا من الرابطة المعنوية لدى مجموعة ما ومساهمته في تأسيس وصياغة وترسيخ هوية تاريخية معينة. تأخذ عملية تأسيس الرمز في الذاكرة بعدا جديدا في حضور عوامل مخصوصة، مثل التحدي الأجنبي وانخراط الشخصية المعنية في الصراع ضد الظلم وارتقائه إلى مصاف البطولة في الوعي الجمعي. ليس البطل هو ذلك الذي ينتصر بالضرورة ماديا في معركة مادية، بل ذلك الذي يقارع الباطل ويواجه الظلم بغض النظر عن تفاوت الإمكانيات الموضوعية، ذلك أن المعركة ضد الباطل ليست معركة مادية بالضرورة، كما أن الانتصار فيها لا يقاس حتما بما ينجز على ساحة معركة أو فضاء مواجهة. فصراع الحق ضد الباطل إنما هو بالأساس صراع مبادئ وتقارع إرادات.
إن عملية بناء الرمز-البطل في الذاكرة عملية متكررة في الغالب لا تختلف نماذجها إلا في التفاصيل الصغيرة الناتجة عن خصوصية الظرف. المبدأ القار في عملية البناء تلك أن الرمز يصبح فكرة توحد حولها إرادة مجموعة معينة، فيصبح الرمز بذلك تجسيدا لتوق جماعي للتحرر، بغض النظر عن إنجاز التحرر أو درجة تحقيقه. ذلك أن الانتصار الحقيقي في المعارك ضد الباطل يتحقق عندما تترسخ فكرة التحرر لدى مجموعة أفرغها الإستبداد والظلم من كل قوة وطاقة. إنها عملية إعادة بناء للإنسان بوصفه كائنا حرا بالقوة. يعج التاريخ بالأمثلة عن مثل هذه المسارات: من الحسين بن علي الكربلائي، إلى جان دارك الفرنسية، إلى غاندي الهندي، إلى نلسون مانديلا الإفريقي، إلى أحمد ياسين الغزاوي تتعدد النماذج عن نفس المسار الخلاق، مسار الإنسان الصاعد من رحم إرادة مقدسة، إرادة أن يكون حرا بغض النظر عن تفاوت مقاييس القوة والجدل حول جدوى الصمود أمام غطرسة المستبدين، أفرادا كانوا أو مجموعات. إن انتصار هؤلاء في معركة البطولة قد تم حتى قبل المواجهة المادية، تم عندما ترسخت حولهم رمزية الإرادة في الإنعتاق من حكم القوة المدججة بالظلم والسلاح والاقتصاد. لو تساءل غاندي عن جدوى مواجهة الاستعمار الأنقليزي أو ياسين عن جدوى مقارعة القوة الصهيونية، لماتت البشرية منذ زمن طويل. كم في ذلك من عبرة، لمن يريد أن يعتبر.
يضيف أهمية لقيمة البطل عدم امتلاكه لقوة خارقة، فأن يكون البطل نابعا من عمق المجموعة التي ينتمي إليها، من فقرها وقهرها وأحلامها في الحياة، أمر أساسي لأنه يعطي النموذج والقدوة لمن حوله. لم يأت غاندي سوى من طائفة المنبوذين المقهورة، لم يأت نلسون مانديلا سوى من أحياء السود الفقيرة، لم تكن جان دارك إلا فلاحة، ولم يكن أحمد ياسين، ذلك الفاقد لحركة الأعضاء، سوى رجل فقير من عائلة معدمة لاجئة إلى غزة. كذلك حشاد. فقد جاء الرجل من وسط الصيادين الفقراء المكافح والأصيل. ليس أقوى من رمزية صياد يقارع البحر كل يوم ليفتك منه رزقه، من قرأ همينغواي أو سمع عنه يدرك قيمة هذا الرمز. كان بإمكان حشاد وقد حصل على الشهادة الابتدائية (وكانت ذات قيمة في تلك الظرفية) أن يترشح لوظيفة رسمية أو شبه رسمية مثلما فعل الكثيرون ممن لم يفكروا سوى في ذواتهم، لكنه خير على ذلك النضال الاجتماعي والالتزام بالدفاع عن المسحوقين ممن يطحنهم رأس المال في اليوم ألف مرة ويقتلهم الاستبداد في نفس اليوم ألف مرة أخرى. لم تكن للرجل مؤهلات خاصة تسمح له بالتميز ضرورة، سوى عصاميته وإرادته النافذة لخدمة فكرة ومبدأ. أكثر من غيره كان الرجل قد نجح في إيجاد الحلقة المفقودة بين النضال السياسي والكفاح الاجتماعي. كم كانت ثورية فكرة أن لا معنى للكفاح العمالي من أجل الحقوق المادية دون إنسان حر. أصبح حشاد يرمز في الذاكرة الجمعية إلى ما يوحد التونسيين ويجمع شملهم، ولعل مقتله الغادر قد زاد في الهالة التي أصبح يحظى بها لدى أجيال التونسيين والأحرار في العالم. لا يمكن للقهر أن لا يخطئ أخطاء قاتلة، فالأمر متضمن في منطق القهر ذاته.
لا يهمنا موضوع البحث عن قتلة حشاد سوى من زاوية أنه استعادة الذاكرة لفضائها الطبيعي في الوعي الجمعي، فالقتلة معروفون والمسؤوليات واضحة، منذ زمن ليس بالقصير. ما يهمنا هو الطريقة التي تفاعل بها الناس مع عودة هذا المعلم إلى التداول. ففي حين فهم معظمهم أن القضية أبعد من تحقيق جنائي أو اعتراف بمسؤولية سياسية، تهاوى قسم آخر في محاولة استثمار رخيصة للقضية وتصاعدت أصواتهم المبحوحة لكثرة صراخهم في الساحات الفارغة، مطالبين بالجزئي ومتناسين المسألة الأساسية: ما نحتاجه هو ترسيخ ثقافة الرمز، وثقافة البطولة، وهوية الإنسان بوصفه ذلك الكائن المكافح من أجل إنسانية لا تكتمل سوى بقيمة الحرية. تطرح قضية حشاد مسألة أعمق من الشكل القانوني للصراع أو من جزئيات تنفيذ العملية الغادرة: تضع المسألة أمامنا وضعية صراع على الذاكرة وتؤسس لمسار تحريرها. لا يتم ذلك في نظرنا إلا بإخراج حشاد من قبره ووضعه رمزا تحت تصرف الذاكرة. منذ نصف قرن يستأثر الرسمي بالذاكرة، يصوغها كما يريد ويبغي، يبقي البطل أسيرا لبناية جميلة ولكنها باردة، معلما شبه رسمي بجوار معالم الإدارة الأخرى. هل يدرك الناس أن الضجة التي يفتعلها بعض مهنيي النضال الاجتماعي حول متابعة قضية الاغتيال ليست سوى مفتعلة وأنها لا تعدو سوى أن تكون خطوة أخرى على نفس درب الاستثمار السياسي لمناسبات قادمة؟ ليس من معلم أكثر من التجربة، كما يقولون !
في المقابل، يبدأ مسار آخر سيتسنى ملاحظة عمقه بعد جيل أو جيلين، مسألة استعادة المجموعة لذاكرتها وهوية تاريخها الأصيل. بديهي أنه على المؤرخ اليوم أن ينخرط في هذا المسار وأن يخرج عن جفاف دوره الأكاديمي، وأن يذهب للبحث عن جمهوره المتعطش لاستعادة روحه وتنقية رئة الذاكرة من شوائب النسيان والنكران. ليس أكثر قداسة من هذه المهمة، فالناس في حاجة إلى رموز وأساطير. أجدى بالأساطير أن تكون مؤسسة لفكرة، وليس من فكرة أرقى وأسمى من فكرة الإنسان.

mercredi 24 juin 2009

في "مقام الرفق"

في "مقام الرفق"

عدنان المنصر

مقال صادر بصحيفة الموقف بتاريخ 19 جوان 2009

في تفاعلها على مقالي الصادر على جزئين بالموقف تحت عنوان "في مقام الحيرة"، تعرضت الصديقة رفيقة البحوري إلى بعض النقاط التي شدت انتباهها ملاحظة حصري النقاش مع مؤلفة "حيرة مسلمة" في فضاء الأفكار بتقديم قراءة فيها الكثير من "اللطف والمنطق". قدمت الصديقة رفيقة البحوري قراءة لقراءتي فوجدتني حائرا أنا أيضا، ربما كان ذلك من حقها. جاء مقالها كلاما على كلام على كلام، وهو تمرين صعب لا أظنه متاحا لكثير من الناس. ورغم أننا نختلف قليلا و كثيرا في مقاربة بعض المسائل إلا انها لم تكن أقل رفقا بي مفضلة النقاش الرصين على إغراء التشخيص.

نعم، بإمكان المرء أن يختلف مع كل الناس أو مع جزء منهم في مقاربة مسألة ما غير أن المحافظة في خضم هذا الاختلاف على الاحترام الواجب للمختلف هي الرياضة الأصعب. ذلك أن في الأمر قدرا من التجرد ليس متاحا للكثيرين قوامه الفصل بين الفكرة وصاحبها، وهو من هذا المنطلق سباحة ضد الجاذبية وتنسيب للتناقضات ووضع لها في إطارها الطبيعي الذي يجب ألاّ تغادره تحت أية دواع مهماسطا إغراؤها .
كم يحتاج كثيرون إلى من يقدم لهم المثل في احترام الآخر والتعايش مع الاختلاف وربما التناقض، لأنه لا بديل مضمون العواقب لذلك سوى الإقصاء والعنف وربما لاحقا القتل. من هو القاتل في الأصل؟ إنه ذلك الممارس للإقصاء في شكله الأكثر حيوانية، يعتقد أن التناقضات تزول بمجرد غياب المتناقض معهم. يمارس كثير من الناس هذا النوع من القتل كل يوم أحيانا وينام بعضهم قرير العين بعد ذلك، دون أن يخطر بباله أنه يستحق عقابا ما أو أن ما أتاه يستدعي إحساسا ولو عابرا بالذنب.

من الواضح أن تقلص الفضاء العمومي يجعل من مناقشة هذا الصنف من القضايا أمرا كثير الهامشية رغم مركزيته في عملية بناء وعي التعايش، وهو ما يجعل كثيرا من المهتمين بهذا الشأن يلجؤون إلى الفضاء الافتراضي، على الفايسبوك أو غيره، وهي عملية تعويض لا تغني من الواقع المعيش لمسائل التعامل مع الاختلاف شيئا ولا تنبت في صحراء المجتمع أية أشجار ثابتة الأصل. ذلك أنه عندما تكون التربة فقيرة و الانجراف قويا، فإن الصحراء تحتل في كل يوم فضاء كان إلى مدى قريب أخضر مشرقا محولة إياه إلى يباب تعوي فيه ذئاب الإقصاء المتعطشة إلى دماء "الخصوم".

كم نحتاج إلى أن نرفق ببعضنا البعض، ولكن مقام الرفق يحتاج تربية وسلوكا خاصين، وهو منزلة لايدركها إلا من استطاع التخلص من ربقة النرجسية المتعالية. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فإن الرفق بالمختلف لا يمحو الاختلاف بل يضعه في إطاره الطبيعي الوحيد، ذلك أن الهدف منه يبقى دائما التعايش وتفويت الفرصة على ذئاب الفكر الأحادي وضباع الإيديولوجيا المريضة أن تأتي على أخضر المجتمع ويابسه. لا يطلب من أحد أن يتخلى عن أفكاره ولا حتى أن يطرح عنه رداءه الإيديولوجي، بل أن يقتنع فقط أن الخصم ليس شرا مطلقا وأن تعميم الكراهية لا يعد سوى بالخراب.

ينفتح العالم في خضم ذلك كله ويزيد اتساعا، تتزاحم الأجيال على مائدة الإبداع الإنساني فتحقق من الفتوحات المعرفية والإنسانية ما لا ينكره إلا الجاحدون. غير أن مسارا ثانويا ولكن مدمرا يتشبث بتلابيب البقاء وعوض أن يتمتع بشمس الإنسانية ودفء التواصل، يزيد انغلاقا وتقوقعا في أنفاق النرجسية المقيتة والإيديولوجيا الرثة.

إن ثقافة الإقصاء إنكار للحق في الاختلاف، و جحود للطبيعة، ومرض فتاك ينتشر بيننا كانتشار الخلايا الخبيثة في الجسم الغض. يصر البعض على أن لا يرى أعراض هذا الوباء إلاّ لدى الخصوم ويصيح مفتخرا بسلامته وعافيته وحصانته المفترضة ضد جميع الأوبئة، وهذا في الحقيقة من أول أعراض الإصابة. غير أنهم ينكرون إصابتهم بالعدوى ويرفضون التداوي و اتباع أبسط تعاليم الوقاية. في الغالب يفيقون متأخرين جدا وقد يكابرون برفض الفحص حتى في ساعة الاحتضار .كم يبدو الأمر مؤسفا !

كم ينبغي أن يبذل من جهد للإقناع بأن الإصابة ليست وقفا على جمهور دون آخر وأن الصواب والعقل ليسا ملكية خاصة أو أصلا تجاريا؟ ينظر المرء في خطاب بعض القوم فيرى الآليات نفسها، بل المفردات عينها أحيانا، فيتوقع في كثير من الحالات النتيجة الحتمية ذاتها: سقوط مدو في هوة الانغلاق السحيقة. فعندما تنعت أستاذة خصومها "بالجراثيم" ماذا يمكن أن ننتظر من مريديها؟ وعندما ترى بعض "التقدميات جدا" في حرية الملبس والمعتقد "ردة"، ماذا يمكن أن نتوقع من "الرجعيات"؟ وعندما تسام المجموعة كل صنوف الشتائم والتحقير والتسفيه لها ولثقافتها وجذورها بدعوى التخلف عن نخبتها الرائدة، ماذا عسانا نأمل من "الدهماء" المسكينة؟ لو تمعن هؤلاء في دروس التاريخ لرأوا أن هذا السلوك نفسه هو ما منع آباء الفكر لديهم من الانغراس في تربة هي طيبة رغم أنوف الجميع، فضلا عن أن تزهر أشجارهم و تينع ثمارها. لكنها المكابرة الناجمة عن اليأس من مغادرة دائرة الهامشية الضيقة تتحول في الغالب سلوكا انتحاريا على مذبح "الفكر النير". حتما إن الانتحار أقل ألما من الموت البطيء !

يمارس الكل أو بعضه التكفير بدرجة أو بأخرى، ففي حين يرمي جزء من الناس بخصومهم خارج دائرة الإيمان معتقدين أنهم المخولون لمسك دفاتر الجنة والسعير، يقوم آخرون في المقابل بطرد الأولين من فردوس حداثتهم وتنويرهم منكرين عليهم حتى صفتهم البشرية وملحقين إياهم بمرتبة الكائنات المجهرية الخبيثة. مثل وهابية السلفيين تماما، تبدو وهابية الحداثويين جذرية لا تقبل من "الفتاوي" إلا أكثرها تشددا ولا تاريخية، ومثل تكفيريي الضفة الأخرى بالضبط يبدو هؤلاء متعطشين للاستئصال وقد ولغ بعضهم في دماء القوم ردحا من الزمن حتى أصبحوا يتلذذون ذلك، لا يستطيعون من طبيعتهم الثانية تحررا ولا فكاكا.
يضطرب النبض وتتصاعد الحمى ويقاوم الجسد المصاب ماوسعته المقاومة قبل أن يسعف بترياق التعايش، فيبدأ في طرح جراثيم الكراهية وفيروسات الحقد غير المبرر. تتحول الاختلافات إلى طاقة يحيا بها الجسم ويشرق احتراما وتسامحا فيدخل في حضرة الإنسانية الرحبة وينطلق مجددا في مسار إبداعه الخلاق.


أحلم هو أم وصفة-أكسير؟ كم في الهروب إلى أحلام اليقظة من عزاء لكوابيسها المزعجة القاتلة لإرادتنا في الحياة ! وكم من وصفة أهملت لمرارة في الطعم أو لعسر في الابتلاع والهضم أو لأعراض جانبية أخرى فذوت أجساد ومرضت نفوس وتبخرت طاقات وعم خراب.

في "مقام الحيرة "، الجزء الأول


في "مقام الحيرة "

-1-


عدنان المنصر


صدر بجريدة الموقف بتاريخ 8 ماي 2009

هل فات الوقت لتقديم كتاب ألفة يوسف؟ "حيرة مسلمة" بلغ طبعته الثالثة وربما الرابعة، ولكنه لا يزال يثير الكثير من الجدل حول ما لغمته به مؤلفته من أفكار يعتبرها البعض دليلا على جرأة زائدة عن الحد. علام تجرأت ألفة يوسف: على التطرق لقضايا الجنس والميراث؟ أم على نقد الفقهاء وتشريح الفقه والدعوة إلى مواصلة الإجتهاد في فهم أحكام القرآن؟ أم أن حيرتها، وهو ما يقلق كثيرين، تنطلق أولا وأخيرا من صفتها كامرأة مسلمة؟

لم تتناول ألفة يوسف في هذا الكتاب إلا القضايا الخلافية والشائكة، وهو في ظننا إختيار لا ينبغي مناقشتها فيه مبدئيا، أليس مفروضا أن يتحدث الكتاب عن الحيرة؟ لا يجد الباحث عن اليقين في هذا الكتاب شيئا كثيرا، بل إن المؤلفة ربما تعمدت الإكثار من إلقاء الحجارة في ما قالت أنها مياه راكدة، حتى أن المرء ليخيل إليه أن لم يبق من صرح إسلامه شيء ذا بال. ولعل القضايا المتعلقة بالجنس أكثر هذه المسائل إشكالا، فهي من النوع الذي لا ينطق به عادة إلا همسا. أما أن تنشر إمرأة حول هذا الموضوع فهو مما يرفض التونسيون وبالخصوص غير التونسيين أن يتعودوا عليه. كذلك الأمر بالنسبة لقضية الإرث التي تعتبر قضية ذات حساسية خاصة، شرعيا كما إجتماعيا.

اعتمدت المؤلفة مصادر كثيرة، من التفاسير خاصة ثم من كتب الحديث. وهذا طبيعي باعتبار أنها أعلنت منذ البداية رغبتها في تعرية ما يسمى بالإجماع حول بعض القضايا. ومعنى ذلك أن المؤلفة تشكك ضمنيا في كون الإجماع مصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، غير أن هذه ليست تهمة. فقد اعتمد تمشي ألفة يوسف على التعرض لتناول الفقهاء من مؤلفي التفاسير للقضايا المذكورة آنفا، منتقلة بين فخر الدين الرازي (مفاتيح الغيب)، والزمخشري وابن العربي والطبري وابن تيمية...إلخ إلى أن تصل إلى الشيخ الطاهر بن عاشور. وقد استنتجت من خلال تعرض هؤلاء المفسرين لقضية الإرث على سبيل المثال إلى أنهم "يعمدون أحيانا إلى مجرد النظر العقلي ليقروا أحكاما إلهية وأنهم يجوزون ذلك متى شاؤوا ويمنعونه متى شاؤوا". ربما فات المؤلفة أن هؤلاء الفقهاء إنما كانوا مجتهدين، وأن كلا منهم قد تناول النص القرأني كنص تشريعي يتعامل معه وفق أليات معينة، ذلك أن للتفسير أدواته. غير أن المشكل الحقيقي لا يكمن هنا وإنما في إعتبار تلك الإجتهادات أمورا لا تخضع للنقاش. وبديهي أن كل فقيه يحاول الإستجابة لتحولات الواقع في قراءته للنص القرآني، وهو عين ما تحاول القيام به ألفة يوسف مع إختلاف المثال. فليس في الأمر كما ذهبت إلى ذلك المؤلفة تعسفا يرمي إلى "تضييق العمومي الإلهي إلى مخصوص بشري". ما هو "العموم الإلهي"؟ ما حدود عملية العموم الإلهي إذا لم يترجم نصوصا عملية تجيب على مشاكل الوقت؟

تميل المؤلفة إلى عدم إيلاء تطور وضعية المرأة مقارنة بفترة ما قبل الإسلام الأهمية التي تستحق، ولا تتعرض إلا لماما لمسألة نعتقد أن طبيعة تناولها التنسيبية للموضوع تحتمها. ورغم أن الكتاب تعددت طبعاته فهي تتجاهل بعض الإضافات التي تمت في هذا الخصوص مثل تناول محمد الطالبي ("ليطمئن قلبي") لهذا الموضوع والمقارنة التي أنجزها حول وضعية المرأة في الإنجيل والتوراة والقرآٍن، وهو تجاهل لا يليق بصاحبة الكتاب. تبدو المؤلفة منطلقة في حيرتها لا تلوي على شيء. لعله كان ضروريا أن يقع تناول مسائل الإرث وتعدد الزوجات ومسائل العلاقة الجنسية في الزواج في إطارالتناول القرآني العام لمسألة المرأة والحرية الكبيرة التي أصبحت تتمتع بها مقارنة بالفترة التي سبقت الرسالة.

تقوم المؤلفة بتحسس هذه النسبية ولكنها لا تلبث أن تضرب صفحا عن كل شيء يجيب على بعض تساؤلاتها. ما نريد الإشارة إليه هنا هو بعض الإضطراب الذي حكم أحيانا المنهج العام للباحثة. تدين المؤلفة استجابة الفقهاء لضرورات الواقع الذي نشأوا فيه وتتحدث أحيانا عن "مصالح ذاتية" أرادوا تغطيتها، وإن كانت لا تبين لنا ما هي طبيعة هذه المصالح الذاتية 58)، وهي في هذه الإدانة لا تفرق بين من أوقف حكما شرعيا اتفق على ثبوته في النص (إيقاف عمر تنفيذ بعض الحدود وفرضه تحريم بعض ما كان قد حلله الإجماع) وبين من استنبط حكما كان يبدو بعيدا عن منطوق النص. تلامس المؤلفة أحيانا حقل السلطة ولكنها لا تغوص فيه بالحد الذي يكفل توضيح العديد من الأشياء، وهو ما تناوله الدكتور الطالبي هلى سبيل المثال في خصوص قضية الردة وسياسة أبي بكر تجاه المرتدين غداة وفاة الرسول. لكن المؤلفة تسهب في المقابل في تحليل طبيعة توزيع السلطة في المجتمع بين رجال غالبين يحاولون تأبيد سيطرتهم وبين نساء مقهورات. غير أنها ربما نسيت مسألة التنسيب هنا. هل نعرف اليوم مجتمعا غير إسلامي انقلبت فيه طبيعة توزيع السلطة الإجتماعية تلك مهما بلغ هذا المجتمع تطورا وتحديثا؟ لا يتعلق الأمر بالقرآن، وهو أيضا ليس حكرا على المسلمين، ولكن ذلك ليس مبررا لإيقاف مسار التحديث بدعوى أن الأمر شائع. هناك سعي واضح من قبل المؤلفة للنظر إلى المرأة والرجل كعدوين متصارعين، لا يربح أحدهما إلا ما يفتكه من الآخر. وهذا التوجه وإن كان جديرا بالإحترام علميا، فإنه يعبر أيضا عن عقدة إجتماعية من صنف العقد التي أطنبت المؤلفة في تحليلها، عقدة المجتمع القضيبي. نعتقد أن المشكل ينبع، في رأينا، من النظر إلى أن المسألة تتلخص في صراع أبدي بين المرأة والرجل، وهو ما تميل إليه بعض المدارس الفكرية راهنا.ماذا تفعل المؤلفة بكل الآيات والأحاديث التي تعتبر المرأة والرجل قد خلقا "من نفس واحدة" وأن أحدهما "سكن" للآخر و "لباس" له؟

بل إن المؤلفة تذهب إلى المقارنة بين الحياة الزوجية من منظور المرأة وبين حالة العبودية وهو أمر يبدو لنا كثير التعسف، لتذهب إلى أن المسلمين الذين حرموا الرق في فترة من فترات تطورهم التاريخي ربما توجب عليهم السير في الطريق ذاته من أجل تحرير المرأة. المرأة عبد؟ كم في الأمر من مبالغة مهما اجتهدت المؤلفة في إيجاد كل "أوجه الشبه" الممكنة. لا تنظر المؤلفة المنطلقة في حيرتها إلى الزواج سوى كأحد وجوه تلك العلاقة غير المتكافئة بين "السيد" و "عبده"، وتتساءل عما إذا كانت طاعة المرأة زوجها في الفراش وجها أساسيا في تلك العلاقة الظالمة.

كان بالإمكان التعرض هنا إلى أن السياق لا يحتمل المقارنة لأن العلاقة بين الزوجين هي أساسا علاقة طوعية إختيارية، وأن أي خلل فيها إنما يداوى بأبغض الحلال، وهو ما تناولته بعجالة عند الحديث عن الخلع الذي وجدت له جذورا صلبة في الممارسة التشريعية الإسلامية. في مقابل ذلك تذهب المؤلفة إلى الحديث عن زواج المتعة ومسألة منعه التي تمت على يد الخليفة عمر، معتبرة أنه ربما كان هذا المنع قد تم لأنه "يمكن المرأة من بعض الحرية خلافا للزواج العادي الذي لا يشبه عقود البيوع فحسب بل يشبه عقود الرق والعبودية" (ص 102).

ربما تغافلت المؤلفة هنا عن أن هذا الحل ليس مثاليا للمشكل الأساسي الذي انطلقت من مقاربته في الأصل باعتبار أن حصر العلاقة بين الرجل والمرأة في الجنس يبتذل المرأة كما الرجل. لا نعتقد أن زواج المتعة، ورأينا يحتمل الخطأ طبعا، يكفل للمرأة كرامتها بل لعله يشرع اعتبار أن الجنس هو الأساس في العلاقة الزوجية. فهو من هذا الجانب تغطية شرعية لمشكل ظرفي من نوع المشاكل التي يعيشها الشباب اليوم. عندما تذهب المؤلفة إلى أن الهدف من الزواج لم يكن "تأسيس أسرة بمعناه المتداول اليوم"(ص102) فإنها تهمل نقطة رئيسية نعتقد أن إهمالها يجعل "الحيرة" أمرا حتميا. صحيح أن الإسلام يعتبر مسائل النسب رئيسية، وهو أمر نعود إليه لاحقا، ولكن الزواج إنما يهدف أساسا، حسب ما نعلم، إلى الإعمار بما يتيحه من تزايد ديمغرافي في حدود المؤسسة العائلية أو الأسرية. لذلك يعتبر الإسلام أن أي علاقة جنسية خارج إطار الزواج إنما هي محرمة أصلا، وهو أمر حققه إلغاء الرق بصفة كاملة بإلغائه ملك ذات اليمين. ما مدى جدية التفكير في العودة إلى ممارسة تنقل المرأة من ضمانات وضعها كزوجة إلى وضع "ملك اليمين ،حتى ولو كان الحرمان الجنسي وراء ذلك؟

من الغريب أننا نجد المؤلفة، في إطار بحثها عن حل لمشكلة الأبناء "غير الشرعيين" تقر زواج المتعة ولا تقر تعدد الزوجات عندما تقول: "لولا أن عمرا قد نهى عن المتعة لما وجدنا في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم هذا العدد المهول من الشباب والفتيات يعانون من الحرمان العاطفي ومن الكبت الجنسي. إننا نفضل على الأقل اعتبارا أن يولد أطفال في إطار زواج متعة فينسبون إلى آبائهم شرعا وقانونا ..." (ص 103). حتما إن المنطق الذي يقودها هنا ليس عقليا بالمرة، فأن تعتبر الزواج استغلالا عبوديا للمرأة وتعدد الزوجات إهانة لكرامتها وترسيخا لدونيتها بالنسبة للرجل ، وأن تغفل نفس تلك العيوب عندما يتعلق الأمر بزواج المتعة، أمر يستدعي التساؤل. المسألة مسألة قياس عقلي هنا، فزواج المتعة، مهما أبدعت المؤلفة في توضيح إيجابياته النسبية، لا يمنح المرأة مطلقا ما يحرمها منه التعدد. تهمل المؤلفة في الأثناء مسألة عقد الزواج ولا تنظر إليه إلا كترسيخ للعلاقة الجنسية، في حين أن صفته التعاقدية تعطي المرأة كما الرجل حق الاشتراط، مما يفتح المجال واسعا أمام تعدد نماذج لا مثيل له، وهو ما تناوله بعض الباحثين في خصوص الزواج القيرواني (أحمد الطويلي في"الصداق القيرواني"، محمد الطالبي في "أمة الوسط")الذي لم تشر ألفة يوسف إليه مطلقا رغم أنه كان حلا شرعيا لقضية التعدد وأذى المرأة الحاصل غالبا منه. قد نفهم من ذلك مرة أخرى أن الكاتبة ربما انتقت من كل شيء فقط ما يعمق حيرتها معرضة عما عداه.

يسمح "الصداق القيرواني" بأن تشترط الزوجة على زوجها أن لا يتزوج عليها امرأة أخرى كما يسمح للزوجة أن تبقي العصمة في يدها فتطلق زوجها متى شاءت. إضافة إلى ذلك فإن المهر الذي نظرت إليه المؤلفة فقط من زاوية أنه يرسخ علاقة بيع المرأة للرجل كبضاعة جنسية، يحتمل من التأويل ما لم تتناوله الكاتبة ولو لماما. يسمى المهر "أجرا"، لكنه يسمى أيضا "فريضة"، و "نحلة"، وإذا كانت ألفة يوسف قد فهمت "الأجر" كمقابل للجسد، فإننا نرى أنه فهم الدرجة الأولى الذي ما كنا نعتقدها، كمختصة، ترضى به وهي تعلم أن الغرض منه هو إظهار قيمة عقد الزواج وترسيخ لمبدأ حسن النية في الارتباط، وهو أحد أهم أسس الزواج. من الغريب أن المؤلفة لا ترى حرجا في زواج المتعة الذي ينتفي منه ركن حسن النية فيغدو، من هذا المنطلق وبالقياس، عقد بيع حقيقي أو قل عقد بغاء. كما أن "اقتراح" زواج المتعة يمكن أن يكون مدخلا لتعدد الزوجات، فلا نعتقد أنه بالإمكان أن يسمح به لغير المتزوجين ويمنع منه المتزوجون، يجب أن يكون لبعض الإقتراحات منطق يعتد به في عالم العقل.

(يتبع)

في "مقام الحيرة "، الجزء الثاني




في "مقام الحيرة "

-2-

عدنان المنصر

صدر بجريدة الموقف بتاريخ 15 ماي 2009


تطرقنا في الأسبوع الماضي إلى كتاب "حيرة مسلمة" لصاحبته الباحثة ألفة يوسف من زاوية تناولها للعلاقة الزوجية ومسألة تعدد الزوجات وزواج المتعة، ونواصل في هذا الجزء الثاني التعرض لهذه المسألة بطريقة نسعى من خلالها إلى محاورة المؤلفة ومناقشتها في بعض المنطلقات وفي تمشيها المنهجي.

إن هموم الحاضر موجودة بقوة في تناول المؤلفة لمسألة العلاقة الشرعية، حيث نراها تتفاعل مع مشاكل الفئات غير القادرة على الزواج عن طريق البحث في إمكانيات أخرى لتصريف الطاقة الجنسية، من ذلك كما أسلفنا زواج المتعة، وهو نفس التمشي الذي ذهب إليه الطالبي على سبيل المثال عندما اعتبر "نكاح السر" أو الزواج العرفي حلا محتملا لتلك القضية. ومعنى ذلك أن المسألة تبقى إجتماعية، وأنه يراعى في الحل أن يكون متطابقا قدر الإمكان مع الشرع. كذلك الأمر بالنسبة لتعدد الزوجات، فهي قضية إجتماعية تعاملت معها الأديان، المسيحية كما الإسلام، بما يتلائم أولا مع منحاها الإصلاحي ومع درجة تطور المجتمعات. هناك خلط كبير يقع فيه كثير من الناس بالقول أن الإسلام يشجع على تعدد الزوجات، الإسلام يحل ذلك ولا يفرضه أو يشجع عليه. ومن منطلق تاريخي فقد كان "الإكتفاء" بأربعة زوجات تطورا مقارنة بما قبل الإسلام حيث لم تكن الممارسة الإجتماعية تعترف بأي تحديد. وبغض النظر عن الشروط التي وضعها القرآن للسماح بالتعدد، فإن التطور الثقافي للمجتمعات ينقل المسألة حتما من الحيز الديني إلى الحيز الإجتماعي والثقافي، وهو ما نرى أنه من المقاصد الواضحة للشريعة. إن المشكل في نظرنا ينبع من سعي الحداثة لتعويض الدين عندما تسعى، في نسختها الأكثر شيوعا بيننا، لتعويض الحكم المقاصدي النسبي إلى حكم نهائي بات لا يحتمل المراجعة. حتما إن "دين الحداثة" أقل تسامحا من "دين الله".

إن مشاكل الواقع الراهن تدفع أحيانا بالبشر للبحث عن حلول لا تختلف شكلا عن ممارسة تعدد الزوجات، وهو ما نجد له صدى في سماح القوانين الغربية بالمعاشرة الحرة رغم ما قد ينشأ عنها من ضرر لمؤسسة الأسرة ومن عدم استقرار اجتماعي للمتعاشرين وأبنائهم. ولعل المؤلفة محقة عندما اعتبرت أن العراقيل أمام الزواج تجعل من الشباب مكبوتا إلى سن متقدمة نسبية، غير أنها ربما أغفلت أن تذكر أن هذه العراقيل هي في الحقيقة من ضمانات عدم شيوع تعدد الزوجات ولو سمح به قانونا، بل إن المؤرخين ربما أكدوا أن هذه الظاهرة كانت محدودة الإنتشار في بلادنا حتى قبل صدور مجلة الأحوال الشخصية. ونعتقد أن تلك القوانين رغم ما أنتجته من تعارض بين الممارسة القانونية والسماح الشرعي قد أحدثت ديناميكية إجتماعية إنعكست استقرارا أكثر في الأسرة، وأن واضعيها انطلقوا من نية للتوفيق بين مقاصد الشريعة وحتمية الإصلاح الإجتماعي. غير أن ما نعيبه على الحداثة والحداثيين سعيهم إلى تعويض المقدس الإلهي (الشرع) بمقدس آخر (القوانين) أقل استعدادا للنسبية والتلاؤم مع ما قد ينشؤه تطور المجتمعات من إشكالات.كما نعيب علي بعضهم في سياق متصل أن ينظروا إلى الزواج كعقد بيع لبضاعة جنسية في حين ترسخ بعض إقتراحاتهم هذا المبدأ وتنسف مبدأ الأسرة والمجتمع المتوازن نسفا.

قد تنتابنا الحيرة في تفسير بعض النصوص ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نحدد ما نريده بوضوح. في هذه النقطة بالذات، وقياسا على تمشي المؤلفة، فإن الحيرة تبدو، يا لغرابة الوضع، من نتاج الحداثة وليس من نتاج الإسلام. ألم تضيق الحداثة بسعيها لتعويض الدين مجال المناورة أمام من جاءت لتعبر عن توقهم إلى التلاؤم الأمثل مع العصر؟ وإذا كانت أحكام الشرع الإسلامي تحتمل التأويل إلى حد التناقض الناتج عن درجة السعي لملاءمة المبدأ مع الظرف، فإن "شرع الحداثة" لا يحتمل أي تأويل. من نفس المنطلق، من يعتبر تصريف الطاقة الجنسية أمرا معيبا، الإسلام (بسماحه بها في إطار الزواج المتعدد عندما تتوفر شروط كم يصعب ضمانها)، أم الحداثة (بنقلها الموضوع بأكمله إلى حقل الممنوع قانونا)؟ ومن يعتبر الممارسة الجنسية أمرا مسكوتا عنه بمنطوق الأحكام والقوانين (يكفي هنا أن نقارن بين حجم تناول المدونة الفقهية لمسائل الجنس مع أي مدونة أوروبية مهما ضربت عروقها في التاريخ)؟

تقترح ألفة يوسف على قرائها سؤالا أثار كثيرا من اللغط: "لماذا رفض الرسول أن يتزوج علي على فاطمة؟" وتورد القصة وفحواها أن "بني هشام بن المغيرة" استأذنوا الرسول في أن يزوجوا ابنتهم عليا، وهو ما صرح الرسول برفضه ثلاثا وهو على المنبر، على أساس أن فاطمة "بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها". تستنتج المؤلفة اعتراف الرسول بالأذى الناتج عن تعدد الزوجات بالنسبة للزوجة الأولى، ولا نخالفها البتة الرأي، غير أننا لا نوافقها فيما ذهبت إليه من وجود تعارض بين حديث الرسول ومنطوق النص القرآني. كان بإمكانها أن تقول أن الأمر يتعلق بابنة أبي جهل، فذلك يغير الكثير من الأشياء. هناك الكثير من المعطيات الظرفية التي تفسر رفض الرسول تلك الزيجة، من ذلك خريطة التصاهر وتأثيرها في توزيع النفوذ في فترة حساسة من تطور الإسلام. من الغريب أن المؤلفة لا تولي لكل تلك الظرفية أدنى اهتمام وهي التي تتمسك بالنسبية كأشد ما يكون التمسك. غير أن الأغرب هو قولها أن الأمر يحتمل تأويلين: أولهما أن القرآن لم يبح ولم يمنع، وبالتالي فإن التعدد منسوخ "عبر الزمان" باعتبار أن التعدد سيئة من سيئات الجاهلية. وثانيهما أن الرسول إنما تصرف "كأب حرم ما أباحه الله"، مستدركة أنها "لا تقف هذا الموقف الذي قد يمس من شمول الرسالة وقداستها" (ص 135). وبما أن المؤلفة قد استبعدت الإحتمال الثاني(وهو ما يتناقض مع ما ذهبت إليه قبلا عندما أكدت أنه "مما لا شك فيه أن الرسول كان يسلك أحيانا سلوكا بشريا لا يستوجب بالضرورة اتباعه باعتباره سلوكا يخضع لأذواق شخصية وأطر تاريخية"، ص 117) فقد بقي لنا الإحتمال الأول وهو أن إباحة التعدد "منسوخ عبر الزمان" وأن النص القرآني في نهاية الأمر "لم يبح ولم يمنع". ما معنى وضعية "لم يبح ولم يمنع" هذه؟ كم يتطلب الأمر من شجاعة للقول أن الإباحة لا تفرض الأمر، وأن الأذى الحاصل من التعدد أمر واضح بفعل الشروط الصعبة التي يضعها النص نفسه، ولكن المؤلفة تبدو كمن قررت ترك ما لا يريبها إلى ما يريبها.

في الإطار ذاته تتناول ألفة يوسف بعض المسائل الطريفة وتجهد نفسها في التفكير فيها لتقر في النهاية بأن الأمر عبثي، من ذلك مسألة تعدد الأزواج للمرأة الواحدة حيث تنطلق من تقرير أنه "لا نجد في القرآن آية صريحة تحرم زواج المرأة بأكثر من رجل" (ص126) وهذا صحيح، غير أن القول بأن المفسرين إنما استندوا إلى الآيتين 23 و 24 من سورة النساء لتحريم ذلك أمر فيه الكثير من السطحية. ينبغي العودة هنا إلى قضية الأنساب باعتبارها مبدأ مركزيا لم يأت به القرآن وإنما وجده فدعمه، وهو المبدأ الذي يدمره تعدد الأزواج للمرأة الواحدة، إلا إذا كان المراد أن يدعى الأبناء لأمهاتهم وليس لآبائهم، وهو أمر لم تذهب إليه المؤلفة. من الغريب أن المؤلفة لا تتوقف عند قضية الأنساب هذه رغم مركزيتها ليس في الفقه فحسب بل في ثقافة الإسلام كلها. تنتهي المؤلفة بعد 5 صفحات إلى الإقرار بعبثية الاحتمال الذي انطلقت منه، وهي عبثية نكتشفها في مواقع أخرى مما يجعل الحيرة، في بعض الأحيان، "مختلقة".

فعندما تتحدث الكاتبة عن اللواط والسحاق نجدها تعتبر أن ليس هناك نص صريح في القرآن يحرمهما، وقد فهم بعض الناس خطأ أن ألفة يوسف إنما تدعو إلى "الشذوذ الجنسي"، وهو أمر يدل على سوء فهم واضح للكتاب. تناقش المؤلفة مدى تطابق التفاسير مع منطوق النص القرآني في خصوص قضية قوم لوط، وتشكك في إمكانية أن يكون العقاب قد حل عليهم بسبب اللواط وحده، باعتبار أن "المنكر" الذي كانوا يأتونه في ناديهم لا يقتصر تعريفه على اللواط فقط. وعلى اللواط تقيس الكاتبة السحاق لتصل في النهاية إلى أن الفقهاء ربما حملوا في قراءاتهم للنص ما لا يحتمله ضرورة أو أنهم، مرة أخرى، "ضيقوا معنى النص". غير أن هدف المؤلفة كما فهمناه يتجاوز هذه النقطة ليصبح إدانة لاعتبار اللواط فعلا محرما لمجرد أنه يجعل الرجل في وضعية المرأة، وهو ما يرسخ حسب رأيها الطبيعة البطركية للمجتمع الإسلامي. في القرآن أيضا لا نجد أشياء كثيرة، مثال العلاقة الجنسية بين إنسان وحيوان، كما لا نجد نهيا عن أكل القذرات،هل يعني ذلك أنه سكوت قابل للتأويل؟

من الغريب، مرة أخرى، أن الكاتبة التي أطالت البحث في هذه المسائل قد نظرت إلى النص في غياب الطبيعة والمألوف والعرف، ذلك أن الجنس أصلا هو تكامل بين الأنثى والذكر بما يحقق هدف الإعمار في إطار من الألفة والمودة والرحمة، أما القول بأن الآية "زين للناس حب الشهوات من النساء..." تحتمل أن المقصود بها الرجال تجاه النساء والنساء تجاه النساء فهو لا يعدو أن يكون تأويلا مناقضا لروح الطبيعة والفطرة و"المعروف"، تلك الروح السابقة والمحددة والمتحكمة في الشرع الإسلامي، وهو ما سلمت به المؤلفة لاحقا عندما قالت "أن تأويل القرآن لا يمكن أن يخرج عن المعروف" (ص 226) . حتما، إن "القرآن ليس مسؤولا عن استيهامات قارئيه وشهواتهم العميقة" (ص 221)، ولكنه أيضا يحتوي على نوع من المنطق الداخلي الذي ينبغي أخذه بعين الإعتبار عند التصدي لفهمه.

من الصعب أن نتناول كل النقاط التي أتت عليها ألفة بوسف في كتابها، إلا إذا تطلب الأمر حلقات تمتد على أسابيع عديدة، وهو أمر يبدو غير متاح. حسبمنا أننا نقدر المجهود المعرفي الذي قامت به المؤلفة، والمؤلفون يعرفون أن أكبر تكريم لهم هو مناقشتهم في مضمون كتبهم. ذلك أن كتاب ألفة يوسف بوصفه دعوة إلى السؤال إنما هو دعوة إلى النقاش، وذاك في حد ذاته كاف ليعطى ما يستحق من اهتمام. إن حيرة ألفة يوسف هي حيرة الحداثة، أو قل حيرة أحد وجوه الحداثة، تجاه عودة الدين إلى الساحة. هناك تخوف على مكتسبات الحداثة في هذا الكتاب، وتوق إلى حث مسار التحديث الذي لا ينبغي أن يتوقف، في المجال التونسي، عند مجلة الأحوال الشخصية التي غدت قاصرة، في نظر الكاتبة، عن الإستجابة للتطلعات المشروعة لتحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. إنها تبدو كمن يحث الخطى لضمان أسبقية إضافية على "الخصم". غير أنها في سعيها ذاك كثيرة التعثر، ذلك أن حيرتها تمنعها من رؤية طريقها بوضوح: ألا يتطلب الأمر، بالموازاة مع تحيين فهمنا للشرع وأحكامه، أن نقوم بتحيين) ( update فهمنا وممارستنا للحداثة، أم أن وأد المقدس يستتبع حتما تفريخ مقدس آخر أقل استعدادا للتسامح وصالح، هذه المرة، "لكل زمان ومكان"؟.