vendredi 18 mai 2007

ترياق عجيب يشفي من الإيدز... أخيرا



ترياق عجيب يشفي من الإيدز... أخيرا

"وإذا مرضت فهو يشفين"
عدنان المنصر
مقال صادر بالعدد 406 من جريدة الموقف التونسية بتاريخ 18 ماي 2007




غمبيا بلد صغير جدا يقع غرب إفريقيا، ولمن لا يعرف عنه شيئا فإن مساحته في حدود أحد عشر ألف كلم2، في حين لا يتجاوز عدد سكانه المليون والنصف معظمهم مسلمون، كما أنه حصل على استقلاله من بريطانيا سنة 1965، ويحكمه نظام جمهوري يتمتع فيه رئيس الجمهورية بأوسع السلطات. كان بالإمكان أن يظل هذا البلد مغمورا كعادته لولا أن رئيسه أصر على أن يجلب إليه اهتمام العالم منذ بضعة أشهر.

فقد قرر الرئيس يحيى جماح فجأة أن يصبح طبيبا، كما قرر أن يختص في تطبيب المصابين بمرض الإيدز بالخصوص الذين تقدر منظمة الصحة العالمية عددهم بغمبيا بأكثر من عشرين ألفا. ففي اجتماع دعا إلى حضوره ممثلي الدول الأجنبية والمنظمات الدولية عقد في العاصمة بانجول في شهر جانفي من هذه السنة أعلن الرئيس الغمبي اختراعه عقارا كفيلا بالقضاء على تطور المرض العضال استطاع التوصل إليه من خلال تركيبة من سبع حشائش يقع طلي المريض بها مع قراءة آيات من القرآن في الأثناء. الخبر في حد ذاته مثير للإهتمام، وقد كان من الطبيعي أن يتساءل الحاضرون، ولو همسا، عن مصداقية الإختراع العجيب وأن يطلب بعضهم، على استحياء، تفاصيل أكثر تجعل الشك يقينا. غير أن ممثلي الدول الأجنبية المعتمدين لدى جمهورية غمبيا أحجموا عن التصريح بشكوكهم بل أحجموا عن كل تعليق من شأنه أن يؤول كتشكيك في صدقية الإختراع الرئاسي، لسبب بسيط وهو أنهم أكثر من يعلم بأن المسألة أبعد ما تكون عن العلم عموما وعن الطب خصوصا. وفي المقابل بدأ بعض ممثلي المنظمات الدولية في الحديث عن الموضوع، طالبين تفاصيل أكثر، فقط "ليزدادوا إيمانا"، ومع إلحاحهم بدأ يتضح "للرئيس المعجزة" سوء نواياهم، فكان أن صدر عن رئاسة الجمهورية بيان اعتبر المنسقة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة في غمبيا شخصا غير مرغوب فيه مع ضرورة مغادرة البلاد في غضون 48 ساعة. وقبل ذلك كان صحفيان في جريدة الدايلي أبزورفر الحكومية قد أطردا من وظيفتيهما لعدم تحمسهما الواضح أثناء تغطية خبر الاختراع الرئاسي. وقد ذهبت مساعي منظمة الصحة العالمية للحصول على ما يطفئ الظمأ من تفاصيل (تتيح تحقيق استفادة البشرية كلها من هذا الاختراع) أدراج الرياح، فالرئيس جماح مصر على سرية الاختراع، وحتى يكمل معروفه فهو يرفض تقديم تركيبة الترياق العجيب لمن يعتقد أنهم سيتاجرون به وبآلام البشر، لذلك فقد أنشأ مستشفى خاصا يعود فيه مرضى الإيدز بنفسه أربعة أيام في الأسبوع كما أنشأ صندوقا خاصا بمداواة مرضى الإيدز افتتح له حسابا ببنك غمبيا العربي الإسلامي. ومنذ ذلك الحين فإن النشاط الطبي للرئيس جماح يحظى بأكبر تغطية إعلامية في غمبيا حيث تسخر إمكانيات التلفزيون الغمبي لمتابعة نجاحات "الطبيب الأول"، كما يسمح للمرضى بالقول، وهم في كامل وعيهم وفي حل من أية ضغوط طبعا، بأن نتائج العلاج إيجابية وأنهم تخلصوا من المصيبة التي كانت تسمم حياتهم بفضل طريقة رئيسهم المصيبة. وبديهي هنا أنهم سيتوقفون عن متابعة علاجهم السابق، لأن ذلك سيعتبر تشكيكا في قدرات رئيسهم الطبية، وهذه مسألة تهم سلامة الدولة قبل سلامتهم الخاصة.
ومنذ أن بدأ الناس في الحديث عن الترياق العجيب أكثر الرئيس الغمبي من التصريحات وقد جاء في إحداها (فيفري 2007) أنه بإمكانه أن يعد الشعب الغمبي بتحقيق التطور في حدود سنة 2020. وللإشارة فإن الرئيس الغمبي الذي قدم إلى السلطة في بلاده غداة انقلاب عسكري ناجح تزعمه في 1993 قد أعيد "انتخابه" في سبتمبر 2006 لفترة رئاسية ثالثة تدوم خمس سنوات. معنى ذلك أن الرئيس جماح يحتاج إلى دورتين رئاسييتين أخريين (دون احتساب الدورة الجارية التي تنتهي في 2011) ليحقق الازدهار للشعب الغمبي. وهو غير مبال بالانتقادات التي توجه لحكمه من قبل المنظمات الدولية وجمعيات الدفاع عن حرية التعبير وعن حقوق الإنسان بسبب ما يشاع عن ارتكاب حكمه انتهاكات صارخة في هذا المجال، حيث يذكر أنه صرح بعيد انتخابه في سبتمبر 2006 بأن "بإمكان العالم كله أن يذهب إلى الجحيم الآن". لقد أصبح قرار جماح بدخول عالم الطب قرارا لا رجعة فيه، حتى أنه طغى على ما عداه من مهام رئاسية. فالرجل يترك شؤون الدولة كلها ويتفرغ أربعة أيام في الأسبوع لعيادة مرضاه، أما بقية أيام الأسبوع الثلاث فهو إما يدعو الناس للتبرع "طوعا" لبرنامج مكافحة الإيدز أو يطالع التقارير عمن يشكك في ترياقه المعجزة لتحريره من حريته أو قطع رزقه. وبالفعل فإن المعارضة، على ضعفها، لم تعد ترهق نفسها كثيرا فيما يبدو في البحث عن مساوئ حكم الرئيس جماح، حيث أصبحت تعرف أنه يكفي أن تشكك في اختراعه حتى تثير حنقه. أما وزير الصحة المسكين فقد أضحت مهمته منذ ذلك الحين تسويف الصحافة والمنظمات المعنية بالملف، في حين صام الأطباء عن الكلام بطريقة مثيرة للاستغراب.

ماذا يمكن للدكتاتوريات أن تستخدم في سبيل البقاء بالحكم؟ لم تعد الوسائل الكلاسيكية لغلق الباب أمام التداول على السلطة كافية فيما يبدو. ولم تعد القوة والبطش المرادفين لأي حكم عسكري بقادرتين على طمأنة الماسك بزمام الأمور، القادر فوق عباده، على مصير سلطته. من هنا فإن عملية تجديد للشرعية السياسية أضحت أمرا ملحا. ولكن تجديد الشرعية لا يتم في هذا النموذج بإتباع الأسس المتعارف عليها في عالم اليوم، وذلك بالرغم من "العراقة الجمهورية" للنظام المعني، وإنما بالعودة إلى الوراء، إلى ممارسات خالت البشرية أنها ماتت بانقضاء الآجال. ذلك أن النظام الجمهوري، المفترض أنه ديمقراطي، قد قسم المهام بطريقة تشبه إلى حد بعيد تقسيم العمل: السلطة تحكم، والمعارضة تعارض.... والأطباء يهتمون بالمرضى. وفي عالمنا المغرق أكثر فأكثر في التخلف فإن رأس النظام لا يكتفي فقط بالاستحواذ على صلاحيات السلطات الأخرى، وإنما يتجاوز ذلك إلى التدخل في ميادين تتطلب قدرا أدنى من المعرفة بالعلم الحديث وبتطبيقاته الأكثر دقة. ولا بأس هنا من تغليف الموهبة الجديدة بغلاف الدين، والتأكيد على أن عجز العلماء عن الاقتناع بجدية الترياق العجيب مرده إلى كونه نتاج موهبة ربانية وأن من سوء حظ العلم الحديث أنه لا يؤمن بالمواهب الربانية.
هنا ينتقل الجدل إلى مستوى آخر بسرعة ضوئية : الخلاف يعود في الأصل إذا إلى اختلاف الثقافات، وما هو صالح بالنسبة للغرب ليس بالضرورة صالحا لغيره، لذلك فعلى الحلول أن تكون من جنس المشاكل التي تعيشها كل ثقافة، وما يسري على الإيدز يسري حتما على غيره، فكلها علل. خذ مثالا على ذلك مسألة الديمقراطية وما يتبعها من تقسيم للسلطات وضبط لصلاحياتها: هذه ليست مشكلة إفريقيا (ولا آسيا حتما)، حيث يتضور الناس من الجوع، وحيث تنتشر الأمية بشكل مخيف، وحيث يتوجب إدارة الثروة بما يحقق للشعب قوته اليومي على الأقل، وكرامته لاحقا. أما مسألة تجديد الشرعية بإتباع الوسائل الديمقراطية وبفسح المجال أمام الشعب ليختار قيادته بكامل الحرية فأمر مبتدع هو الآخر، لأن شعبا جائعا (وبالمناسبة فهو جائع وإن أكد تخمته) لا يمكن أن يختار بحرية من يسير أمره. وفوق ذلك فإن المسألة مسألة وقت ومراحل وأولويات، وما استغرقت أوروبا للوصول إليه قرنين أو ثلاثة، سنصل إليه نحن أيضا، بعد قرنين أو ثلاثة. المهم أن النية متوفرة، وهذا أول الطريق.

mercredi 16 mai 2007

النخب الاجتماعية التونسية زمن الاستعمار الفرنسي




كتاب:

النخب الاجتماعية التونسية زمن الاستعمار الفرنسي

(1881-1956) الأشراف والبلدية مثالا

تأليف عبد الواحد المكني. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس. 2004. 360 صفحة.

تقديم كتاب:بقلم عدنان المنصر صادر بمجلة روافد، مجلة المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، العدد العاشر 2005





هذا هو المؤلف الثالث للأستاذ عبد الواحد المكني بعد أطروحته حول "الحياة العائلية بجهة صفاقس بين 1875 و 1930، دراسة في التاريخ الاجتماعي والجهوي" (منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس 1996) وكتاب "شتات هل وسلات من 1872 حتى بداية القرن العشرين" (دار سحر للنشر، 1998). وهو في هذا الكتاب يعيد الغوص في التاريخ الاجتماعي والمحلي التونسي الذي جعل منه اختصاصا له، مسلحا بمعرفة جيدة بالمصادر وبأدوات نظرية تخرج البحث التاريخي من تقوقعه على ذاته وتمد بينه وبين العلوم الإنسانية الأخرى من جسور التواصل ما يسمح بمعرفة أفضل للمجتمع التونسي في تطوره التاريخي تحت الحماية الفرنسية.
قسم الأستاذ المكني عمله إلى بابين تعرض في الأول لدراسة فئة الأشراف ومكانتهم الاجتماعية بالبلاد التونسية في الفترة المدروسة، في حين خصص الثاني لتتبع تطور مكانة النخب البلدية العريقة في الفترة ذاتها. والملاحظ في التخطيط المتبع أن المؤلف حاول دراسة المحددات الرمزية والمادية لكلا الفئتين وتوزيعهما المجالي بالإضافة إلى تتبع الهياكل التي نظمت من خلالها أنشطتها الخاصة والعامة، مع تبيان انعكاسات السياسة الفرنسية على مكانتهما والتراجع الذي أصاب تلك المكانة تحت وطأة التغيرات في بنية المجتمع التونسي تحت الحماية الفرنسية ومواقف هتين الفئتين من بعض الأحداث الهامة كحدث 1881 وأحداث 1885 والجلاز والترامواي. كما احتوى المؤلف على جملة من الملاحق الوثائقية والفهارس المفيدة إضافة إلى ثبت للمصادر والمراجع يوضح تنوع المطالعات التي قام بها المؤلف وثراءها وعدم التزامها ضرورة بمحددات الاختصاص.
قدم الأستاذ المكني كتابه بمدخل نظري حاول من خلاله تبرير اختياره للموضوع وللمنهج الذي اتبعه متبنيا اتجاها نقديا إزاء التحليل المادي التاريخي الذي يجعل من الفئة أو الطبقة مجرد تعبير عن مصالح مادية في المجتمع، مخيرا توسيع أفقه النظري بالاستئناس بكتابات علماء السياسة والاجتماع وموليا الرمز الأهمية التي يستحق في سعيه لرسم ملامح المجموعات المدروسة.
لقد كانت للاستعمار الفرنسي بتونس تأثيرات عميقة على فئة الأشراف وعلى فئة البلدية حيث تراجعت هيبة الفئات التقليدية "نتيجة استفحال النمط الكولونيالي وجراء انتشار التمدن العصري في كل مظاهر الحياة" ولعل انتشار التعليم وتقدم التحديث من أبرز العوامل التي ساهمت في إنتاج تنميط جديد للمجتمع أضر بمرتبة فئات المكانة. يمثل الأشراف في هذه الفترة عددا قدر المؤلف أنه لا يتجاوز الثلاثين ألف نسمة أي حوالي 1 بالمائة من سكان البلاد، ولم تمنع محدودية الحجم البشري هذه الفئة من لعب دور حاسم في شرعية الحكم وجهاز الدول محافظة في الأثناء على قدر من التجانس الداخلي ومستغلة أحاسيس التقديس لعقب الرسول في أوساط التونسيين للمحافظة على حد دنى من الاحترام والهيبة. أما مجاليا فقد توصل الكاتب إلى أن توزيع الأشراف يتم خاصة في الفضاءات الحضرية ذات الكثافة النسبية والمشتهرة بوجود معالم دينية وروحية هامة كالرباطات ومقامات الأولياء والطرق النافذة والجوامع العريقة.
حاول المكني الولوج إلى اخل لبناء البشري لفئة الأشراف من خلال نموذج مجهري مثلته عائلة النيفر حيث قدم قراءة في علاقات المصاهرة داخلها ملاحظا ما تميزت به هذه العائلة من انفتاح نسبي إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر. وتكمن أهمية دراسة علاقات المصاهرة في هذا النموذج في دلالتها على محاولة العائلة الشريفة التكيف مع جملة التغيرات في البنية الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. كما تعرض المؤرخ في إطار تعرضه للبناء البشري لفئة الأشراف لتتبع هياكل تنظم هذه الفئة وهي بالأساس نقابات الأشراف التي عرفها المكني بوصفها "تجمعات أفقية "كارتالات" للذود عن المصالح المشتركة للمجموعة الشريفة في علاقتها مع مراكز السلطة وتنظيمات المجتمع" (ص 101). وتنحصر مهام نقابة الأشراف كما لخصها الأستاذ المكني في حفظ نقاء السلالة الشريفة وفرض نوع من السلوك الأخلاقي يضمن العلوية والاحترام ثم الدفاع عن المصالح والامتيازات التي من شأنها صهر المجموعة ماديا واجتماعيا وضمان مستقبلها.
لقد فقد الأشراف ونقباؤهم الكثير من المكانة التي كانوا يحتلونها لدى أوساط الحكم قبل دخول الفرنسيين، فتزايدت طلبات المعونة الصادرة عنهم وظهر التذمر من سوء حالهم خاصة بعد إضعاف هياكل الوقف التي كان الأشراف يحظون بجزء من مداخيلها. غير أن هذا التبرم المتصاعد لم يكن ينعكس في انخراط ما في معترك المطالبة والاحتجاج السياسيين، وهو فيما يبدو سلوك قديم لدى هذه الفئة التي لم تصرح بعدائها للاستعمار الفرنسي منذ انتصابه بالبلاد وإلى حين خروجه، بل إنها في بعض الحالات قدمت عونا سياسيا ودعائيا لمشاريعه مثلما حصل مع المكي بن عزوز الذي أسس بدفع من الإقامة العامة "الحزب الوطني التونسي" في 1952.
هنا يمكن ملاحظة بعض الفروق الهامة مع فئة البلدية التي نجدها منذ 1885 تعبر عن موقف سياسي متبرم من نظام الحماية والتي سينخرط الكثير من أبنائها في الحراك السياسي الوطني. يعرف الأستاذ المكني فئة البلدية (مستأنسا في ذلك بالتصنيف الفيبري) بوصفها "إحدى جماعات المكانة التي كانت تعيش على ماضيها الجماعي المتوارث والتي تكتسب من صفات الانصهار والانتماء الاجتماعي المشترك ما هو رمزي ومعنوي أحيانا أكثر مما هو مادي وطبقي"(ص 185).
يغوص المؤرخ في هذا الباب في المحددات الرمزية لفئة البلدية متبعا منهجا طريفا يعتمد دراسة الإسامة ومخيال الانتساب العريق، ملاحظا في الوقت ذاته أن هذه الفئة لم تكن، على المدى البعيد، بمثل انغلاق فئة الأشراف حيث حصل تمازج وتلاقح مع شرائح أخرى اكتسبت بذلك الصفة البلدية مثل العائلات المملوكية والتركية وبعض العائلات القروية والقبلية. ويلاحظ المكني أن هذا الحراك النسبي يترجم عمق التحولات التي أحدثها الاستعمار في المجتمع التونسي من خلال فقدان الشرائح المخزنية والعسكرية المنهارة لمكانتها السابقة في نظام الحكم الحسيني وانضمامها عن طريق المصاهرة على فئة البلدية. غير أن المؤلف لا يبين لماذا تعمد عائلة بلدية عريقة إلى مصاهرة عائلة قام مجدها السابق على الوظيف المخزني مثلا وفقدت هذا المجد لاحقا؟ إن علاقات التصاهر كما يدرسها المكني في كتابه هي تجسيد لعلاقات تحالف جديدة تعيد أو تحاول إعادة رسم الموقع ضمن الخريطة الاجتماعية، من هنا فإن المصلحة تبدو ذات قيمة مركزية، وهو ما لا نجده في هذه الحالة وإن وجدناه في علاقات تصاهر أخرى نسجتها فئة البلدية. ولا يتوقف حراك هذه الفئة على هذا المستوى بل يمكن ملاحظته على المجال من خلال انتقال العائلات البلدية من الأحياء العريقة في "البلاد العربي" إلى الأحياء الجديدة وبعضها أوروبي مما سيعمق مسارا للتثاقف مع الجاليات الأوروبية ومنحى للانفتاح على الفئات الأخرى.
خصص المؤلف لدراسة "الرأسمال الرمزيّ" لهذه الفئة حيزا هاما من بحثه، فغاص في أخلاقهم وأذواقهم ونظرتهم للآخرين وتألمهم من تلاشي ماض كانوا يلعبون فيه الدور الأول باستمرار، كما تتبع أملاكهم ومسار التراجع الذي صبغ تطور مكانتهم المادية. غير أن ذلك لم يعق محاولتهم التأقلم مع الظروف الجديدة فقد غزا الكثير من أبناء البلدية الفضاءات الجديدة وتمكنوا بما اكتسبوه من ثقافة عصرية من ولوج عالم الفئات الحديثة إن على مستوى الحراك الاقتصادي أو على صعيد العمل السياسي والثقافي. لذلك فإضافة إلى دراسة الهياكل العريقة التي كانت تؤطر نشاطات البلدية العامة، أولى المؤلف عناية بتتبع دورهم في الهياكل والهيئات المستحدثة مثل المجلس الأكبر والندوة الاستشارية ثم المجلس الكبير، كما انخرطت نخبة البلدية في نشاط احتجاجي متبرم بالوضع الاستعماري عبر عن نفسه بداية مع "قيامة البلدية" في 1885. وشكلت أحداث الجلاز هي الأخرى، رغم عفويتها وسيطرة الفئات الشعبية على مجرى الأحداث فيها’، فرصة أخرى أمكن للباحث من خلالها ملاحظة دور ما للبلدية الفقراء ولبعض عناصر نخبتهم سواء في تهييج المشاعر أو في تهدئتها.
وهكذا فإن البلدية رغم تضرر مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية قد نجحوا إلى حد ما في ركوب موجة الحداثة الاستعمارية فاستطاع البعض منهم الاضطلاع بجانب هام من الخطط الوظيفية تحت الاستعمار الفرنسي وشكل البعض الآخر العمود الفقري لجانب معتبر من التحركات الاحتجاجية في حين انخرط عدد منهم في العمل الوطني المباشر وإن عجزت عن تزعمه "بحكم تركيبتها الاجتماعية والثقافية والنفسية فقد كانت تفتقد اللحمة والتواصل المادي والاجتماعي".
لقد استطاع الأستاذ عبد الواحد المكني التعامل مع موضوع دراسته بكثير من الحرفية مما جعله في النهاية يقدم قراءة لا تستند كثيرا على ما هو شائع من أفكار حول الفئتين الاجتماعيتين المدروستين، ولا تقدس القالب النظري بقدر ما تغوص في المصادر وتعتمد الأمثلة المجهرية، ولا تؤله المقاييس المادية للمكانة بقدر ما تعيد الاعتبار للمخيال والرمز. من هنا يمكن القول أن معرفتنا بالمجتمع التونسي وبتأثيرات النمط الكولونيالي على بعض أهم فئاته قد اغتنت، وأن منهج البحث التاريخي لا يمكن إلا أن يستفيد من انفتاحه على العلوم الإنسانية الأخرى، وهما هدفان سعى المكني لتحقيقهما من خلال هذا المؤلف ونجح في ذلك إلى حد كبير.
.