mercredi 8 octobre 2008

مذهبك لا يدل عليك

الحرب الشيعية السنية الجديدة

مذهبك لا يدل عليك



عدنان المنصر

أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سوسة- تونس



مقال صادر بصحيفة الموقف التونسية بتاريخ 10 أكتوبر 2008

تعيش الساحة الإسلامية هذه الأيام على وقع الصراع الشيعي السني الذي أخذ أبعادا جديدة بعد انتقاله الى العالم الافتراضي من خلال حرب القرصنة الاعلامية بين القراصنة الشيعة والسنة وذلك بصفة خاصة منذ صدور موقف الشيخ القرضاوي من "الغزو الشيعي للمجتمعات السنية" والردود الايرانية المتشنجة عليه.

كان من الأفضل لو بقي الصراع في دائرة العالم الإفتراضي، لكنا اقتصدنا الكثير من المآسي ولكان الوضع الاسلامي أحسن بكثير مما يبدو عليه الأمر اليوم. هل يتسنى لنا راهنا أن نحل المشاكل العقائدية التي تطورت عن الصراع الأصلي بين السنة والشيعة، ذلك الصراع الذي زاد عمقا تحت تأثير أربعة عشر قرنا من التنافس السياسي والتطرف المذهبي؟ لا نظن أن أحدا يعتقد حقيقة في إمكان ذلك. وفي المقابل ماهي حدود حضور الهم الديني والعقدي في الصراع الدائر اليوم؟ على عكس ما يبدو عليه الوضع تماما من تضخم هذا الهم وسيادته على ما سواه، فإنه يبدو بميزان العقل في ضمور متواصل لفائدة اعتبارات سياسية بحتة وجدت أن أقصر طريق للنجاح في صراعها الراهن أن تلبس لبوس المذهبي والعقدي.
من المفيد أن نشير هنا إلى أن موقف الشيخ القرضاوي الذي جر كل هذه العاصفة قد صدر في ظرف يتميز بعنصرين أساسيين:
- تصاعد في الطموحات الإيرانية بمنطقة الخليج استفادة من تغير الوضع بالعراق ومن انتصارات "حزب الله" بلبنان وفي المقابل تخوف رسمي عربي بذات المنطقة من تعرض استقرار الدول العربية المقابلة لايران لهزات عنيفة نتيجة أية مواجهة بالخليج.
- تقارب واضح، كنتيجة لهذه التخوفات، بين السنية الرسمية والسنية المتشددة التي يبدو أنها تركت جانبا كلما يفرقها للتفرغ لمقارعة "المد الشيعي". هذا التقارب وذلك "الخطر" أنتجا، حتما، حرجا في أوساط علماء الدين السنة الذين وجدوا أن لا أحد من الأطراف مستعد لتقبل دعواتهم للتقارب بين المذاهب وأن وقت ذلك الخطاب قد فات، وربما قد ذهب إلى غير رجعة، من هنا فقد أعادوا تقييم مواقفهم بما يستجيب لأفقهم العقدي ولبعض الانتظارات السياسية الرسمية والشعبية. من المفيد هنا التذكير بمقتطف من ذلك التصريح يؤكد أن الموقف كان نتيجة لعملية مراجعة فكرية أخضع لها القرضاوي نفسه، حيث جاء على لسانه القول بأن " المجتمع السني ليست لديه حصانة ثقافية ضد الغزو الشيعي، فنحن العلماء لم نحصن السنة ضد الغزو المذهبي الشيعي لأننا دائماً نعـــمل بالقــول "أبعد عن الفتنة لنوحد المسلمين"وتركنا علماء السنة خاوين".
يبدو القرضاوي قلقا كأشد ما يكون القلق على مستقبل السنة السياسي في عالم "يغزوه" الشيعة، والرجل الذي كان طيلة العقدين الأخيرين يواجه سهام الوهابية المتشددة وضغط الحكومات "السنية"، كان إلى حد اليوم أبعد علماء الدين عن الجدل. لم يعد بالإمكان البقاء على الحياد في "الحرب" الدائرة. ومن جهتها فإن الأوساط الشيعية الرسمية والعلمائية التي كانت تصرح باحترامها للشيخ القرضاوي بدت شديدة التوتر في ردودها على تصريح الشيخ القرضاوي، وإن الناظر إلى بيان وكالة مهر الإيرانية الرسمية (13 سبتمبر 2008) ليهوله ما يمكن أن تصل إليه الشتيمة السياسية. هم أيضا خاب أملهم في القرضاوي وكانوا يظنونه أقرب علماء السنة إليهم، خاصة بعد تصريحات سابقة بمساندة "حزب الله" اللبناني وتأييد العمليات الاستشهادية في فلسطين ودعوة الدول الاسلامية للوقوف مع ايران ضد أي هجوم أمريكي-اسرائيلي عليها ومساندة حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية.
وبما أنه لا يمكن في صراع شديد التعقيد كالذي نعيشه اليوم أن نتلافى اختلاط الأبعاد، فقد استفاقت الكثير من النعرات وانفجر التعصب المذهبي واتخذ أحيانا شكل مذابح دموية سبقها تكفير متبادل. من هذا المنطلق تبدو الحرب الإعلامية وحرب قراصنة الأنترنت السنة والشيعة اليوم أهون أشكال هذا الصراع وأكثرها سلمية، غير أنها تبقى مع ذلك شديدة الخطر بحكم تغذيتها للتباعد بين أنصار المذهبين وتبريرها للكثير من التعديات وأعمال الثأر والإنتقام.
يوازي الصراع الإفتراضي اليوم، الذي تجسم في اختراق متبادل وتدمير لمئات المواقع الشيعية والسنية على الشبكة، صراع آخر أكثر دموية على الأرض. عندما ألقى القرضاوي بتصريحه كان يرى دون شك أبعد من السجال المذهبي. الأمر لا يتعلق بتاتا بسب الشيعة لصحابة النبي وعدم إقرارهم بكمال القرآن كما جاء في حديثه، بل بصراع سياسي ذي أبعاد استراتيجية عميقة على التوازنات القائمة في العالم الإسلامي. اما محرر وكالة مهر الرسمية للأنباء الذي "لا ينطق عن الهوى" حتما فقد وجد المرور من الجانب المذهبي إلى الجانب السياسي والعرقي أمرا أكثر يسرا فانساق في التهوين من المساهمة التاريخية للعرب ولمصر بالذات في الصراع ضد الصهيونية نازعا عنهم وعنها أية أسبقية في هذا المجال. كان بإمكانه أن يرى أنه حين كانت القوات العربية المصرية تنازل العدوان الثلاثي وتخوض الحرب تلو الأخرى ضد إسرائيل كانت إيران الشاهنشاهية في الجانب الآخر تماما.
ليس من المفيد هنا أن نذكر بكل أبعاد الصراع الراهن ذي الجذور البعيدة بين الشيعة والسنة -والذي لا يزال وربما بقي متقدا إلى حين بين الطرفين في مواقع عديدة_ من أفغانستان إلى لبنان مرورا بالعراق واليمن ودول الخليج الأخرى، ولا أن نذكر بالإضطهاد القاسي الذي تتعرض له الأقلية المذهبية السنية في إيران والأقلية الشيعية في بعض دول الخليج الأخرى. ليس من المفيد أيضا أن نذكر بالمذابح المتبادلة في العراق وباكستان بين أتباع المذهبين ولا بدور الأجهزة السرية الأمريكية والإسرائيلية وأحيانا العربية والإيرانية في إذكاء نار ذلك الصراع. غير أنه بإمكاننا أن نطرح من الأسئلة ما يوضح الطبيعة الحقيقية للصراع: هل كان الوضع سيتغيرا لو أن إيران كانت وهابية وبقية دول الخليج شيعية إمامية؟ هل كان الوضع، في عمقه التاريخي، سيختلف لو أن معاوية ويزيد كانا من أنصار آل البيت وبقية رموز الشيعة التاريخيين سنة معارضين من قتلة للحسين؟ هل كان الوضع سيختلف لو أن "تيار المستقبل" هو الذي حقق الإنتصار على إسرائيل وأن "حزب الله" كان في الجانب الآخر؟ كنا سنشهد الصراع نفسه، بذات الأدوات، وذات القسوة، وذات الدموية.
يبدو الصراع سياسيا بالدرجة الأولى، في حين أن الحدة المذهبية لا تبدو سوى أحد وجوهه الأكثر تعقيدا. في صراع من هذا النوع تستفيق كل أشكال التعصب العرقي والقومي، تلقى التهم على الطرف المقابل بعد جهد تكفيري حثيث يسبق عادة المرور إلى المرحلة الدموية. يحترق الجميع في أتون حرب عبثية وعداوة مذهبية وهمية ليس في واقع الأمر سوى غطاء لما هو الشيء الحقيقي الوحيد: الصراع الإستراتيجي والقومي. توقفت إيران منذ ردح من الزمن عن لعب دور المحرض على "ثورة المستضعفين" وغدت قوة صاعدة ذات طموحات إمبراطورية. لا أحد يصدق اليوم أن البرنامج النووي الإيراني سلمي بالكامل. وفي المقابل أصبحت مواقف البلدان العربية (وهي مصادفة سنية في الغالب) مهووسة بخطر"التمدد الإيراني" ومستعدة لكل الأدوار في سبيل درئه وحفظ العرش والمذهب. من جهة أخرى تحقق الطريقة الإيرانية النجاح تلو الآخر وتبدو الرؤية الإستراتيجية شديدة الوضوح، في حين يظهر العالم العربي مشتتا ممزقا غير قادر على رؤية سبيله بوضوح. من المتوقع أن دولا اعتقدت العراق عدوها الأول فساهمت في تحطيمه ثم أقرت بأنها أخطأت التقييم، ستجد نفسها مخطئة من جديد باعتبارها إيران الخطر الأساسي على وجودها وبنائها تحالفات على هذا الأساس.
يضيع وقت ثمين في خضم صراع وهمي من المفترض أن يحله مبدأ بسيط هو احترام الرأي المقابل وعدم تغطية المصالح الضيقة بما يخرج التنافس السياسي من فضائه الطبيعي. تستنجد الأطراف المتقابلة بكل ما يمكن أن يزيد في حظوظ انتصارها، وتلعب في الأثناء بكل النيران الممكنة. يستغرق الكثير من شبابنا في هذا الصراع ويحاولون إخضاع الواقع لقراءات منحازة لتاريخنا، يعتنق الكثير منهم نظرية "الفرقة الناجية" فيصبح المرور كأسهل ما يكون نحو تمظهرات أخرى للصراع هم في الحقيقة وقودها. تهون الحياة البشرية في خضم ذلك فيصبح القتل والقتل المصاد خبزنا اليومي. كيف يمكن لمسلم أن يبرر تفجيرا انتحاريا في مسجد أو سوق؟ وأن يقسم المساجد إلى شيعية وسنية؟ وأن يحدد من يستحق الحياة ومن يستحق الموت؟ لا يمكن أن تكون مسلما عندما تعوزك الإنسانية. ولا يمكن أن تكون شيعيا أو سنيا إذا لم تكن مسلما. ولا يمكن أن تكون إنسانا عندما لا تغضب للظلم ولا تتعاطف مع عذابات بقية البشر.
أصبحت السنية والشيعية المذهبيتان بوتقتين لهويتين منفصلتين ومتصارعتين في عالم افتراضي وهمي، أما الواقع فيسبح في اتجاه آخر. لا تقدم الهويتان أية إجابات عن تحديات حياتنا الراهنة ولا يمكن التمييز بينها بتاتا من حيث قدرتها على الاستجابة لانتظارات شعوب يطحنها الجهل والفقر والاستبداد. هل بإمكان أي منا أن يحدد مذهب شخص أو مجموعة ما من خلال موقفها من الأزمة العالمية المالية الراهنة؟ أو أن يتوقع سنية أو شيعية حكومة معينة من خلال موقفها من الصراع ضد الصهيونية والعدوان الأمريكي؟ إن شيئا يبقى مهما اختلطت الأمور شديد الوضوح: لا تتساءل أي من الدول المعنية عن مذهبها عندما تنضم لحلف ما ضد "خطر" ما. لم تسائل إيران شيعيتها عندما عندما صادقت على "إيران غيت أو عندما حطمت العراق وأفغانستان أو عندما شرعت في وضع أسس برنامجها النووي. وفي المقابل لم تسائل دول عديدة أخرى سنيتها عندما ساندت حرب السنوات الثماني الظالمة التي شنها العراق على إيران. في كثير من الأحيان، وبالحماس نفسه، كان شيعة يقاتلون شيعة وسنة يقاتلون سنة، ولم يغير ذلك من الوضع شيئا.
ينبغي على المرء أن يكون شديد الحمق لكي يعتقد أن بالإمكان حل الصراع المذهبي في الأمد المنظور، ولكن ينبغي عليه أيضا أن يكون أكثر حمقا ليحدد كل مواقفه في الواقع السياسي والإستراتيجي الراهن على أساس انتمائه المذهبي. يستمر السنة عوضا عن ذلك في الدفاع عن معاوية، ويستغرق الشيعة في سب صحابة النبي وتأليه علي والحسين، ويفلت الأمر من الجميع. ولكن أن يأخذ الأمر كل هذه الحدة يبدو طبيعيا في وسط لم يتربى على احترام المخالف من الآراء لذلك فإن المسالة تحتاج إلى مجهود تربوي عميق وبعيد المدى. في خضم هذا المجهود التربوي ينبغي التأكيد أن الأمر سياسي بالدرجة الأولى وأنه لا داعي لاستنفار كل التاريخ والجغرافيا من أجل صراعات قد لا تمثل في غالب الأحيان سوى مصالح ضيقة. كما ينبغي، وهذا ليس بالأقل أهمية، الإقتناع بأن ترسيخ أسس الفكر الديمقراطي القائم على قبول أفكار الآخر مهما كانت، وسيادة القانون، والدولة العادلة والمجتمع المتضامن والحكم المتداول هو الحصن الحقيقي الوحيد أمام كل أخطار التفكك التي تنتابنا وتهددنا في عقر وعينا والتي لا تستنكف عن إيقاظ التعصب المذهبي المقيت والقاتل.