lundi 5 novembre 2007

وشروه بثمن بخس...


أطفال للبيع


وشروه بثمن بخس...

(عدنان المنصر)

مقال صادر بالعدد 426 من جريدة الموقف التونسية بتاريخ 9 نوفمبر 2007 وبجريدة الحياة اللندنية بتاريخ 26 جانفي 2008

أثارت قضية محاولة ترحيل أكثر من مائة طفل تشادي إلى فرنسا بدعوى أنهم من أيتام الصراع في دارفور موجة كبيرة من الاستياء في أوساط المنظمات الإنسانية الدولية وكذلك لدى كل من لم يتوقع أن تعمد منظمة تنشط في المجال الإنساني إلى محاكاة أساليب عمل منظمات الجريمة المختصة في اختطاف البشر والمتاجرة بهم.


لقد فتحت هذه القضية أبواب الجدل حول أساليب عمل المنظمات الإنسانية في إفريقيا على مصراعيها مجددا وبدا أن العمل الإنساني سيكون أكبر المتضررين. قد لا يكون الدفاع عن العمل الإنساني في هذه الظروف وفي المطلق أمرا حكيما، فالعمل الإنساني يخضع أيضا لقوانين الطبيعة والسياسة. وقد لا يكون الناشطون في هذا المجال ملائكة نسيتهم الآلهة على الأرض، غير أن ذلك ليس داعيا لإلقاء جميع الأطفال مع ماء الغسيل. ففي تشاد تنشط حوالي 80 منظمة إنسانية يقوم عدد كبير منها بجهد كبير من أجل مساعدة الشعب التشادي، والأمر ليس مقتصرا حتما على تشاد. هذا هو نوع الجدل الذي أراد إدريس ديبي أن يؤسس إليه عندما قام بإنجازه العظيم كاشفا تلك الجريمة البشعة في حق الطفولة التشادية المعذبة. كانت المسرحية ناجحة في نظر من لا يعرفون الوضع في تشاد: رئيس في فورة غضبه يهدد الجميع بأقسى التتبعات "مهما كانت جنسياتهم"، يربت على ظهور الضحايا ويغمرهم بحنان لم يخطر ببالنا أنه يملك منه شيئا. رئيس هصور يرتعد الجميع خوفا من احترامه للمؤسسات "التي يجب أن تقوم بدورها"، يضبط بالجرم المشهود بعض البيض الذين كادوا أن يحرموا وطنه من رجال الغد. المشهد مربك فعلا. فمعه تعود إلى الذاكرة أكثر الصور إيلاما: تجار الرقيق يشحنون بضاعة بشرية إلى بلاد بعيدة ليستغلوهم بعد أن ضمنوا ثمنا مجزيا. ولكن هيهات. فالعبيد تحرروا، وأصبح لهم الآن أب وزعيم يرفع لواءهم، ويضعهم تحت جناحه ويقف متحديا الجميع، بمن فيهم السادة البيض الذين اعتقدوا أن بإمكانهم إذلال شعبه الأبي.

المسرحية ناجحة فعلا، وريعها سيعود دون أدنى شك لمنتجها. وأول الغيث سيكون حتما تقييد نشاط الجمعيات العاملة في المجال الإنساني. قد يكون ذلك نتيجة طبيعية لفضيحة الترحيل، ولكن لنمعن النظر قليلا. فتشاد التي تحرقها الحرب الأهلية والديكتاتورية منذ استقلالها تمثل عقدة أساسية من عقد الصراع في وسط إفريقيا، ذلك الصراع المتصل في آن واحد بالحرب في دارفور وبالحرب على الإرهاب. ونتيجة لذلك فقد انخرطت حكومة إدريس ديبي في مسار يهدف إلى تأجيج الصراع في دارفور بمساندة وتسليح العشائر المنتفضة ضد الخرطوم، فساعدت على تجنيد اللاجئين في المخيمات المقامة على أراضيها في الحركات المسلحة الدارفورية. وليس للمسألة علاقة بحق الشعوب في تقرير المصير، فإدريس ديبي انخرط بذلك في صراع عرقي يتجاوز السودان، حيث أنه يواجه هو الآخر مجموعات مقاتلة تدعمها الخرطوم وتتخذ من شرقي البلاد معقلا لها. وتختلط في هذا الصراع عوامل عديدة، عرقية وقبلية ودينية وإستراتيجية ونفطية. وقد أدت الأوضاع في دارفور وطريقة ديبي في التعامل معها في استيطان عشرات المنظمات الإنسانية الدولية للمنطقة حيث لم تعد تراقب ما يفعله الجنجويد فقط بل أضحت شاهدا مزعجا عما ترتكبه القوات النظامية التشادية من عمليات ضد سكان المنطقة الشرقية من البلاد، حيث تقوم مثل القوات المتمردة عليها تماما، بتجنيد الأطفال وإرسالهم إلى الجبهات للموت. لذلك فإن ديبي الذي وافق مكرها على قدوم قوات أوروبية في ديسمبر 2007 إلى شرق تشاد سيكون في موقع شديد الحرج عندما تصبح الانتهاكات التي تقوم بها قواته ضد المدنيين في شرق البلاد تحت طائلة المحاسبة المباشرة. هل استبق ديبي ذلك بمسرحيته؟ الفكرة واعدة بالنسبة إليه، فهي تمكنه في الوقت نفسه من الظهور بمظهر المدافع عن الطفولة البريئة التي يتهم بإرسالها وقودا لحرب طاحنة، ومظهر المدافع أيضا عن شرق البلاد الذي يمقته ويمقت حكمه، كما أنه يقيد عمل المنظمات الإنسانية التي كانت باستمرار تفضح أساليبه ضد معارضيه، وتضع القوات الأوروبية في موقع شديد الحرج حتى قبل حلولها بالبلاد. أما فرنسا، فستدفع فيما يبدو الثمن الأكبر. سينقلب اتجاه البخار فيما يبدو، ويصبح المضغوط عليه ضاغطا. لن يكون بإمكان برنارد كوشنير بعد اليوم إعطاء دروس لأحد حول حقوق الإنسان، وستسقط ادعاءاته بحق التدخل الإنساني في مواطن النزاع ولو كرهت الحكومات. لن يكون بإمكان الفرنسيين، مثلما فعل شيراك أخيرا، التهديد بسحب القوات الفرنسية التي تحمي نظام ديبي بمناسبة أو بغير مناسبة. وسيطير إليه المكوك ساركوزي مثلما طار سابقا إلى طرابلس في قضية أطفال الإيدز الليبيين، فحل في عشر دقائق مشكلة استعصى حلها سنين عددا.

لنعد إلى أطفال تشاد. لم يكونوا أيتاما فيما يبدو، بل أبناء عائلات فجعت بفقدهم وبحثت عنهم دون شك وربما توقفت في لحظة ما عن البحث خوفا من أن يكون اختفاء أبنائها "ضرورة وطنية". هل بحثت عنهم حكومة ديبي؟ ماذا فعلت من أجل أقرانهم منذ تسلم الجنرال ديبي الحكم بعد انقلاب ديسمبر 1990؟ ماذا فعلت من أجل آبائهم وأمهاتهم الذين تطحنهم الأمراض والمجاعات والحروب؟ إدريس ديبي في الحكم منذ حوالي العقدين، ولا يبدو أنه يعتزم الرحيل قريبا. فقد نسج علاقات مصلحة قوية مع الشركات الأمريكية المستثمرة في بترول تشاد وانخرط إلى جانب البنتاغون في الحرب على الإرهاب مغازلا في الوقت نفسه طرابلس والجزائر. ما هو دور هذه المعطيات في تمسك القوى الكبرى بحكم إدريس ديبي وغضها الطرف عن انتهاكاته لحقوق مواطنيه وقمعه الصحفيين وتزييفه للانتخابات (1996 و2001) واستغلال الحرب الأهلية لتصفية معارضي حكمه؟ إنه يشعر دون شك أنه يقوم بدور مهم وأنه لا يمكن التخلي عنه.
لننظر الآن للأمر من زاوية أخرى. لو قدر لهؤلاء الأطفال أن يعيشوا بالرغم عن سوء التغذية والأوبئة والحروب وبلغوا سن الشباب، هل سيشكرون ديبي أم سيلومونه؟ أغلب الظن أنهم لن يكونوا سعداء هم وعائلاتهم. فقد حرمهم من حيث لا يدري من فرصة الانتقال إلى "الفردوس الأوروبي" بعد أن كادوا يصلون إليه لبداية حياة جديدة. سيتوجب عليهم أو على بعضهم آنذاك أن يدفعوا لوسطاء الهجرة السرية من أجل قطع نفس المسافة، وربما انتشلت جثث بعضهم في الأطلسي أو في المتوسط. سيكرهون إدريس ديبي أكثر وأكثر وسيرون أنهم كانوا عملة مقايضة سياسية تتجاوز أحلامهم الصغيرة وأنه باعهم بثمن بخس من أجل مصلحة نظامه. لينتظر أهلهم الآن وقد وقع ما وقع أن تعمل المؤسسات. سيهتم القضاء بالأمر كما كان يفعل دائما. لقد أقسم ديبي أنه لن يتدخل في عملهم. ومن يعرف ديبي يعلم أنه "الصادق الأمين" الحريص على مؤسسات دولة المؤسسات. ألم يخطب في التشاديين عند دخول قواته إلى نجامينا في ديسمبر 1990 أنه "لم يأتهم لا بالذهب ولا بالفضة وإنما بالحرية"؟
في الوقت نفسه بدأ الوسطاء، الذين فقدوا آخر ذرة حياء، يعرضون خدماتهم مستندين إلى "نجاحاتهم" السابقة، عندما شغلوا شعوبهم بقضية مشابهة للوصول إلى أهداف مشابهة. أما الأوروبيون، فلا يمكن أن نتوقع منهم أن يحترموا ذلك القضاء، وسيدخلون اللعبة ويمزجون الضغط بالترغيب مثلما يحسنون فعل ذلك دائما. أما الأطفال، يتامى دولهم وحكوماتهم، فسيعانون ويموتون طيلة حياتهم، صغارا وشبانا وكهولا، جوعا أو غرقا أو حربا أو بالإيدز،وما بدلوا تبديلا..