dimanche 12 septembre 2010

هؤلاء المثقفون الذين يجرؤون... قليلا



هؤلاء المثقفون الذين يجرؤون... قليلا

قراءة في كتاب ريجيس دوبريه الأخير "رسالة إلى صديق اسرائيلي"

عدنان المنصر


هل بدأ اتجاه البخار في الانقلاب داخل السّاحة الثقافية الفرنسية تجاه الصراع العربيّ الإسرائيليّ؟ ذلك ما قد توحي به نظرة سريعة إلى الإنتاج الثقافيّ الفرنسيّ بمختلف أشكاله في المدّة الأخيرة حيث تصاعدت أصوات تثير الشكّ في الأسس التي قامت عليها الدعاية الصهيونية في الأوساط الأوروبية ، ورغم أنّ معظم هؤلاء لا يشيرون في الغالب من قريب ولا من بعيد إلى روجيه قارودي، فإنّه يبدو أنّ كتابه الأخير "الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية" والزوبعة التي قامت حوله والحكم القضائيّ الصادر ضدّه بتهمة "المراجعة" أو نفي المحرقة، قد كان له بعض الفضل في إعادة موضوع الصهيونية إلى دائرة الجدل في الساحة الثقافية الفرنسية بصفة خاصة.

من المفيد أن نشير في هذا السياق إلى أنّ المثقّفين الفرنسيّين الذين يجرؤون على التحدّث في الموضوع بعين شديدة النقد للإيديولوجيا الصهيونية وللسياسة الإسرائيلية، ما عادوا يأتون من دوائر اليمين الفرنسي وحده مثلما كان الأمر في الماضي، فتثار الشكوك في سلامة نواياهم كلّما تحدّثوا عن إسرائيل، وتكون تهمة معاداة السامية السيف المُصلتَ عليهم باستمرار، وهي تهمة ليسوا بريئين منها تماما، ولكنها قاصرة عن توضيح تعقيدات الموقف من الصهيونية وارتباطاتها باليهودية وبالسياسة الإسرائيلية الحالية تجاه الفلسطينيين والمحيط العربي.
في هذا السياق يأتي كتاب ريجيس دوبريه Regis Debray الأخير "رسالة إلى صديق اسرائيلي، مع رد لأيلي برنافي" الصادر عن دار فلاماريون الفرنسية للنشر في شهر ماي 2010 والواقع في 160 صفحة خصص الكاتب أكثر من 120 منها لنقد السياسة الإسرائيلية مع إضاءات على تطوّر الإيديولوجيا الصهيونية وسياسة التمييز التي يستفيد منها اليهود في فرنسا على حساب الأقليات الدينية والقومية الأخرى، في حين استغرق ردّ إيلي برنافي، المؤرّخ والديبلوماسي الإسرائيلي، باقي الكتاب.

يأتي ريجيس دوبريه من فضاء ثقافيّ وفكريّ معيّن يصعب تصنيفه على أنه من اليمين أو من اليسار، فالرجل يموقع نفسه في "الديغولية اليسارية" أو "أقصى اليسار الديغولي" وهو تصنيف فرنسيّ داخليّ ولكنّه يضيء جانبا من التزام الرجل الفكريّ. من المعروف أنّ ريجيس دوبريه كان مساندا نشيطا لحركات التحرّر المناهضة للامبريالية الأمريكية وأنّه قضى فترة في السجن في بوليفيا (1967-1971) بسبب دوره في دعم الثوّار الشيوعيين، كما أنّ صداقاته الشخصية مع رموز الحركات الثورية مثل تشي غيفارا من الأمور المعلومة التي تؤكّد التزام الرجل الفكريّ والسياسي. على المستوى الأكاديميّ نشر ريجيس دوبريه عشرات الكتب في مواضيع فكرية متنوّعة يجمع بينها خصوصا اهتمامه بالشأن الديني، كما أدار مشاريع ومؤسسات بحث أكاديميّ عديدة وتسلّم مناصب إدارية وسياسية استشارية ذات قيمة في الحكومة الفرنسية (1981-1985).


إن كتاب دوبريه الأخير تواصل لالتزامه السياسي والفكري والأكاديمي على حدّ سواء، فالمؤلف الذي يعبّر بطريقة شديدة الوضوح عن اشمئزازه من السياسة الإسرائيلية، لا يهمل قراءتها على ضوء تطوّر الفكر الصهيوني والثقافة الدينية اليهودية، وكذلك على ضوء علم اجتماع السياسة. لا يمكن اتّهام ريجيس دوبريه بمعاداة السامية، حتى من قبل أعتى المدافعين عن اسرائيل، لذلك فإنّ الرجل يبدي حرية كبيرة في التنقّل بين نقد السياسة الإسرائيلية وإبداء الرأي في الإستهتار الذي تمارسه الدعاية الإسرائيلية تجاه الرأي العامّ الأوروبي، مع انتقاد لا شبهة فيه للّوبي الصهيوني داخل الدوائر السياسة الفرنسيّة، إضافة إلى البحث، في قالب قراءة بعيدة المدى، عن الأسس التي تقوم عليها السياسة الإسرائيلية الحالية، وهي أسس لاحظ انبثاقها من تطوّر الإيديولوجيا الصهيونية ذاتها، وضعف العلمانيين داخلها وتراجعهم لفائدة المتديّنيين الذين يقودهم الحاخامات.

يوجّه ريجيس دوبريه خطابه شكلا إلى إيلي برنافي Elie Barnavi المؤرخ اإسرائيلي ذي الأصل الروماني الذي يدير مركز الدراسات الدولية في جامعة تل أبيب وصاحب عديد الدراسات حول التاريخ اليهودي وتاريخ الأديان أيضا، والسفير الإسرائيلي في باريس طيلة الفترة من 2000 إلى 2002، إضافة إلى نشاطه ضمن حركة "السلام الآن" الإسرائيلية. من هذا المنطلق فإنّ ريجيس دوبريه إنّما يناقش أكاديميا مثله مختصا في علم الإجتماع الديني وسياسيا من نفس الأفق الاشتراكي العلماني، ما يفترض أنّ الرجلين متّفقان على كثير من المنطلقات الإيديولوجية في فهم وضعية اسرائيل في علاقتها بالفلسطينيين وكذلك في النظر إلى تطوّر اسرائيل من الصهيونية العلمانية إلى الصهيونية الدينية، غير أنّ نص دوبريه وردود برنافي يبرز حدود هذا الاتفاق في أحيان كثيرة.


يبدأ دوبريه رسالته بالدعوة إلى الشجاعة في التطرّق للشان الإسرائيلي واستنكار لادّعاءات الإسرائيلية بخبث النوايا الكامنة وراء أيّ اهتمام يبديه كاتب أوروبي بقضايا الصهيونية وسياسة الدولة العبرية، ويجد في الدعاية الإعلامية الإسرائيلية نفسها ما يبرّر التطرّق لكلّ هذه المسائل بعين ناقدة : ألم تدّعِ "تسيبي ليفني" أنّ الهجوم على غزة وكلّ عملية الرصاص المصبوب إنّما هي "جزء من الصراع بين قيم الحداثة والإنسانية الغربية وبين الهمجية والكراهية"؟ ذلك مبرّر كاف إذا، فليس من السهل إقحام الأوروبيين في هذا الموضوع عندما تريد الدعاية الإسرائيلية ثمّ اخراجهم منه بكلّ البساطة الممكنة عندما يخدم ذلك رغبة في الاستفراد بمنطقة كاملة وبشعب أعزل. في السياق ذاته يستنكر دوبريه الصورة التي تنشرها الدعاية الصهيونية عن انتشار اللاسامية في فرنسا، فقط لمجرّد أنّه توجد بها جالية مسلمة كبيرة نسبيا. في نظر دوبيريه، ليس من جالية مدلّلة في فرنسا بقدر الجالية اليهودية، وليس من جالية مستهدفة بالقوانين والإجراءات التمييزية أكثر من الجالية المسلمة. يكفي للتأكّد من ذلك مراقبة المناسبات الدينية للجاليتين وملاحظة من يحضر من الرسميين الفرنسيين فيها. حتما إنّ تصوير الأمر بطريقة عكسية للواقع لا يمكن إلا أن يخفي رغبة في الضغط المستمرّ على الساحة الفكرية والسياسية الفرنسية، وهو أمر لا يمكن تصنيفه إلا في خانة الدعاية الوقائية التي لا تستفيد منها إلا السياسة الإسرائيلية، تلك السياسة غير الوفيّة حتى لمنطلقات الصهيونية. من زاوية تاريخية صرفة، استغلّت الصهيونية انتشار اللاسامية في أوروبا كقوّة دافعة لتكتيل اليهود حول الفكرة الصهيونية، كمحرّك للتاريخ اليهودي، وهو أمر أطنب في توضيحه تيودور هرتزل وحاييم وايزمان، الأبوان المؤسّسان للصهيونية ومشروع الدولة الإسرائيلية. ما تستخدم الصهيونية من أجله اللاسامية اليوم أمر مختلف تماما، فيه الكثير من الانتهازية السياسية حتى تجاه الدول الصديقة تقليديا لاسرائيل، وفرنسا إحداها. يعدّد دوبريه بعض أوجه الإهانات التي تتعرّض إليها الديبلوماسية الفرنسية في الخارج من قبل السياسة الإسرائيلية، في المناسبات الدولية وعلى معابر القطاع والضفة، ويقرأ الأمر ليس فقط في العلاقة بموقف ديغول من حرب 1967 ولكن أيضا بالاصطفاف الإسرائيلي، في الصراع الإستراتيجي الدولي بين أوروبا والولايات المتحدة، إلى جانب هذه الأخيرة. في الأثناء لا يدّخر المؤلف اللوم للديبلوماسية الفرنسية لعدم ردّها تجاه تلك الإهانات : "يجب أن تكون تركيا حتى تجرؤ وتطلب اعتذارا ثم تحصل عليه، أما الفرنسي فإنه يناول خدّه الأيسر"!


تمثل مسألة خيانة اسرائيل للصهيونية الخيط الرئيسيّ لرسالة ريجيس دوبريه، وهو خيط يفترض أنّ إيلي برنافي بوصفه "اسرائيليا منفتحا"، ناشطا من دعاة "السلام"، يتبنّاه. تقوم الفكرة الرئيسية على اعتبار دوبريه أنّ الصهيونية بوصفها مشروعا لتحقيق الإنقاذ القومي لليهود بدأت في الترنّح منذ تأسيس دولة اسرائيل وبخاصة منذ تحوّلها إلى غطرسة لا محدودة تجاه سكان فلسطين العرب والمسيحيين. هذا أمر قابل كثيرا للنقاش. ذلك أنّ الصهيونية لم تكن فقط مثلا قوميا يهوديا ونظرية سياسية لجمع الشتات اليهودي المعذّب في أوروبا جراء الإجراءات اللاسامية. في جوهرها تمثّل الصهيونية نظرية عنصرية تموقع نفسها بالتمايز عن بقية القوميات وتعيش على خليط غريب من المكوّنات العرقية والدينية والقومية المنصهرة في بوتقة واحدة. كانت هناك في ظروف الشتات حاجة لهذا الخلط من أجل أن تتحوّل اليهودية إلى الصهيونية، وفي خضمّ ذلك تمّ إضعاف التيّارات اليهودية الإندماجية كما شنّت حرب شعواء على الأرثوذكسية اليهودية المناهضة للصهيونية التي لا تزال بعض مظاهرها تعيش اليوم في شكل حركات متدينين عاجزة عن نشر تعاليمها في أوساط اليهود أنفسهم. من هذا المنطلق فإنه عندما لا يستطيع دوبريه فهم تحوّل مضطهدي ومعتقلي المحتشدات النازية إلى مضطهدين لغيرهم من العرب في فلسطين اليوم، فإنه يقرّ بطريقة ضمنية أنّ في الأمر خيانة للصهيونية، وهي فكرة خلافية جدا.

لا يقوى دوبريه على التحرّر من تراثه الاشتراكي أيضا عندما يرى في الكيبوتز kibboutz التأسيسي رمزا لمشروع مجتمع عادل سرعان ما تهاوى تحت تأثير جملة من العوامل الخاصة بتطوّر المجتمع الصهيوني. ما يغفل عنه دوبريه في هذا السياق أنه في مثال الكيبوتز بالذات، وبغضّ النظر عن المسار الذي أدّى لإفرازه، فإنّ تأسيسه قد تمّ على حساب الأراضي العربية (التي لم تشتر كلها) وكذلك على حساب اليد العاملة العربية التي أطردت ومعها آلاف أسرها تحت نيران حراس المستعمرات والكيبوتزات، أولئك أنفسهم الذين سيكونون لاحقا تنظيمات شتيرن والهاغاناه المسؤولة عن المذابح في حقّ سكان القرى العربية. من الثابت أنّ الكيبوتز تأسّس للتحرّر من دورة الإقتصاد النقدي الرأسمالي والإنعتاق من النظرة الربحية التي حكمت الاستثمارات الصهيونية الأولى في فلسطين، والتي كان البارون دي روتشيلد أول من أطلقها على نطاق واسع. كان يفترض في الكيبوتز أن يجمع أعضاء عاملين في شكل تعاضدي يقوم على التبادل بالمقايضة، وفي غنى كامل عن منطق المردودية الرأسمالية التي عطّلت بناء المجتمع اليهودي المستقلّ بذاته اقتصاديا على أرض فلسطين. وفي الحقيقة فقد كان الإشتراكيون اليهود الصهيونيون القادمون من شرق أوروبا هم من أبدع هذا الحلّ في مواجهة مشاريع الاستثمار الرأسمالي المتعثّرة. من منطلق اشتراكيّ صرف شكّلت عملية تأسيس الكيبوتز الولادة الحقيقية للمجتمع الصهيوني في فلسطين، غير أنّه من جهة أخرى فإنّ ذلك التأسيس تزامن، كشرط لازم، مع عملية طرد واسعة لليد العاملة العربية تحت شعار "افتكاك العمل"، ذلك الشعار الذي جاء به بن غوريون، المهاجر الشابّ من بولندا الذي قاد عملية إرهاب حقيقيّ ضدّ مديري المستعمرات الأولى لدفعهم للتخلّي عن اليد العاملة العربية.

من جانب اشتراكي بحت أيضا ينبغي التأكيد على ثورية الأفكار التي قدم بها الاشتراكيون الصهيونيون المهاجرون إلى فلسطين في تحقيق مشروع الدولة القومية، ولكن بالاحتفاظ بالخلط بين كل ماهو عرقيّ ودينيّ وقوميّ. يظهر ذلك بالخصوص في قرار الاشتراكيين اليهود اعتماد مبدأ الصراع الطبقيّ داخل البوتقة القومية اليهودية ورفض المبدأ الذي يجعل من العمال الفلسطينيين حلفاء طبقيين في الصراع ضدّ رأس المال. من الضروري التأكيد على أنه في مرحلة ما من الصراع القومي يحصل افتراق بين الفكرة الطبقية والفكرة الوطنية، وهو أمر حصل في كل حركات التحرر في العالم، غير أن الفارق مع المثال المدروس هو أن الصهيونية لم تكن حركة تحررية في فلسطين وإنما حركة استعمارية على أرضية عنصرية.


ما يقلق ريجيس دوبريه هو تضاؤل الحضور العلماني في السياسة الإسرائيلية، وتغلّب المتدينين الذين يسوقون الصهيونية نحو مصير صداميّ محتوم لا تبشّر ملامح مستقبله بأيّ خير بالنسبة لإسرائيل. غير أنّ الأمر ليس بمثل هذه البساطة تاريخيا. فاليهود المتديّنون ليسوا حادثا طارئا على الصهيونية، وإنما شكّلوا باستمرار قوّة المشروع الصهيوني الدافعة. من زاوية نظر تاريخية بحتة ظلت الصهيونية العلمانية عاجزة عن التقدّم إلى حين التحاق المتديّنين بالركب، وقبول العلمانيين إعطاء مضمون توراتيّ للحركة التي كانت قد بدأت في الاكتمال. لم يكن مؤتمر بال لينعقد لولا ذلك الاتّفاق المبدئي والإستراتيجي بين العلمانيين والمتدينين. ولعلّه من المهمّ أن نشير إلى أنّ هؤلاء المتدينين الممثّلين خاصة في منظمة "عشّاق صهيون" قد جاؤوا في معظمهم من أوروبا الشرقية، وخصوصا من روسيا وبولونيا، حاملين معهم أيضا إرثا فكريا اشتراكيا واضحا.


كما يقلق ريجيس دوبريه صمّ الإسرائيليين آذانهم عن كلّ النقد الذي يوجّه لسياستهم تجاه الفلسطينيين والعرب حتى من قبل حلفائهم الطبيعيين، أوروبا والأمريكيين. ينتقد دوبريه الفكرة التي عبّر عنها إيلي برنافي في كتابه الأخير والتي يعتبر فيها الولايات المتحدة الطرف الوحيد القادر على فرض السلام على الجميع في المنطقة، ويقوم انتقاده لا على توضيح الفروقات بين فهم كلّ طرف للسلام المدعى، وإنما على أساس أن الولايات المتحدة، حتى تحت حكم أوباما، لا يمكن أن تكون طرفا محايدا في الصراع، وأنّ الطرف المحايد الحقيقيّ هو أوروبا. يعلم الإسرائيليون ذلك طبعا، وما ميلهم لتحكيم الأمريكيين إلا دليل على الثقة في عدم حيادهم. في الأثناء يضيع الجميع "فرصة السلام".

أما ردّ إيلي برنافي فقد اعتمد على تبنٍّ واضح للمنطلقات التي صيغت على أساسها رسالة دوبريه، وهي التخوّف من سيطرة المتديّنين وتراجع العلمانيين، وكذلك تآكل الايديولوجيا الصهيونية من الداخل في وقت تتضاعف فيه أخطار جسام على اسرائيل، ليس أقلّها شأنا خطر السلاح النووي الإيراني المحتمل، تلك الدعاية الفجّة التي لا يدّخر دوبريه نقده اللاذع لها. فيما عدا ذلك فإنّ إيلي برنافي يتلافى المسائل الخلافية ويفلت من طرح الإشكالات الرئيسية التي يضعها "تحدّي السلام مع الفلسطينيين" على طاولة التداول. يقدم برنافي نفسه "كصهيونيّ متعاطف مع الفلسطينيين"، وهي تسمية تؤكّد الخلط المتعمّد بين الانتماء القومي لكيان سياسي اسمه اسرائيل، ولايديولوجيا عنصرية تقوم على جملة من الضوابط الدينية والعرقية.


إن فضل كتاب مثل "رسالة إلى صديق اسرائيلي" لا يتمثّل في تبنّي صاحبه، الأكاديمي المعروف على الصعيد الدولي بفتوحاته العلمية في مجال الدراسات الدينية والمناضل من أجل حقّ الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها، لأفكار العدالة الإنسانية وإدانة الغطرسة الإسرائيلية المدججة بالدعاية والتحالفات، بل في اعتباره دليلا على الجرأة التي بدأت تدفع بعدد من المثقفين الغربيين والفرنسيين بالخصوص إلى الإصداع علنا بانتقادات كان يهمس بها همسا في آذان الأصدقاء الإسرائيليين. هي من هذه الزاوية تعبير صارخ عن الضيق من الممارسات العنصرية والدموية للسياسة الإسرائيلية خاصة أثناء الهجوم على غزة، وهي أيضا وخاصة تعبير عن الرغبة في التحرر من كلّ السيوف المسلطة على المثقفين الفرنسيين (من عنصرية و"لاسامية" و"انكار للمحرقة") كلما اقتربوا في كتاباتهم من موضوع اسرائيل والصهيونية، وتنسيب لفكرة تحرر السياسة الفرنسية من الضغوط اليهودية المساندة لاسرائيل وإدانة للدلال المبالغ فيه للجالية اليهودية في فرنسا. غير أن مطالع الكتاب، إذا ما أراد تلخيصه في جملة واحدة، برغم عبثية ذلك، فإنها ستكون الجملة التالية: "صديقي إيلي، كنت أتمنّى أن نراكم تتصرّفون بطريقة أقلّ ضجيجا ودموية". لا يمكن مطالبة مثقف غربي بتبنّي قراءة تناقض رؤيته الفلسفية والإيديولوجية تتداخل فيها عوامل عديدة وشديدة التعقيد، غير أن قارئ ريجيس دوبريه يفترض أن ينتظر أكثر، خاصة إذا ما شعر القارئ، في ثنايا الكتاب، بأنّ المؤلف رغم الحدّة التي اصطبغت بها بعض انتقاداته، إلا أنها تبقى بالأساس حدّة موجّهة لسياسات لا يرى دوبريه أنّها تمثل وفاء لقيم الصهيونية. المشكل هنا بالذات، فليس أوفى للصهيونية من سياسات إسرائيل اليوم !


نشر بموقع الأوان

5أوت 2010

http://www.alawan.org/%D9%87%D8%A4%D9%84%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81%D9%88%D9%86.html

"انتفاضة" الطالبي الثالثة




"انتفاضة" الطالبي الثالثة

قراءة في كتابه الجديد: "غزة: الهمجية التوراتية أو حول الإبادة المقدسة، والإنسانية القرآنية"[1]

عدنان المنصر، مؤرخ جامعي، تونس

عن إحدى المطابع التونسية صدر كتاب الطالبي الجديد ذي العنوان الطويل " غزة: الهمجية التوراتية أو حول الإبادة المقدسة، والإنسانية القرآنية" (Gaza (27-12-2008/18-1-2009): Barbarie biblique ou de l’extermination sacrée et humanisme coranique“). هذا هو الكتاب الحجاجي الثالث للدكتور الطالبي، المؤرخ التونسي المختص في الفترة الوسيطة بعد كتابه الأول "ليطمئن قلبي" والثاني « l’islam n’est pas voile, il est culte » وهي كتب أطرها صاحبها في باب "تجديد الفكر الإسلامي". أراد الطالبي من خلال هذه الثلاثية تحرير وصيته الفكرية، وإذا كان الكتاب الأول قد أحدث ضجة كبيرة واستياء واضحا في الأوساط التي هاجمها المؤلف ووصفها باٌلانسلاخسلامية"، فإن الثاني أحدث ضجة أقل، وهو أمر يمكن فهمه ليس بطبيعة الموضوعات التي تناولاها وإنما بطبيعة الجهات التي خصص الطالب كتابيه لمهاجمتها.

من الضروري الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب قد ألف في خضم العدوان الأخير على غزة، ذلك العدوان الذي استمر حوالي العشرين يوما والذي أسفر عن آلاف من القتلى في صفوف الفلسطينيين وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية في القطاع صاحبه استعمال أسلحة محرمة دوليا مثل قذائف اليورانيوم المنضد والفوسفور الأبيض. من هنا نفهم تركيز الطالبي على محاولة فهم العنف الصهيوني من خلال دراسة العهد القديم واستخلاص أن الهمجية الإسرائيلية نابعة من ثقافة مترسخة في التركيبة البشرية والثقافية اليهودية بمنطوق النصوص المقدسة لدى اليهود، ناقلا بذلك الجدل الذي ركزت فيه بعض الأوساط على الطبيعة العنيفة والعدوانية للمسلمين، تلك الطبيعة التي وقع تأصيلها بانتقاء بعض النصوص وإخراجها من إطارها بسوء نية واضحة، حسب الدكتور الطالبي. نشير أيضا إلى أن كتاب الطالبي الأخير قد طبع على نفقة المؤلف، وهو أمر مستغرب على أدنى تقدير. فالطالبي ليس نكرة في ميدان النشر، وأمثاله (وحتى من هم أدنى منه في الغالب)، يجدون دائما دور النشر في انتظار مؤلفاتهم. هل أصبح الطالبي مزعجا بما يبرر إعراض دور النشر عنه؟ هل هناك حصار غير معلن على مؤلفات الرجل؟ هل للأمر علاقة بمضمون كتاباته الأخيرة والحدة التي طبعت تناوله لقضايا شديدة الخلافية؟

هناك تساؤلات لا يمكن لقارئ هذا الكتاب أن لا يطرحها وهو يطالعه، وهي تقريبا نفس التساؤلات التي طرحها عند مطالعة "ليطمئن قلبي": مالذي يوصل أكاديميا مثل الدكتور الطالبي إلى انتاج خطاب بمثل هذه الحدة، ومالذي يجعل الرجل وقد عرف باتزان منهجه العلمي كأحد أبرز المؤرخين العرب يترك التناول الأكاديمي لمواضيعه ليخوض في مجالات كانت إلى حد قريب ميدان جدل إيديولوجي لا علمي ومسرح حوار للصم؟ يطرح الطالبي ثلاثيته كمحاولة في "تجديد الفكر الإسلامي"، وهو ما قد لا يوافقه عليه كثيرون، ولكن ليس ذلك موضوعنا الآن. إذا ما استقرأنا مشروع الطالبي الثلاثي بحثا عما يسميه بتجديد الفكر الإسلامي فإننا نجده يعتبر أن عملية التجديد تلك ينبغي أن تتم في اتجاهات ثلاثة:

- وضع حدود بين المجددين الحقيقيين أو المفترضين للفكر الإسلامي وأولئك الذين يعتبرهم الطالبي معادين لهذا الفكر لأنهم "معادون للإسلام"، وهم أولئك الذين يسميهم "بالإنسلاخسلاميين".

- وضع حدود بين الفهم الصحيح للإسلام وأولئك الذين يستقرؤنه فقط من منطلق اعتبارات سياسية سلفية حيث يعتبر الطالبي أن السلفية الإسلامية لا تقل خطرا على الإسلام وفكره من الصنف السابق.

- إعادة موقعة الإسلام بوصفه ديانة لفائدة الإنسان وتجربة روحية وتوقا إلى العدالة بين البشر، وذلك في مواجهة الهجمة التي يتعرض لها والتي تصفه بأنه دين عنف، وذلك في خضم "الحرب على الإرهاب"، وعكس هذه الاتهامات بنفض الغبار عن العهد القديم والتوراة والإنجيل والتركيز على أن هذه الكتب أسست للهمجية الصهيونية التي تظهر في فلسطين، وفضح "النفاق" الغربي تجاه هذه القضية.

لا يمكن لمن قرأ للدكتور الطالبي وعايش تحولات مسيرته في السنوات الأخيرة أن لا يلاحظ اتجاه الرجل البات نحو قطع جسور عديدة من خلال هذه الكتابات وغيرها مما صدر في الصحف والمجلات الأجنبية إلى الحد الذي يبدو معه أنه قد نفض يديه من كل "الأوهام" التي تعايش معها طيلة مسيرته الأكاديمية والعلمية، بل وحتى السياسية. هذا الأمر يبدو بوضوح أكبر في كتابه الأخير، إنه تعبير عن ضجر، عن خيبة أمل، عن يأس من إحداث أي تأثير لدى الرأي العام الغربي تجاه قضية فلسطين وكل القضايا الإسلامية الأخرى، وهو أمر دفع به لاستقراء الكتب المقدسة المؤسسة للفكر اليهودي-المسيحي لمحاولة اكتشاف جذور ذلك الموقف الأورو-أمريكي والصهيوني. أن يصل الدكتور الطالبي إلى هذه القناعة، وهو الذي كان من مؤسسي الحوار الإسلامي المسيحي الذي خصص له جانبا هاما من إنتاجه الفكري ونشاطه الميداني ومن مسيرته الأكاديمية، فهذا دليل على أن شيئا ما هاما قد حصل بداخله، فأثاره وجعله أخيرا يحسم أمره: إنها غزة ومحرقتها الأخيرة. يعطي الدكتور الطالبي منذ مقدمة كتابه فكرة عن درجة اليأس التي وصل إليها من رؤية النظرة الغربية للإسلام والمسلمين تتغير، ويعبر عن بعض ندم من المغالطة التي قد يكون وقع ضحيتها: "أما الحوار المعسول الذي انخرطت فيه جسدا وروحا، فقد اتضح أنه احتقار وغش" (ص 5)،" لقد أقنعني خطاب البابا بينيدكت السادس عشر في راتيسبون (سبتمبر 2006) أنه لم يعد هناك من حاجة للإلحاح...لقد عضضت طعم الحوار" (ص14). هكذا إذا، فقد كان المحاورون المسيحيون جزءا من لعبة أكبر، "رجال دين مبرمجين للحديث المعسول في شؤون التسامح والأخوة، مجرد أطباء تخدير يهيؤوننا للعملية الكبيرة والنهائية عن طريق حقننا بمخدر الحوار" (ص 135)!

لم يتغير شيء منذ وقت طويل، ولا فائدة من التعداد الممل للأمثلة بحسب المؤلف. يستحضر الدكتور الطالبي حرب الجزائر وأحداث القمع الإستعماري والإبادة التي تعرض لها مئات الآلاف من الجزائريين، يستذكر أحداث سطيف وقالمة في ماي 1945 التي عايشها كمجند شاب في الجزائر، ويرى أنه لم يتغير شيء بالفعل في تعامل الغرب مع المسلمين الذين جاؤوا في كل مرة لتمدينهم وإدخالهم الحضارة من بابها المضرج بالدماء، مثلما فعلوا قبلها بقبائل الهنود الأمريكيين. لا شيء تغير، هي خلاصة قاسية: "أعرف هذا الأمر جيدا. لقد ولدت أهليا indigène، ذلك الحيوان المميز لبلاد البربر...جاء الغرب اليهودي-المسيحي، مسلحا بسيف يسوع وبالعهد القديم لتمديننا, لكننا لم نكن معترفين بالجميل فأرهبنا أولئك الذين جاؤونا بالحضارة. كانت جبهة التحرير الوطني أبشع تنظيم ارهابي وقد عملت فرنسا، رأس حربة الغرب اليهودي-المسيحي في بلاد البربر، كل ما في وسعها لتطهير البلاد من الإرهاب، فقتلت مليون إرهابي في الجزائر الفرنسية ولم تأل جهدا في استعمال أية وسيلة تعذيب، وذلك من أجل الخير، ولتحقيق المحبة والرحمة التوراتية" (ص 8).

هنا لب المسألة في نظر المؤلف: طالما أن منبع الفكر الغربي تجاه الإسلام والعرب هو نفسه فإن تلك النظرة لا تتغير، ولا أمل في رؤيتها تتطور، وإذا ما بدا لنا أنها تتطور فإن ذلك يكون نابعا إما من سوء فهم من جانبنا أو من تقاسم أدوار لا يغطي الهدف النهائي. الفكر الغربي فكر ديني حتى في صميم اللائكية (ص 76)، تلك أهم خلاصة يمكن الخروج بها، كما يقول المؤلف، من خلال مطابقة التجربة التاريخية بالنصوص المقدسة اليهودية-المسيحية، وطالما أنه كذلك فإنه ينبغي "تنبيه الأمة" حتى لا تقع مرة أحرى مجددا ضحية المغالطة والتشويه: "هذا الكتاب موجه للأمة حتى تتذكر" (ص9).

يغوص الطالبي في نصوص العهد القديم بالخصوص، ذلك أنه منبع للتوراة والإنجيل الذين يفترض بالمسيحيين واليهود العمل بهما.لا يتعلق الأمر هنا ببمارسة دينية طقوسية لمعتقدات دينية، وإنما بممارسة ثقافية. فالعهد القديم، في نظر المؤلف، لم يؤسس لديانة بقدر ما أسس لثقافة، وهي ثقافة تقوم على تمجيد العنف وتنتقل به إلى أقصى درجات الهمجية غير المبررة سوى بالنظرة العنصرية والتلذذ بالإبادة. يورد الطالبي استشهادات مطولة من العهد القديم ليبين أن النص المؤسس حقيقة للإرهاب إنما هو العهد القديم، وليس القرآن، مركزا في الوقت نفسه على تناول بعض القضايا التاريخية للعهد الإسلامي الأول (قريظة وغيرها)وبعض الآيات والسور القرآنية (التوبة خاصة) لإعادة رسم مميزات الظرفية التاريخية وتنسيب الأمور بما يفضح التشويه المقصود لمثقفي الغرب عندما يتحدثون عن هذه المسائل.

يبدو "يهوه" وخليفته يسوع إلهين دمويين وهمجيين مثل آلهة التاريخ السحيق، ينزلان ساحات المعارك لقتال الآخرين، "الأغراب" بعد أن يكونا قد منحا بركتهما لعملية الإبادة غير المبررة. مالذي يبرر كل العنف الموجود في العهد القديم وبعده في العهد الجديد؟ لا شيء سوى الرغبة في التشفي من شعوب أكبر ذنوبها أنها لا تنتمي للأمة المختارة. عندما يحلل الطالبي طبيعة الحروب الغربية ضد الشعوب الأخرى، وبخاصة الشعوب الشرقية، يهوله حجم العنف وأعداد القتلى المرتفعة إلى الحد الذي تبدو معه الإبادة هدفا لذاتها. غزة، من هذا المنطلق، ليست سوى حلقة في سلسلة دموية سادية، تماما مثل حلقة غزو أمريكا من طرف الإسبان، أو الجزائر من طرف الفرنسيين، وقبل ذلك الشرق من طرف الإسكندر المقدوني. ليست محرقة غزة أيضا سوى تكرار لمحرقة التوراتيين ضد الكنعانيين منذ قرون عديدة: في العهد القديم يجد الطالبي تأسيسا "لأول نموذج للعنصرية الأكثر بشاعة التي يمكن لمخيال بشري أن يتصورها: "يهوه" أكبر مجرم في تاريخ البشرية، أقر بواسطة الجريمة شعبه المختار على أرض عمل قبل ذلك على إبادة سكانها، دون مبرر ولا حاجة لذلك، فقط من أجل لذة القتل" (ص 74). الإبادة عنصر في الثقافة الغربية ترمز إلى الشعور بالتفوق، وهو أمر أكثر التركيز عليه مؤرخ الحروب في الفترة القديمة، الأمريكي فكتور دافس هانسون، وككل عنصر مكون للثقافة السحيقة، فإن تغييره ليس أملا واقعيا. الحل يكمن عوضا عن ذلك في عدم ترك المجال لأن يطبق ذلك علينا، بفرض احترامنا على الآخرين، باكتساب مقومات القوة التي تمنع الغرب من مهاجمتنا لإبادتنا، لإحداث توازن رعب يمنح وجودنا الأمن، ذلك ما يعتقده الطالبي. القوة الحقيقية في نظر الطالبي هي تلك القوة التي لا تسخر للإعتداء على الآخرين، مفسرا "ترهبون به عدو الله وعدوكم" على أنها تأصيل لاستخدام القوة لردع الأعداء ومنعهم من الإعتداء على المسلمين.

ليس في الغرب محاور نزيه يملك من الأمر شيئا، وإن وجد فإن حضوره هامشي لا يكاد يزن في الواقع شيئا أو يغير اتجاه سياسة حددتها نفسية وثقافة أسستا منذ نصوص العهد القديم، ذلك ما توصل إليه الطالبي من خلال تجربته في الحوار الإسلامي المسيحي وكذلك من خلال تفاعل الرأي العام الغربي إزاء الحروب التي شنت على العراق ولبنان وفلسطين. من هذا المنطلق فإن نصوص هنتنغتون Huntingtonوكتابات المؤرخ الأمريكي فكتور دافيس هانسون Victor Davis Hansen، وكذلك "زلات لسان" بوش وبلير وبينيدكت السادس عشر وغيرهم، لا تعدو أن تكون سوى تعبير واضح عما يختلج في الضمير الغربي إزاء الشعوب الأخرى، وبخاصة إزاء المسلمين.

بالموزاة مع انتفاضته ضد الثقافة اليهودية-المسيحية الغربية، ينتفض الطالبي ضد السلفية الإسلامية، ويحملها مسؤولية بقاء الإسلام متخلفا عن ركب الإنسانية المعاصرة. يعتبر الطالبي أن السلفية لا تقل خطرا على الإسلام والمسلمين من كل الأخطار الأخرى، وإن كان ضررها أقل جلاء بالنسبة للمسلمين. يحمل الطالبي العلماء السلفيين مسؤولية جمود المسلمين، باصطفافهم دائما إلى جانب المستبدين، وتشريعهم للجمود ومحافظتهم على الأنماط السياسية والإجتماعية التي تجعل تحقيق العدالة الإجتماعية والحقوق السياسية أمرا بعيد المنال (ص 185). ينتقد بالمناسبة مفهوم "دار الحرب"، ويعتبره قاصرا عن فهم حقيقة الواقع في عالم اليوم، وينتصر للمواطنة المدنية، مركزا على مهاجمة فكرة الشريعة بوصفها تجميدا للإجتهاد في شؤون المسلمين. بالنسبة للطالبي ليس غير القرآن مصدرا للشرع، أما السنة التي قاست كثيرا من تدليس المحدثين، فيجب أن يتعامل معها بالنظر إلى النص القرآني والعقل فقط.

مع ذلك يصنف بعض الناس الطالبي، منذ صدور كتابه "ليطمئن قلبي" ضمن السلفية الدينية. يهمل هذا التصنيف بميله إلى السهل المتاح واصطفافه إلى الحد الإيديولوجي الأدنى ما يحصل في فكر الرجل منذ عقد ونصف من الزمان على الأقل. الطالبي، مثلنا جميعا، ليس مستقلا عما يحدث حوله وحولنا من أحداث قد لا تتوقف تأثيراتها علينا في الظاهر من الأشياء. زلزال العراق وزلزال غزة ليسا من الأحداث التي يتعامل معهما المرء ببرود الأكاديميين القاتل فقط. في أوقات معينة يتوقف المرء عن أن يكون ما يريد، ليعود إلى ما هو، إنسانا يدافع بما أوتي من جهد عن وجوده الذي أضحى مهددا في أبسط معانيه: الوجود البيولوجي. إن كتاب الطالبي الأخير إقرار بفشل الحوار مع الغرب من جانب مثقف وأكاديمي كان من أبرز رموز هذا الحوار. لم يبق للغرب من محاور إذا، بافتراض أن يكون راغبا حقيقة في الحوار، سوى أولئك الذين يطردهم الطالبي (أو يطردون أنفسهم كما يقول) من دائرة الإسلام ليجعل منهم (أو يجعلوا من أنفسهم) محاورين تحت الطلب. الإسلام ليس في حاجة إلى هؤلاء ، والغرب لن يجني من محاورتهم شيئا لأنهم لا يمثلون شيئا، في نظر المؤلف، لأنه صاغهم ليرددوا ما تقول دعايتهم دون أن يكون لهم أدنى تأثير على جمهور المسلمين.

يعود الطالبي إذا إلى "الأمة" مذكرا ومنبها بعد أن نفض يديه من الحوار مع الغرب، لأن ذلك الحوار لم يثمر سوى تغطية لمزيد من القتل والهمجية والإبادة. يعود إليها بمرارة واضحة وهو الذي يرى أنه أضاع وقتا طويلا في التعويل على ما أصبح يعتقد اليوم أنه كان سرابا وخداعا مع سبق الترصد. ولكن الطالبي لا يرمي بنفسه مع ذلك في أحضان السلفية التي يحملها مسؤولية التخلف التاريخي لأمته، فاليأس لم يبلغ منه هذا المبلغ بعد. لذلك فإننا نعتقد أن كتاب الطالبي الأخير يجب أن يطالع وفي البال كل ما وقع ويقع في العلاقة بين الشرق والغرب تاريخيا، وكل التطورات التي عرفتها المسيرة الأكاديمية والفكرية لمؤلفه، أي في السياق الواقعي الذي أنتج نصا بمثل هذه الحدة. "إنتفاضة" الطالبي الثالثة، بعد انتفاضة "ليطمئن قلبي" وانتفاضة "الإسلام ليس حجابا"، تقرأ في علاقتها بالإنتفاضتين السابقتين وبما يقع في ضمير الإنسان الذي هو جزء من أمة تعتقد أنها مستهدفة بالإبادة. عندما تصل الأمور إلى هذه النقطة يتوقف الأكاديمي عن أن يكون أكاديميا ملزما بعقلانية المنهج ليعود إنسانا تدفع به الغريزة إلى حقيقته الأولى ككائن حريص على البقاء أولا، وأخيرا !

نشر هذا المقال كاملا لمدة يومين بموقع الأوان ثم وقع سحبه من قبل إدارة الموقع، لينشر ملخص منه بعد ذلك في موقع الجزيرة:

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/AE5A44E4-7C70-44B1-99E9-D2738E920D25.htm


[1] Mohamed Talbi, Gaza (27-12-2008/18-1-2009): Barbarie biblique ou de l'extermination sacrée et humanisme coranique", SIMPACT, s.d., 250 pages.

حول جدل قديم عائد: تونس والدعوة الوهابية




حول جدل قديم عائد: تونس والدعوة الوهابية


)
عدنان المنصر، مؤرخ جامعي، تونس(



يعود الجدل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي، وبصفة أخص في بلدان المغرب العربي، إلى مسألة قديمة، تاريخ بداية ظهورها قرنان، وهي مسألة الدعوة الوهابية. ويأخذ الأمر منذ بضع سنوات خلت حساسية خاصة بفعل المضامين التي تبثها قنوات فضائية موحدة الرؤية والتمويل ونشريات، سمعية ومقروءة، توزع بكثافة عندما تجد إلى ذلك سبيلا، وما أكثر وأوسع السبل التي غدت تجدها. بالنسبة للكثيرين لم يعد هناك من ريب في ما أضحى يبذل من مجهودات لنشر بعض الدعوات الدينية في بلادنا، وهي مجهودات واضحة لكل من يريد أن يرى. وسواء كانت هذه الدعوات شيعية أو سنية، فإنها تبقى في طابعها العام مستفزة لمن يستطيع أن يرى من موقعه الراهن إمكانات الخطر القادم.


ليس في ظننا أننا بهذا المقال ننهي جدلا، أو نسهم فيه، من منطلق ديني أو مذهبي، فهذا الأمر خارج عن قدرتنا، ولا يحتل من أولياتنا أي محل. إنما نهدف إلى استقراء لمخاطر نراها رأي العين، ومهاوي نخشى على بلدنا وشبابنا أن ينحدرا في غياهبها، وما كان أغنانا عن ذلك لولا اشتداد تلك الدعوات وولوجها البيوت وانتصابها مواضيع نقاش في المقاهي وزوايا الشوارع.


على أن الناظر في التاريخ يعلم، دون إفراط ثقة، أنه وإن استعصت تونس طيلة تاريخها الديني على الأفكار المتطرفة، التي تنحى بالمعتقد منحى المبالغة، فإن الأمر لا يجب أن يحجب عنا أن شبابها ظل باستمرار عرضة لاغراء دعاة تلك التوجهات، وهو وإن استطاع الصمود ردحا من الزمن بفعل انتشار الفكر النقدي وسيادة قيم المدرسة الحديثة، فإنه اليوم يبقى أكثر من أي وقت مضى، عرضة لكل الأهواء ومحط تجاذب قوي لمختلف النحل. هناك شيء اسمه بيئة تونسية وخصوصية تونسية، جعلت هذه البلاد، على مدى تاريخها، وسطية في معتقدها، سواء تعلق الأمر بالإسلام، أو حتى قبله بالمسيحية. هذه البيئة حتمت خصوصياتها عوامل عدة ليس أقلها قيمة طبيعة موقع البلاد الذي جعلها في ملتقى التيارات حول المتوسط، بؤرة العالم ومنبع الديانات. لا يتعلق الأمر هنا بمفهوم الفسيفساء الحضارية المائع، وإنما بمفهوم صياغة ثقافة خاصة تستوعب المحيط ولا تتبناه بالضرورة، تهضمه ولا يهضمها، تنتقي منه ما يروق طبيعتها المعتدلة فتصوغه جزءا من ثقافتها وشخصيتها الحضارية المتميزة.


عندما ننظر إلى طبيعة استقبال علماء تونس في مطلع القرن التاسع عشر "للرسالة الوهابية"، تلك التي أرسلها سعود بن عبد العزيز بن سعود إلى باي تونس حمودة باشا الحسيني (1795-1814) في أواخر عهده، في إطار دعوته ملوك البلاد الإسلامية إلى تبني "المذهب" الوهابي (ويقال أن محررها كان محمد بن عبد الوهاب نفسه)، وذلك على شاكلة رسالة "أسلم تسلم" التي بعث بها الرسول إلى ملوك الأرض في بداية الدعوة الإسلامية، فإننا نجد تأصيلا لتلك الثقافة الدينية التونسية التي رمز إليها بعض رجال الشرع وعلماء الدين من خلال الرد المطول الذي خصصوه لتلك الرسالة، وهو رد يمكن أن تستلهم منه اليوم الكثير من المبادئ التي تكفي لإفحام كل المغالين، على المستوى الديني الفقهي نفسه.


لقد جاءت هذه الرسالة في بداية الدعوة الوهابية بالجزيرة العربية، وغداة إعلان القبائل الحليفة للسعوديين الحرب على العثمانيين والقبائل والمدن المتحالفة معهم، استنادا إلى مبدأ مقاومة البدع، وهو معنى من الإتساع بحيث يمكن أن يغطي أوسع المجالات وأكثرها تنوعا، إذ لا تعريف مضبوط يحدد البدعة في الزمان والمكان، وإنما تقديرات آنية بحسب المصلحة والأهداف.


احتوت رسالة سعود بن عبد العزيز بن سعود التي وجهت إلى باي تونس وداي الجزائر وسلطان المغرب على جملة من المآخذ على عقائد المسلمين بهذه البلاد، ولم يكن باعث البلاد ممن زاروها، بل ربما لم يزرها من أتباعه وأصحابه أحد، فجاءت رجما بالغيب وتعبيرا عن جهل بطبيعة تدين المسلمين بها، وصفحا عن ماضي العلم بأقطارهم، وقد كان فيها من العلماء، على مر العصور، ما لم يبلغ شأنه أحد من أهل الجزيرة. بل إنه مر على الجزيرة زمن كانت تدفع فيه بالخراج إلى الحفصيين بتونس، تلك الدولة التي امتد سلطانها أوسع امتداد وقد كانت هي ذاتها تواصلا للدعوة الموحدية التي رغم انتسابها إلى مقاومة البدع إلا أنها لم تقع في ما وقع فيه أولئك من تكفير للناس بالشبهة واستحلال لدمائهم وأملاكهم وأعراضهم.
جاء في اتحاف الزمان قول ابن أبي الضياف في تقديمه لأمر الرسالة الوهابية والرد عليها، تعريفا بصاحب الدعوة قوله: "وترامت بهذا الرجل الأسفار إلى أن استقر بالدرعية من أرض نجد، فصادف بها آذانا واعية، وقلوبا من العلم خاوية، وألقى لكبيرهم سعود هذا المذهب، واستدل له بظواهر آيات وأحاديث اغتر بها عامتهم حتى استباحوا قتال المسلمين. ولم يزل هذا المذهب ينمو إلى أن أفضى الأمر لسعود بن عبد العزيز بن سعود، القائم الأول، فعظم الأمر في زمنه، ونصب حربا للمسلمين عموما، ولأهل الحجاز خصوصا، وصدوهم عن بيت الله الحرام، وعاث في أهل الحجاز، وأطلق يد القتل والنهب فيهم. واستحكم هذا المذهب في قلوب أتباعه، والتحموا به التحام النسب. واشتدت عصبيتهم وقويت، فطلبوا غايتها وهي الملك والسلطان" (الإتحاف، ص 82). ثم يضيف قبل إيراد رد علماء تونس على تلك الرسالة "ولم يفرق بين البدعة الموصلة إلى الكفر، المقتضي للقتال، واستباحة الدماء والأموال، وبين غيرها، وإنما قصد ملكا يريد الحصول عليه بعصبية دينية" (ص 85(


من هنا فإن ما ركز عليه ابن أبي الضياف، بحسه الخلدوني النقدي، ومن منطلق العلم الشرعي في الآن نفسه، هو الخلط الواقع في أذهان أصحاب الدعوة بين البدع ذاتها، بحسب طبيعتها ومؤداها وعلاقتها بمبدأ التوحيد، ثم المغالطة التي تريد الإقناع بأن كل الحركة كانت من أجل الدعوة، في حين أن كل الدعوة كانت من أجل الحركة، أي اتجاه المجهود، حربا أو دعاية، إلى تمتين السلطة بالعصبية الدينية، وهي عصبية أدرك المسلمون أكثر من غيرهم خطورتها كلما ارتبطت بمشروع سلطة. وهكذا فقد جاءت الدعوة الوهابية نتاج تحالف بين قراءة حرفية وتجزيئية للدين الإسلامي، وبين طموح الدولة لدى قبائل بدوية، فكان الأمر كما عبرت عنه زوجة سعود نفسه عندما التقى للمرة الأولى بمحمد بن عبد الوهاب: " هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به".


وكان ابن أبي الضياف قد ابتدأ أمر الحديث في هذا الموضوع بذكر الحرب التي اندلعت بين محمد علي باشا، حاكم مصر، وبين أنصار ابن عبد الوهاب، حيث وردت "البشائر" من الدولة العثمانية "بأخذ الحرمين الشريفين من يد الوهابي"، فكان ذلك مدعاة لسرور الأهالي وأطلقت المدافع بالحاضرة استبشارا بذلك في 13 جوان 1814(ص 81). كما لم تعوز ابن أبي الضياف عبارات الثناء على محمد علي باشا الذي انتصر على الوهابيين بعد أن أعجز أمرهم السلطان العثماني، حيث يصفه "برجل الدنيا وواحدها الطائر الصيت في جهات المعمور، من رد الله به إلى مصر شبابها" ( ص 97). والحقيقة أن ابن أبي الضياف لا ينتصر بذلك فقط لمبدأ السلطة الشرعية في محاربة الخارجين عليها وإنما يتعلق الأمر باعتبار الدعوة الوهابية نقيضا لدعوة التحديث التي رمز إليها حكم محمد علي باشا، وهي دعوة كانت لها تأثيرات بالغة في أوساط النخبة الإصلاحية التونسية التي استطاعت التمييز، بصفة مبكرة نسبيا، بين ظواهر الأشياء وبواطنها. كان موقف علماء تونس من الرسالة الوهابية متجانسا مع هذه النظرة، ولكن من منطلق شرعي أشد تأصيلا في الثقافة الدينية، وهي ثقافة فهم التونسيون منذ زمن بعيد أنها لا تبيح قتال المسلمين لاختلاف في الرأي، باعتبار أن أموالهم ودماءهم وأموالهم حرمات معصومة بمنطوق الشرع وروحه.


إن رسالة علماء تونس وثيقة ينبغي أن تعود للتداول، ذلك أن مضمونها أوسع من الرد الآني الذي استوجبها بل هو يتجاوزه ليقدم قراءة فيها الكثير من الاتزان والوسطية المتلائمتين مع فهم للإسلام بعيد عن التوتر غير المبرر، اللهم إلا بمقتضيات السياسة وسراديب المصالح الخاصة التي تريد أن تبدو عامة. إن ما يثير الانتباه في هذه الردود، وبخاصة في رد الشيخ قاسم المحجوب مفتي المذهب المالكي، استناده إلى مبادئ شديدة الوضوح والبساطة، وإعراضه عن الجدل الخاوي من المضمون، بحيث بدا لنا أن هذه الرسالة كان ينبغي أن تكون مصدر فخر لمن تلقاها، لو استطاع الولوج إلى معناها، ذلك أنها رسالة في فهم شديد الوضوح للشريعة لا يمنعه عمق الأصول التي يستند إليها عن الوضوح والإيجاز والاقتصار على المفيد من القول دون كثير تعقيد. كما أن هذه الرسالة، خارج السياق الديني تماما، انتصار لا شك فيه لفلسفة الحقوق والفصل بين ما هو مطلق وما هو نسبي، وتقديم للإجماع على ماهو دونه من غايات، أي تفضيل البسيط المجمع عليه على المعقد الذي يكون مصدر فتنة. من منطلق التنسيب التاريخي ليس من الجائز أن نقارن بين "قراءتين" للإسلام احتوت الرسالة الوهابية على أولاهما، وضمنت الثانية في رد الشيخ المفتي قاسم المحجوب، ذلك أن الفارق بين الرجلين، علما ونظرا واتساع أفق، هو من الوضوح والجلاء بما يجعل أية مقارنة خاوية على عروشها واعتداء على سلامة الحس والمنطق.

وإذا ما أوجزنا رد الشيخ المحجوب لأمكننا ضبط أفكاره ومنطلقاته في نقاط قليلة ولكنها مهيكلة في بناء متين لم تعوز صاحبه القدرة على التبسيط رغم غزير علم بالشرع:

- تقديم "القراءة الوهابية" لمسألة مكافحة "البدع" ونقضها بالاستناد إلى "كتاب الله المحكم، وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم".

-إبراز التناقض بين الدعوة المذكورة بوصفها كما تقدم نفسها تواصلا للإسلام الصحيح، وبين إغراقها في الاعتداء على حرمات المسلمين واستحلال دمائهم: "أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم ‘ضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حطام الدنيا والآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين".


-
قدح الوهابيين في الصحابة يسقط التواصل في الدعوة: "وإذا قدحت في هذا الجمع من الصحابة الذين منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما، فمن أين وصل لك هذا الدين".
-
اعتبار تقييم بعض السلوكات الدينية بوصفها من الدين ومن بدع المسلمين أمرا يعود إلى قراءة لا ينبغي أن تفرض نفسها طالما كانت موضع اختلاف، وضرورة البحث عما يوحد بين المسلمين لا عما ينقض عرى وحدتهم ويحيل تعايشهم حروبا وفتنا: " فإذا انفتحت لك هذه الأبواب، نظرت بنظر آخر ليس فيه ارتياب، وهو أن المنكر الذي اقتضى نظرك تغييره، ليس متفقا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وقد سقط عنك القيام فيه والانتقاد. ثم بعد الوصول إلى هذا المقام، أعد النظر في إيقاد نار الحرب بين أهل الإسلام، واستباحة المسجد الحرام، وإخافة أهل الحرمين الشريفين، والاستهوان لإصابة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فسيتضح لك أنك غيرت المنكر في زعمك، وبحسب اعتقادك وفهمك، وأتيت بجمل كثيرة من المناكر، وطائفة عديدة من من الكبائر، آذيت بها نفسك والمسلمين، وابتغيت بها غير سبيل المؤمنين".
-
ابراز ضعف السند الشرعي والفقهي "للقراءة" الوهابية لمسألة البدعة والابتداع واعتباره ناتجا عن قلة علم، بل عن جهل بأصول القراءة الأولية لمصادر التشريع: "وأما تلميحكم للأحاديث التي تتلقفونها، ولا تحسنونها ولا تعرفونها، فهمتم بسبب ذلك في أودية الضلالة، ولم تشيموا بها إلا بروق الجهالة، وسلكتم شعابها من غير خبير، ونحوتم أبوابها بلا تدبر ولا تدبير".


-
تكذيب صريح لمبدأ الفرقة الناجية التي اعتقدت الوهابية أنها هي بل واللمز إلى أن تلك الفرقة، إن صحت، فإنها تكون من بلاد المغرب وليس من المشرق، بمنطوق الحديث النبوي نفسه.
-
رفض تهديدات الوهابية الموجهة إلى مسلمي تونس في حالة عدم الإنصياع لدعوتها وإبراز الإستعداد لمقاومة أي عدوان، من منطلق الثقة في سلامة القراءة، والحق في الدفاع عن النفس والحرمات، مع التأكيد على انتماء الممارسات الدينية في تونس لدائرة الشرع الصحيح: "أما أهل هذه الأصقاع، والذين بأيديهم مقاليد هذه البقاع، فهم أجدر أن يكونوا من إخواننا، وتمتد أيديهم إلى خوانها، لصحة عقائدهم السنية، واتباعهم سبيل الشريعة المحمدية، ونبذهم الابتداع في الدين، وانقيادهم لإجماع وسبيل المؤمنين".


يرمز رد علماء تونس على الرسالة الوهابية إلى بيئة كاملة نخشى أن زوال بعض مضامينها يترك اليوم جزءا واسعا من شبابنا عرضة لرياح البداوة الدينية ويعصف بمميزات ثقافة دينية وسطية لم يعرف التوتر إليها سبيلا طيلة قرون عديدة من الممارسة. نعني بتلك العناصر الزائلة "الزيتونة"، المؤسسة الدينية الأولى في البلاد التي كان بإمكانها مقارعة مثل تلك الدعاوي من داخل النسق الديني ذاته. ولا ينفع هنا شيئا القول بأن انتقال المجتمع إلى الحداثة هو الحل الأمثل لتلك الثقافة، ذلك أنه في انتظار أن يحل بيننا ركب الحداثة ويستقر عندنا دون رجعة، سيكون كل شيء يرمز إلى ذلك الفهم للإسلام قد اندثر تماما، ليس لصالح الحداثة المفترضة، ولكن لصالح البداوة. هل مازال بإمكان المؤسسة الدينية الحالية في تونس (سلطة الإفتاء)، برغم شدة ارتباطها بالمؤسسات الرسمية القائمة وبرغم اعتبارها سياسية أكثر منها دينية أن تضطلع بدور مواجهة مثل هذه الحملات التي يشتد عودها يوما بعد يوم؟ إنها إنما تتحرك في فضاء مفتوح، لا يعيق زحفها عائق، سوى نوع من الامتعاض الفطري من سلوكات المبالغة والحرفية الدينية، وهو امتعاض لا يكفي مطلقا لمنعها من التعشيش والتفريخ، في شكل بعض الطقوس الآن، وفي شكل أكثر خطرا وتهديدا للاستقرار العام لاحقا. كم هي بعيدة عن أذهاننا تلك الفكرة التي تعتبر استخدام القوة الرسمية حلا لمقاومة الفكرة، مهما كانت تلك الفكرة هامشية وخاوية. ذلك أننا نعتقد أنه لا يمكن مقارعة الفكر إلا بالفكر، وأن لا نجاح لمقاومة التطرف إلا بتغليب الفكر المعتدل ونشر الفكر النقدي الذي لا يبدي بالضرورة عداء أو تجاهلا للمعتقد في أصله، فالترياق ينبغي أن يأتي من داخل النسق، ولا ينفع البتر في مثل هذه الحالات شيئا.

نشر في موقع الأوان:

http://www.alawan.org/%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%AC%D8%AF%D9%84-%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85-%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D8%AF.html

تونس: اليأس من الجمهورية يعيد الحنين إلى الملوكية



تونس: اليأس من الجمهورية يعيد الحنين إلى الملوكية

(عدنان المنصر، مؤرخ جامعي، تونس)

تحتفل تونس سنويا بعيد الجمهورية الذي يوافق يوم 25 جويلية من كل عام. ففي مثل ذلك اليوم من سنة 1957 أعلن المجلس القومي التأسيسي إلغاء النظام الملكي وإحلال النظام الجمهوري محله، فعزل الباي محمد الأمين ووضع مع عائلته قيد الإقامة الجبرية بإحدى ضواحي العاصمة تونس، في حين عين الزعيم الحبيب بورقيبة، الذي كان إلى حد ذلك اليوم رئيس حكومة الباي، رئيسا مؤقتا للجمهورية إلى حين الفراغ من إعداد ذات المجلس للدستور وتنظيم انتخابات 1959 التي سيكون المرشح الوحيد فيها لمنصب الرئاسة، وهو منصب سيظل يشغله إلى حين الإطاحة به صبيحة يوم 7 نوفمبر 1987.

يستعيد التونسيون اليوم، ومنذ بضع سنوات بصفة خاصة، تاريخ هذه الفترة من تطور النظام السياسي في بلادهم، وهو أمر يعود في الجزء الظاهر منه إلى بث القنوات التلفزية، غير التونسية دائما، أشرطة وثائقية تتناول جوانب من تاريخ دولة الاستقلال في تونس. وبالنظر إلى أن التونسيين يهجرون منذ زمن طويل قنواتهم "الوطنية"، فقد أضحى تتبع هذه البرامج بل وأحيانا اقتناصها وتحميلها ثم وضعها على الشبكات الاجتماعية على الأنترنات، أو بيعها بعد استنساخها في محلات ترويج الأقراص المضغوطة بأثمان بخسة، فرصة لعودة التاريخ التونسي إلى البيوت والمجادلات بين الأفراد والمجموعات بغض النظر عن مستوى الثقافة التاريخية للمتجادلين. ما يلمسه المتابع بوضوح منذ زمن قصير هو أن عودة الاهتمام بالتاريخ بين التونسيين تتزامن مع غياب كامل للمضامين التاريخية في وسائل الإعلام الرسمية بل حتى تخفيف وأحيانا تغييب هذه المضامين التاريخية من برامج التدريس، مما يجعل من التونسيين يولون وجوههم شطر مصادر المعلومات البديلة وخاصة منها التي تقدم مضمونا جديا يكون في غالب الأحيان نتاجا لمجهود بحثي محترم في أدنى الحالات. وحتما فإن الأشرطة الوثائقية التي تزاوج بين الصوت والصورة، في قالب فني يراعي مقتضيات الإخراج والتأثير في المتلقي، يصبح مكتسيا لأهمية بالغة في عصر سيطرة الصورة والأنترنات.

ومثل ما أحيا شريط "اغتيال حشاد" (الذي أنتجته قناة الجزيرة وبثته) الجدل حول الزعامة الوطنية في تونس وقضايا الذاكرة، مطلقا الجدل من جديد حول دور الحركة النقابية التونسية في تحقيق الاستقلال وتأسيس مشروع الدولة الوطنية، مع ما يقتضيه ذلك نظريا من المشاركة في صياغة السياسة الاقتصادية والاجتماعية العامة في البلاد، فإن شريط "بايات تونس" الذي أنتجته جهات إعلامية فرنسية بمناسبة خمسينية إعلان النظام الجمهوري في تونس ووقع بثه لأول مرة سنة 2007، والذي يعود للرواج بكثافة بين التونسيين في كل موفى شهر جويلية من كل سنة، أعاد الجدل مجددا حول طريقة تعامل نخبة الجمهورية مع النظام الملكي وأثار التعاطف، لدى بعض القطاعات، مع ما تعرض له أمراء العائلة الحسينية من سوء معاملة بلغت حد التشفي أحيانا غداة، بل وحتى قبل سقوط النظام الملكي.

لقد أنهى إعلان الجمهورية في 1957 حكم البايات الحسينيين في تونس الذي تأسس منذ سنة 1705، مما يعني استمرارية تاريخية فاقت القرنين والنصف من الزمان، وهو عمق تاريخي كاف لتأسيس شرعية تستند إلى الاستمرارية، بغض النظر عن المضمون التاريخي لهذه الاستمرارية: وإذا ما عدنا إلى مسألة المضمون تلك، وجب التذكير بأن هذه الأسرة الحاكمة التي وافق رئيسها محمد الصادق باي في سنة 1881 على دخول القوات الفرنسية المحتلة واستقرارها بالبلاد منخرطا في سياسة تهدف إلى وضع حد للمقاومة التي شنتها القبائل وبعض المدن على الفرنسيين، هي نفس الأسرة التي دعمت حركة الإصلاح الثقافي والسياسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تلك الحركة التي جعلت تونس أول بلدان العالم الإسلامي التي تلغي الرق، قبل أن تمنحها أول دستور مكتوب يستند إلى مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالها مع ما تقتضيه الأنظمة الحديثة من ضمانات للأفراد في وجه جبروت السلطة التنفيذية. كل ذلك لتلخيص فكرة بسيطة في ظاهرها ولكنها كثيرا ما وقع تناسيها من قبل "النظام الجمهوري" في تونس وبالأخص خلال فترة حكم الزعيم الحبيب بورقيبة، وهي فترة لم يضاهها زمنيا حكم أي باي من بايات العائلة الحسينية تقريبا: أن النظام الجمهوري لم يؤسس لتونس الحديثة ولم يبدعها، وأنه لا يمكن التغاضي عن طابع الاستمرار بين التجارب السياسية التي شهدتها البلاد في العهد الأخير من حياتها.

من الضروري هنا أن نشير أن نخبة الاستقلال، تلك التي أنشأت الجمهورية وشيدت نظامها، بنت شرعيتها التاريخية باستمرار بالاستناد إلى فكر النهضة الحديثة في تونس واعتبرت نفسها تواصلا للحركة الإصلاحية التي وقع تدشينها منذ منتصف القرن التاسع عشر (والتي كان الوزير خير الدين التونسي والجنرال حسين، إضافة إلى المؤرخ أحمد بن أبي الضياف والشيخ محمود قبادو وغيرهم من المصلحين) تناست باستمرار أن تلك الحركة الإصلاحية لم تكن لتشهد انطلاقتها لولا مساندة البايات لروادها واحتضانهم لمبادراتها، مما يجعل من حركة إعلان الجمهورية في الواقع تواصلا لحركة تاريخية ينبغي تأصيلها في إطار حركة فكرية وإصلاحية احتضنها البايات. طيلة عقود ثلاثة على الأقل من حكم الزعيم بورقيبة وقع تجاهل ذلك تماما، بل وأسند بعض المؤرخين الرسميين هذه القراءة الانتقائية للتاريخ بإعطاء غطاء أكاديمي لقفزة بهلوانية كبيرة اتساعها قرنان ونصف القرن من الزمان. في السياق نفسه، وفي إطار البحث عن شيء من العمق التاريخي، عاد الحديث في السنوات التي أعقبت الإطاحة بالرئيس بورقيبة عن العائلة الحسينية، ولاحظ المتابعون الفطنون تركيز الدعاية الرسمية على لقب مؤسس العائلة الحسينية، الحسين بن علي، للإيحاء بفكرة لم يتم التصريح بها أبدا، فكرة أن نظام ما بعد بورقيبة أكثر عمقا تاريخيا من نظام بورقيبة السابق، بل ومن الجمهورية نفسه، لمجرد تشابه في الأسماء لم ينطل على معظم الناس. منذ ذلك الوقت تم التغاضي عن إيحاءات من هذا القبيل، وعوضت بعبارات نجدها مكتوبة اليوم في اللافتات التي يقع تعليقها بكثافة بمناسبة الأعياد والذكريات الوطنية، وهي عبارات تجعل من رئيس الدولة الحالي رائدا من رواد الإصلاح وتواصلا لتجربة التحديث التي دشنت في منتصف القرن التاسع عشر، وتقفز على استحياء على تجربة الثلاثين عاما التي عرفتها البلاد في عهد الزعيم الراحل. ما يهمنا هنا ليس المضمون مطلقا، وإنما هذا الاستخدام الفج وغير البريء للذاكرة، وتطويع التاريخ عبر قراءات عشوائية ولكنها غير مرتجلة، تعتمد الإيحاء أكثر من التصريح، وتمس اللاشعور أكثر من الشعور. حتما إن للتاريخ دائما بهلوانييه الذين يأتون، في معظم الأحيان من عالم السياسة، ويسعون لتطويع الذاكرة لمقتضيات السياسة السفلى والعليا على حد سواء. ورغم ممارسته على أوسع نطاق، فإن هذا المنحى يتجدد كل مرة بنفس الإصرار، وبنفس الأهداف المعلنة والخفية.

في مقابل ذلك، تستعيد بعض الأوساط المتعاطفة مع الملوكية، مستغلة في ذلك يأس المحبطين من الجمهورية، الفرصة للعودة من جديد والتأكيد على طابع الضحية وسياسة الانتقام التي مورست على العائلة الحسينية بعد إعلان الجمهورية. هذا المنحى ليس أقل حرصا على نقاء الذاكرة التاريخية من غيره ممن وصفنا سابقا، وهنا فإن الأمر يحتاج إلى توضيح يعيد الذاكرة إلى نفسها والتاريخ إلى ذاته المتعالية- نظريا -عن قراءات المصالح والظرفيات المتغيرة. بالعودة إلى شريط "بايات تونس" لا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ تركيز الشريط، الذي مولته أطراف متعاطفة مع الملوكية وانتقي من مشاركات المؤرخين فيه (وقد كنت أحدهم) ما يتلاءم مع القراءة التنصيعية لتاريخ هذه الأسرة، ميله إلى إدانة النظام الجمهوري ليس من منطلق فشله في تحقيق الكثير مما وعد به التونسيين من فصل بين السلطات، وتوسيع لدائرة الحريات، وترسيخ لمبدأ التداول والشفافية في الحكم، وإنما من منطلق الخسارة الفادحة التي أصابت التونسيين جراء إنهاء قسري لحكم لا تعوزه الشرعية التاريخية. وقد هال الملاحظين المطلعين الذين شاهدوا هذا الشريط تصوير بعض المشاركين من ذوي الصفة الأكاديمية (ومن غير المؤرخين بالخصوص) الأمر على أنه كان قرارا شخصيا من الزعيم بورقيبة للاستئثار بالحكم وتأسيس نظام هو مزيج بين الملوكية والجمهورية اصطلح الظرفاء على تسميته بالجملوكية. يتناسى هؤلاء، ولا ينسون، أن القرار كان قد صدر عن المجلس القومي التأسيس المنتخب من طرف التونسيين والذي كان ممثلا للسيادة الشعبية غداة الاستقلال، رغم أن صلاحياته الدستورية كانت تتوقف أصلا على وضع دستور للبلاد الخارجة لتوها من استعمار فرنسي دام ثلاثة أرباع القرن. ولكن مشاهدي الشريط يمكن أن يلاحظوا تركيزه اللاواعي على نقطة أخرى وهي مسألة نهب أملاك الأمراء الحسينيين من قبل الدولة الجديدة وأعوانها التنفيذيين. ليس لذلك أهمية كبيرة تاريخيا، فالاختلاس وسوء التصرف ليسا من النقائص التي تدين في العمق نظاما جمهوريا ناشئا، حيث يمكن باستمرار وضع الأمر على عاتق التصرفات الفردية والتجاوزات غير المتوقعة، بالرغم من أن ذلك تم على نطاق واسع. ما يفضحه التركيز على هذه النقطة بالذات من زاوية نظر المؤرخ المهتم هو غياب أي فكر سلالي لدى أمراء العائلة الحسينية، فالملوكية حالة ذهنية قبل أن تكون جواهر وعقارات، وهي نوع من الإعتزاز بشرعية تاريخية ارتبطت بمسيرة نشأة دولة وشعب عبر قرون من الحرص على المصلحة العامة وحماية البلاد من الأخطار المهددة لها، وبصفة خاصة تلك القادمة من وراء البحار في شكل غزو أو استعمار، وهو أمر لم يحصل لسوء حظ تلك السلالة. في لقاء لي مع عدد من أبناء وأحفاد آخر البايات بالمغرب الأقصى، حكمت الصدفة كثيرا من تفاصيله، راعني أن السؤال الذي كان يتكرر علي باستمرار وإلحاح من قبل الجميع دون استثناء هو ذلك السؤال الفاضح: "أين ذهبت أملاكنا وكيف يمكن استعادتها؟" إذا لم يبق لدى سلالة مالكة سابقة من هم سوى الجواهر والأراضي، فإن سوء فهم كبير يزول بالضرورة، لتتوضح الصورة أكثر فأكثر: هل كان هؤلاء جديرين بالفعل بالبقاء على سدة الحكم بعد زوال الاستعمار الذي سهلوا استقراره وكانوا له أكبر معين على حكم شعب كان يفترض أنه شعبهم، طيلة ما يناهز القرن، بعد أن أذاقوه من صنوف القهر ألوانا طيلة كل الفترة التي سبقت حلول الاستعمار؟

ما يثير الانتباه أكثر من ذلك هو انخراط صنف آخر من التونسيين في نفس مسار الحنين ذاك، من منطلق اليأس من الجمهورية والقنوط من الحصول على الضمانات التي وعدت بها عند تأسيسها، نصف قرن وأكثر بعد الإعلان عنها. وهذا في الحقيقة أخطر المسارات على الإطلاق، بالرغم من المنطق الذي يستند عليه، والمقارنات التي يقوم عليها. هل أضحت الملوكيات، وبخاصة الدستورية، ضمانة حريات أكثر من الجمهوريات؟ هذا سؤال مرير بعد خمسة عقود من التجرية الجمهورية في تونس، وكل الفكر الذي صدر حولها والأدبيات التي أنتجتها. حتما، لا خوف من الحنين لأنه لم يؤسس يوما نظاما ولم يلغ آخر قائما، إنما الخوف من اليأس الذي قد يحطم ما هو موجود دون بديل حقيقي.

من منطلق سياسي، يمثل عودة الجدل حول طبيعة النظام الجمهوري وحدوده ومكاسبه أمرا محمودا‘ إذ أنه يدل على وجود حركية فكرية وسياسية تغذيها تجارب الدولة وأخطائها وتوقعات المحكومين منها، وحماسهم أو يأسهم، بحسب الحالات. أما من منطلق تاريخي، واستنادا إلى أهمية الذاكرة في بناء المخيال الجماعي، فإنه ينبغي القطع مع النظر إلى التاريخ كحلقات منفصلة عن بعضها البعض وكتوق متواصل إلى البناء الذي لا يستوي إلا على هدم ما كان موجودا. ما يسميه البعض مصالحة الناس مع تاريخيهم أمر ملح، لأن الأمر يتعلق ببناء ذاكرة قادرة على التعامل مع محطات تاريخها، الماضية والحاضرة والآتية، بنوع من التنسيب الضروري لمواصلة طريق لا يزال طويلا. هذا الأمر لا يستقيم مع القراءات الإنتقائية التي تعتقد بعض المصالح أن السياسة تبررها، وهنا فإن على البعض أن يتوقفوا على تجميل حصان طروادة الذي إن استقر داخل أسوار الذاكرة فإنه يحطمها ويحيلها صحراء قاحلة.


نشر في الجزيرة,نت

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/CB2A2772-DC97-45AC-956D-918914422856.htm

dimanche 11 juillet 2010

من "الشخصية التونسية" إلى "الهوية التونسية"، إلى "الأمة التونسية": محمد مزالي والبشير بن سلامة‏

(بقلم عدنان المنصر)

من "الشخصية التونسية" إلى "الهوية التونسية"، إلى "الأمة التونسية": محمد مزالي والبشير بن سلامة‏


اكتفى بورقيبة في هذا المجال بوضع المبادئ العامة للثقافة الجديدة المراد ترسيخها لدى الأجيال الشابة والتي سيعتبر أنها ضمانة لاستمرار مشروع الدولة الوطنية في المستقبل، في حين قامت أطراف أخرى، جمع بينها وحدة التكوين وانسجام الرؤى والحماس الفياض للمشروع البورقيبي، بصياغة هذه الثقافة الجديدة وإعطاء إيديولوجيا الدولة الوطنية بعدا أعمق عن طريق تأصيلها في الثقافة الوطنية من جهة، وعن طريق إعادة صياغة هذه الثقافة الوطنية لتصبح متماشية مع البرامج السياسية بعيدة المدى للنخبة الوطنية. ويؤكد ذلك في الحقيقة حركية هذه النخبة المثقفة الجديدة وبراغماتيتها في الوقت نفسه. فإضافة إلى اقتناعها الكامل بالمشروع الذي شرع في تطبيقه منذ استقلال البلاد، كانت هذه النخبة، التي نشأت في الصادقية وعايشت أهم مفاصل مسيرة التحرر الوطني واطلعت بحكم دراساتها العليا على ما كان يعتمل داخل الثقافة الأوروبية عموما والفرنسية منها بالخصوص غداة الحرب، صاحبة مشروع جنيني عبرت عنه منذ الأعداد الأولى من الفكر، وهو مشروع "التونسة" أو صيرورة "تأصيل الكيان" الوطني. وهكذا أصبحت مجموعة الفكر، وبصفة خاصة قطباها محمد مزالي والبشير بن سلامة، المجموعة التي سيعهد إليها بصياغة الثقافة الجديدة.
لقد كان الأمر يتعلق بإنشاء أجيال جديدة تؤمن بالعقيدة الوطنية مما جعل للمدرسة وللنظام التربوي الدور الأساسي في هذه الصيرورة وهو ما عبر عنه أحد أكبر المتحمسين لفكرة "التونسة" وهو محمد مزالي عندما كتب أن هذه الأخيرة "تقتضي أن يهدف الهيكل الجديد لنظامنا التربوي إلى تجسيم كل مقومات الأمة وغرس العقيدة الوطنية في نفس الشباب بحيث يؤمنون بأنهم ينتمون إلى وطن له خصائصه الحضارية وله تاريخه وأمانيه فيعتزون بالانتساب إليه ويندمجون فيه ويستعذبون البذل والتضحية من أجل نصرته ومناعته وهذا لن يكون ما لم يتم الاتفاق بين أهل الحل والعقد ورجال الفكر على محتوى هذه التونسة، وما لم يتيسر ضبط مقومات الأمة التونسية ومعرفة خصائصها، وما لم يشيد سلم القيم الروحية والأخلاقية الذي به يكيف الشباب أعمالهم ومنه يستوحون سلوكهم واتجاهاتهم".
لقد عني "بالتونسة" التأكيد على محتوى العقيدة الجمعية الجديدة المراد ترسيخها لدى التونسيين، وهو ما سيسمى في مرحلة موالية "بالشخصية التونسية" قبل أن تتحول إلى "الهوية التونسية" ثم إلى "الأمة التونسية". ويتنزل هذا المجهود النظري الذي اضطلعت به النخبة المثقفة الجديدة في إطار ما أسماه محمد مزالي "إعطاء الوحدة القومية مضمونا عقائديا وفلسفيا" والتعمق في استجلاء هذه الخصائص ثم تركيزها في كل البرامج التربوية والثقافية واعتمادها في سياسة تكوين الشباب وتوجيهه، واستيحائها عند ضبط وسائل الإعلام وطرائق التوجيه.والوحدة القومية تقتضي من التونسيين، في نظر محمد مزالي، "الإيمان بأننا أمة قبل كل شيء، ومعرفة مقوماتنا ثم العمل على تغذية هذه المقومات وجعل الأجيال الصاعدة تتعرف إليها وتتغذى منها وتعتز بها ثم تعمل بدورها على إشاعتها وتنميتها وتبليغ الأمانة إلى الأجيال التي تأتي بعدها". من هذا المنطلق يفند محمد مزالي الادعاء بمرحلية الوحدة القومية، كونها مجرد موقف ظرفي ينحصر في "وحدة الصف" في مرحلة الكفاح من أجل التحرر، بل يعطيها مضمونا حضاريا وثقافيا يعتمد على شعور التونسيين أنهم يكونون أمة "لها خصائصها ولها حاضرها ولها مستقبلها وتقتضي إيمانا بوجوب الحفاظ على جملة المقومات القارة التي تجمع بينها وصونها من التلاشي والضياع".
إن أهمية اجتهادات كل من محمد مزالي وبصفة خاصة البشير بن سلامة تكمن في تناولها مسألة ذات صبغة إشكالية واضحة، فقد حاول كل منهما تأكيد مقولة "نحن أمة" التي قامت عليها فلسفة التحرر الوطني، مؤكدين على وجود جملة من الخصائص تجعل من التونسيين أمة بالفعل. وهنا يقعان بفعل تأكيدهما على أن الدولة لا تعدو كونها خاصية من خصائص الأمة أو أحد انتاجاتها في أفضل الحالات، للوهلة الأولى، في تعارض واضح مع نظرية بورقيبة والقائمة على فكرة انعدام شيء اسمه الأمة التونسية وأن إيجادها هي مهمة الدولة الوطنية ومبرر وجودها. غير أنه من الضروري الإشارة إلى أن الاختلاف بين الموقفين ليس أمرا خاصا بالساحة التونسية . نجد النخبة المثقفة التي ينتمي إليها مزالي وبن سلامة أكثر إلحاحا على عملية التراكم التاريخي التي جعلت التونسيين أمة تسعى لتحقيق تحررها وبناء كيانها السياسي المتمثل في الدولة الوطنية.

يؤكد محمد مزالي أن "لهذه البلاد تاريخا وتاريخا مجيدا، وأن شعبنا ظل صامدا حيا رغم تعاقب الغزاة وشراسة الطامعين، لم يذب قط في الغير بل هضم ما استساغته روحه الحضارية وأخذ عن الأقوام ما تصادى مع أخص خصائص عبقريتهن وتصدى للغاصبين فردهم على أعقابهم وكثيرا ما لعب دورا إيجابيا فأخذ وأعطى واستوحى وأوحى.." وقد أدت تجربة التونسيين في العيش مع بعضهم وتوالي المحن والغزاة إلى تبلور تلك "الإرادة المشتركة في الحياة الجماعية، وهي الإرادة التي تتكون بها الأمم". وقد لاحظ مزالي من خلال استقرائه لتاريخ الشعب التونسي أن هناك خصائص كبرى تجمع بين أفراده وتجعلهم يكونون أمة بالمعنى الكامل وهذه الخصائص لخصها في ما أسماه بالقاعدة الروحية ذات المنبع الشرقي، وجدلية العلاقة مع حضارات وشعوب البحر المتوسط التي تجسمت عبر القرون تارة في الاحتكاك السلمي وطورا في التصادم الحربي "مما أورث فينا النظرة الواقعية". من هنا استنتج مزالي أن تونس "ليست مجرد فرع من أصل، إنها وطن متميز، له كيانه المعروف وحيزه الجغرافي المضبوط وإن دينها الإسلام معتقدا وحضارة وتراثا، سلوكا ونظام حياة ونظرة إلى الوجود، وإن لغتها العربية... الركن الركين للشخصية الوطنية والعنصر المتين للذاتية القومية".
ورغم أن ملامح وصفات هذا الانتماء الحضاري تبدو أمرا بديهيا إلا أن طبيعة السجال الإيديولوجي والسياسي الذي عرفته تونس بين دعاة التشريق ودعاة التغريب قد جعلت مهمة منظري الذاتية التونسية صعبة نوعا ما. وإذا ما كان من اليسير نسبيا على هؤلاء مجابهة دعاة التغريب فإن مواجهة الخصوم الآخرين لم يكن بمثل ذلك اليسر، من هنا فإن التمسك بالثقافة العربية وبالدين الإسلامي كمكونين أساسيين في تلك الشخصية التونسية كان يرمي أولا إلى رد تهم الفئات التقليدية والأطراف القومية -التي شكلت هذه الفترة وخاصة قبل هزيمة جوان 1967 عهدها الذهبي- بسعي الدولة الوطنية في تونس إلى الخروج عن دائرة الانتماء الحضاري العربي الإسلامي. لذلك نجد محمد مزالي يواصل في ذات السياق التأكيد على أن "الأمة التونسية عربية إسلامية منذ الفتح الإسلامي، تغلغلت فيها الروح الدينية وصهرت شعبها وطبعته بطابعها حتى أصبح الدين الإسلامي من أخص خصائصها وأمتن مقوماتها، لا يمكن أن تتنكر له أو تزور عنه دون أن تفقد ذاتها وتمسخ شخصيتها". غير أن الاعتزاز بهذا الانتماء لا يجب أن يخفي في نظر النخبة التونسية المثقفة طبيعة المعركة التي أصبح على الأمة خوضها، وهي معركة التحرر الاقتصادي والاجتماعي، وسعيها إلى "تجديد مفاهيم الحرية والعدالة والسعادة بما ينسجم ومثلها العليا في الحياة وما يمليه عليها ضميره الحي". من هذا المنطلق فإن الدين الإسلامي الذي "وقى الأمة في الماضي شر التشتت ودرأ عنها خطر الاندماج رغم السياسة الاستعمارية ومكائدها وزود مجاهديها بالطاقة على الكفاح والإيمان بالنصر، يمكن، بل يجب، أن يكون محركا للعزائم وحافزا على العمل، والقوة على العمل، والثقة "بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
ويؤكد البشير بن سلامة على نفس المبدأ في التعامل مع الانتماء العربي الإسلامي لما يسميه الأمة التونسية وإن كان أكثر إسهابا. فهو يرى أن تأكيده على وجود ما أسماه الشخصية التونسية هو تأكيد لوجود أمة تونسية دون أن يعني ذلك مطلقا أي استنقاص من أهمية انتساب هذه الأمة إلى الأمة العربية اعتقادا منه " أنه لا تزدهر هذه الأمة الكبيرة التي ننادي بإقامتها والتي أصبحت الأمل الذي يجب أن يتحقق إلا بقيام الأمم العربية أي أن تصبح هذه الشعوب المتأرجحة في ثنائية يائسة أمما بأتم معنى الكلمة تنصهر في نهر الأمة العربية الكبير وإلا فإنها ستبقى أجزاء مبعثرة يوحدها الأمل ويفرقها الواقع".

انطلاقا من هنا سعى البشير بن سلامة لإثبات فرضية وجود "الأمة التونسية" فلاحظ أن علماء الاجتماع والفلاسفة قد اتفقوا على أنه "لا يمكن لشعب يصبح أمة إلا إذا أظهر بصفة مستمرة حية، إرادة جماعية للعيش عيشة مشتركة وإذا عرف كيف يكون لنفسه الهياكل اللازمة لوجوده كأمة قائمة الذات وكذلك إذا هو أمكن له أن تكون له نوع من الثقافة ونوع من القدرة على أن يحكم نفسه بنفسه ويدير شؤونه".
والبشير بن سلامة هنا لا يخرج عن الإطار الذي تشكلت فيه الرؤية النظرية للحركة الوطنية التونسية بوصفها عملية إحياء للثقافة وللأمة وبكونها رفضا للذوبان في الثقافة الفرنسية الغازية وبرهانا على استمرارية الكيان الوطني. فنجد أن على البلهوان، وهو أول الوطنيين الذين تناولوا هذه الإشكالية بكثير من الاهتمام، نجده ينتصر للفكرة التي تجعل من الدولة مجرد مظهر من مظاهر الأمة، ذلك أن الأنظمة تتغير وتزول وتتوالى العائلات الحاكمة ويندثر بعضها "غير أن الحكم السياسي للأمة لا ينمحي بسبب تلك التغييرات بل يبقى مستمرا دائما" .ولا يعني ذلك أي استنقاص من أولوية دور الدولة في فكر البشير بن سلامة، بل إنه على العكس من ذلك تماما يجعلها تتويجا لمسيرة دامت قرونا وقرونا وينيط بها مهمة تحويل بعض الخصائص الحضارية السلبية إلى خصائص أخرى ايجابية.

مقتطف من كتاب "دولة بورقيبة، فصول في الإيديولوجيا والممارسة"، عدنان المنصر، 2007.

عدنان المنصر،حوار مع إيلاف حول فلسطين وقضايا التطبيع

إيلاف، أجرى الحوار الصحفي اسماعيل دبارة

شدّد المؤرّخ التونسيّ الدكتور عدنان منصر على أنّ الديانة اليهودية معترف بها في تونس وأنها قديمة الحضور، واعتبر منصر وهو أستاذ محاضر في الجامعة التونسية في معرض تعليقه على الجدل الذي رافق زيارة الآلاف من اليهود إلى معبد جزيرة "جربة" أنّ هناك أقليةدينية تونسية يهودية تشرف على المؤسسات الدينية اليهودية ومن بينها كنيس "الغريبة" وهي التي تنظم عملية الحج سنويًا، مؤكدًا أنّ المشكل يكمن في "قدوم يهود من إسرائيل للقيام بهذه الطقوس على أرض دولة لا تقيم علاقات دبلوماسية بإسرائيل، فالخلط بين الجانب الديني والجانب السياسي هو الذي يعطي للموضوع حساسيته لدى معظم التونسيين".


تونس: قال الدكتور عدنان منصر في حوار مع "إيلاف" من تونس أنه يلمس "توجهًا مرضيًا لدى بعض القطاعات بتحديد كل شيء بالنظر إلى إسرائيل، واعتبرها " ردة فعل غريزية لا تليق بالأكاديميين ولا بالمثقفين". كما تطرّق منصر، الذي ألف عدة كتب من بينها " المقاومة المسلحة في تونس" و" إستراتيجية الهيمنة : الحماية الفرنسية ومؤسسات الدولة التونسية"، إلى مسألة حضور الأكاديميين العرب في المؤتمرات التي يحضرها إسرائيليون وقال إن ذلك الحضور "لم يعد باهتًا ولا سلبيًا" ، وشدّد على أنّ الصهيونية ليست سبب مآسينا وإنما أحد تمظهراتها".

وفي ما يلي نصّ الحوار كاملاً



س : تحوّلت مناسبة إحياء اليهود لمقدساتهم في جزيرة "جربة" في كلّ عام، إلى مناسبة للمزايدات الإعلامية والسياسيّة، وتداخل المفاهيم واستعمالها في غير محلها من قبيل (تسامح / تطبيع) و(يهود/ إسرائيليون)..إلخ
لماذا برأيكم تطرح مسألة التطبيع مع الإسرائيليين في هذه المناسبة اليوم، ولم تطرح منذ سنوات بعيدة ؟ وماهي الحدود بين التسامح الديني والتطبيع ؟


ج : أعتقد أن الخلط بين التسامح والتطبيع نابع في أصله من الخلط بين اليهودية والصهيونية، أي بين النظر للمسألة من زاوية دينية طقوسية وبين النظر إليها من زاوية سياسية وإيديولوجية. بالنسبة لتونس يعاد طرح مسألة التطبيع سنويا تقريبا مع موسم حج اليهود إلى كنيس الغريبة في جزيرة جربة التونسية وفي مناسبات سياسية غير دورية مثل مؤتمر أممي أو دولي يعقد بتونس. من ناحية أولى يمكن النظر إلى المسألة كتعبير عن حالة تحفز شعبي لكل ما من شأنه أن يؤول كاتجاه رسمي نحو التطبيع، ولكن لا أعتقد أنها زاوية النظر الوحيدة الممكنة للموضوع.

هناك على سبيل المثال توظيف للمسألة لإحراج الأوساط الرسمية، وهو أمر لا ينبغي النظر إليه فقط من منطلق التجاذب السياسي الداخلي بين الحكومة وبعض تيارات المعارضة بل أيضًا من منطلق إيمان تلك التيارات بأهمية مواجهة كل سير نحو التطبيع. يجب أن يفهم الجميع أن الديانة اليهودية معترف بها في تونس وأنها قديمة الحضور، وأن هناك أقلية دينية تونسية يهودية تشرف على المؤسسات الدينية اليهودية ومن بينها كنيس الغريبة وهي التي تنظم عملية الحج المذكورة.

المشكل يكمن في قدوم يهود من إسرائيل للقيام بهذه الطقوس على أرض دولة لا تقيم علاقات ديبلوماسية بإسرائيل. هنا يصبح الخلط بين الجانب الديني والجانب السياسي مبررا إلى حد ما وهو الذي يعطي للموضوع حساسيته لدى معظم التونسيين. غير أن للموضوع بعدًا اقتصاديًا واضحًا أيضًا وهو أمر يجب وضعه في الإعتبار، فالسلطات تعتبر هذه المناسبة السنوية مصدرًا مهمًّا للعملة الصعبة السياحية، وربما أرادت إبراز الدلائل على أنها "غير متطرفة" في النظر لموضوع "الحريات الدينية" والأقليات، وتحسين صورتها لدى الدول الأجنبية.

ولا ينفي كل ذلك أن الموضوع يبقى شديد الحساسية في وسط تونسي كان تاريخيًا، وباستمرار، معاديًا للصهيونية التي تجسم اسرائيل كيانها الرسمي، ومتعايشًا مع أقلياته الدينية والعرقية بما فيها الأقلية اليهودية. وينبغي في نظري، ما دمنا نتحدث عن الحريات الدينية أن نسأل: هل تسمح إسرائيل للتونسيين بالحج إلى المسجد الأقصى وهو بالنسبة إلى المسلمين ذو أهمية دينية بالغة، وبالأعداد والدعاية نفسهما؟ لا أعتقد أن الإجابة ستكون بنعم، وهنا فإن القاعدة المعمول بها بين الدول هي التعامل بالمثل.




س : سلاح مقاومة التطبيع بدأ يفقد ألقه وجدواه - بحسب عدد من المتابعين - خصوصًا مع توقيع اتفاقيات السلام بين دول عربيّة وإسرائيل من جهة، ومع انتشار وسائل الاتصال الحديثة وانهيار الحدود والفواصل بين الدول.
كيف تقيّم تجربة أكثر من خمسة عقود من مقاومة التطبيع في العالمين العربي والإسلامي؟



ج : أصبحت مهمة مقاومة التطبيع مهمة شعبية وقومية وإسلامية منذ ثمانينات القرن الماضي، أي منذ عقد اتفاقية كامب ديفيد، وما تلاها من اتفاقيات وتفاهمات رسمية بين الدول العربية وإسرائيل، بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لا أعتقد أن هذا التحول قد أضر بموضوع مواجهة الصهيونية وإسرائيل بل إنه يحمل الموضوع من الأفق الرسمي المكبل ومحدود الفاعلية إلى الأفق الشعبي وهو أفق أكثر عمقًا وتحررًا وقابلية للإستمرار.

هل ننتظر من الحكومات أن تواجه اليوم إسرائيل؟


لا أعتقد ذلك، وحتى إن تم فإنه يبقى احتمالاً عديم الفاعلية، ولولا أحداث فلسطين ولبنان التي عطلت عجلة التطبيع الرسمي لكان لإسرائيل سفراء في كل العواصم العربية منذ مدة طويلة. ما يحصل هو تحول مقاومة التطبيع ومعاداة "الصهيونية" إلى هم شعبي، وهو ما يعطي في نظري لهذا التوجه قدرة على الإستمرار زمنيًا أكثر مما يعطيه موقف رسمي ما مهما كانت حدته. الشعوب لا تبيع ولا تشتري، أما الحكومات فإنها تفعل ذلك بصفة مستمرة، بل لعله سلوك مترسخ في طبيعة وجودها.

وهنا فإنني أعتقد أن العمل على ترسيخ هذا التوجه مسؤولية حتمية على كل المهتمين باستمرار هذا النفس زمنيًا وامتداه مجاليًا، وهو كفيل إن حصل، بأن يشكل ضغطا على الأوساط الرسمية وبموازنة الضغوط الأجنبية وربما عكسها تمامًا على المدى المتوسط. قد يكون عالم اليوم أقل حدودًا بين الدول، لكن هناك حدودًا لا تؤثر فيها العولمة وهي الحدود بين القيم التي تصنع وجود الإنسان وتعطيه صفته ككائن متعلق بالعدالة والكرامة، وهذه القيم لا تؤتمن عليها الحكومات مهما كانت وطنيتها.


س : موضوع ما يسمى "التطبيع الأكاديميّ والعلميّ" يثير جدلاً كبيرًا، مقارنة بالجوانب الأخرى للتطبيع، خصوصًا مع وجود خطط إسرائيلية متكاملة لاختراق صفوف الأكاديميين العرب من جهة، وتمسّك العرب بالمقابل بمقولة "الكراسي الشاغرة".
ما رأيكم في هذا السّجال، وهل من الضروريّ معاملة الأكاديميّين والباحثين كرجال سياسة؟ من مؤلفاته


ج : الأكاديميون ليسوا رجال سياسة وإن كانت السياسة هي أحد الأبعاد التي ينبغي أن يأخذوها بالإعتبار في نظرتهم للأشياء. من الجانب الإسرائيلي، لا شك أن هناك رغبة أكيدة في اختراق كل صفوف الممانعة لدى الشعوب العربية والإسلامية، وهو أمر طبيعي من منطلق كيان يشعر باستمرار أن وجوده مهدد على المستوى البعيد. مع ذلك ليست هذه هي الزاوية الوحيدة للنظر للموضوع. تكون إسرائيل سعيدة أكثر بغياب الأكاديميين العرب من المؤتمرات العلمية فهذا يعطي أكاديمييها حرية أكبر في الامتداد داخل الأوساط العلمية الدولية.

عندما ننظر في خارطة المؤتمرات العلمية الدولية منذ عشرين أو ثلاثين عاما، نلاحظ شيئين أساسيين: حضور متزايد للعرب من جهة أولى، ونمو في التعاطف الدولي مع قضاياهم وأولها قضية فلسطين. صحيح أن هناك عملاً طويلاً ينبغي مواصلة القيام به ولكن لنعترف أولا أن الملاحظتين مترابطتان، بل إن الثانية نتيجة للأولى، وهو أمر لا ينكره أي متابع لهذه المناسبات العلمية. هذا التعاطف لا يظهر فقط في المؤتمرات التي تتناول مسائل ذات صلة مباشرة بالموضوع بل في الحوارات الجانبية لمؤتمرات بعيدة في مواضيعها تماما علن المسائل السياسية.

يحتاج العرب إلى إبلاغ وجهة نظرهم تجاه كل المواضيع، وهو أمر لا يتسنى تحقيقه بالغياب، مهما كانت النوايا طيبة، وقضية فلسطين وحقوق شعبها هي إحدى هذه القضايا ولكنها ليست القضية الوحيدة. ما يقلقني شخصيًا هو هذا التوجه المرضي لدى بعض القطاعات بتحديد كل شيء بالنظر إلى إسرائيل، فإذا ذهبت يمينًا ارتمينا شمالاً، واذا اتجهت شمالاً ألقينا بأنفسنا يمينًا. هذه ردة فعل غريزية لا تليق بالأكاديميين ولا بالمثقفين وهم نخبة مجتمعاتنا الذين تناط بهم مهمة ليست أقل أهمية، وهي دفع الجمهور في اتجاه التعامل العقلاني مع قضاياه وتخليصه من الميل المفرط للتعميم والتبسيط.

من زاوية نظري كمؤرخ، أعتقد أن وجود إسرائيل يصبح مضمون الدوام إذا ما نجح في تشكيكنا في وجودنا كأمة ممتدة في التاريخ وإذا ما أصبح همنا الوحيد هو التموقع فقط بالنسبة إلى إسرائيل. عمر هذا الكيان لا يتجاوز العقود الستة، وهي فترة لا تصنع حضارة ولا تعد بالتواصل، خصوصًا إذا كان هذا الوجود مصطنعًا وفي بيئة ستبقى معادية على الدوام.

كعرب وكمسلمين لدينا مهمات أخرى حساسة وذا أهمية بالغة، وهي نشر التعليم وترسيخ الفكر النقدي ومقاومة الجهل والتخلف ودفع الحكومات إلى احترام حقوق شعوبها ونقل هذه الشعوب من وضعية الرعية إلى وضعية المواطنة، عندها يتم ذلك يحصل رشد سياسي عام وتصبح الحكومات معبرة عن الإتجاه الغالب لدى شعوب المواطنين تجاه اسرائيل وغيرها. ينبغي في نظري معالجة هذا الموضوع بصفة متكاملة وليس جزئية، على المستوى البعيد وليس فقط القريب.




س : يُعاب على بعض المُنتقدين لسياسة "الكراسي الشاغرة" أنّ حضورهم في ندوات أو مؤتمرات أو مُلتقيات إلى جانب إسرائيليين ، عادة ما يكون حضورًا باهتًا وسلبيًا كونهم لا يُدينون إسرائيل وسياساتها، ولا يُحرجون مُمثليها في تلك الملتقيات ، وأنهم لم "يقتدوا" برئيس وزراء تركيا أردوغان وحادثته الشهيرة في "دافوس".
ما تعليقكم ؟


ج : هذه النظرة هي أكبر تعبير عن الخلط في النظر إلى المسألة. عندما نتحدث عن مؤتمرات أكاديمية ينبغي أن تكون نظرتنا أكثر شمولية. فعلى سبيل المثال، ما علاقة مؤتمر حول الغطاء النباتي أو طبقة الأوزون أو كيمياء المعادن أو هجرة الدلافين بإسرائيل؟ هذا أمر مثير للإستغراب على أقل تقدير.

هناك مؤتمرات تقترب من الشأن السياسي أو يتاح فيها التعرض إلى أمور سياسية، هنا فإن التعبير عن المواقف العربية يصبح أمرا مطلوبا، دون أن يعني ذلك تحول الأكاديميين إلى "أردوغانات"، ففي الأمر خلط لا ينبع إلا من نظرة شعبوية وديماغوجية مرضية ومن عدم إدراك للكيفية التي تنظم بها هذه المؤتمرات وطريقة سيرها. يأخذ كثير من المنتقدين الأمور بمظاهرها وعذرهم الوحيد هو تحمسهم للقضايا العربية بطريقة تجعلهم غير معنيين بالفهم، لذلك فهم يتخذون موقفًا ثم يبحثون عن المبررات، وفي بحثهم عن المبررات لا يستطيعون بناء خطاب متماسك، ذلك أن همهم الوحيد يصبح المعارضة للمعارضة.

الغريب هو أن قسمًا من هؤلاء يعتبرون أنفسهم أوصياء على الأكاديميين، فيتفضلون عليهم بالنصائح والتوجيهات. كان من الأجدر بهم قبل التوجه بها أن يتخلوا عن منطق الوصاية، فهو منطق خاطئ أصلاً، فليسوا أكثر وطنية وإن حاولوا أن يوحوا بذلك، وليسوا أكثر علمًا وتجربة ممن ينتقدونهم. قد تنطلي الشعبوية والديماغوجيا على قسم من الناس، وقد لا يملك المنتقدون من البضاعة إلا ذلك للأسف، وقد تكون انتقاداتهم في حالات أخرى من الرغبة في تصفية حسابات سياسية رخيصة، لكن اعتقادهم أنه بإمكانهم أن يرهبوا الأكاديميين بذلك هو اعتقاد سخيف.

حضور الأكاديميين العرب في المؤتمرات التي يحضرها اسرائيليون ليس باهتًا، وليس بمثل هذه السلبية، وهناك اعتراف متزايد بالإضافات التي يقدمونها وبالمواقع التي ما فتئوا يحتلونها على المستوى العلمي الدولي، وهو اتجاه مرشح للتصاعد. الصورة ليست بمثل هذه السلبية مطلقًا. نقطة أخرى أود الإشارة إليها، وهي مسألة الحريات الأكاديمية. إذا كانت هذه الحريات غير مضمونة فلا شيء مضمون على الإطلاق. الغريب أنه في وقت فهمت فيه الحكومات، حتى أكثرها ديكتاتورية، أن هذه الحريات أمر يجب التعامل معه، يصعد أوصياء جدد في كل مرة يعلمون الأكاديميين ما يجب عليهم فعله.

رأيي الخاص أن على الأكاديميين أن يواصلوا القيام بما يعتقدون أنه واجبهم، وألا يلقوا أذنًا إلى الإتهامات التي يناقض أصحابها أنفسهم، خصوصًا إذا كان هؤلاء من غير المؤهلين إطلاقًا لتقديم النصائح فضلاًعن أن يكون لاتهاماتهم أي صدى يفخرون به. لينفق هؤلاء وقتهم في أشياء أكثر قيمة، وليفهموا أولاً أن الوقت سلاح، وأن الديماغوجيا العقيمة لا تثمر إلا ترسيخًا للجهل.

س : كل هذا يحيلنا إلى البعد العربيّ في مسار الصراع في فلسطين، فمنذ أكثر من نصف قرن والعرب حكامًا وشعوبًا يعتبرون القضية الفلسطينية قضيتهم الأولى، وعلى الرغم من ذلك فإنّ تدخلهم وفق آليات ومناهج وطرائق متعدّدة، لم يمنع تفوّق الإسرائيليين ولا خسارة المزيد من الأراضي على حساب الاستيطان، ولم يتمكنوا بالمقابل من كسب الدعم الغربيّ والدوليّ لما ينادون به.
برأيكم أين هو الخلل بالضبط، هل هو في تدخّل العرب في حدّ ذاته أم في طريقة هذا التدخّل؟ أم في سقف المطالب والتي تبدو لبعض "البراغماتيين" مستحيلة وغير قابلة للتحقيق مع اختلال موازين القوى على الأرض؟



ج : منذ أكثر من نصف قرن أيضًا تتعامل الحكومات العربية مع قضية فلسطين بأقصى درجات الإنتهازية وتسخرها لخدمة أجندات لا علاقة لها بفلسطين وبحقوق شعبها، منذ أكثر من نصف قرن أيضا وهي تقمع شعوبها باسم فلسطين، وترمي بهم في أحضان السيطرة الأجنبية باسم عقلانية التعامل مع قضية فلسطين. أما الشعوب فهي تعتقد في غالبها أيضا، ومنذ أزيد من نصف قرن، أن قضية فلسطين تبرر تأجيل معاركها من أجل المعرفة والحريات والمواطنة والتعددية.

الخلل في هذه النظرة للأشياء، وهي مسؤولية مشتركة بين الحكومات والشعوب على حد سواء. هناك مقومات صمود نفتقد إليها، وسنظل كذلك طالما كانت نظرتنا تجزيئية للموضوع. نشوء اسرائيل كان نتيجة مخاض تاريخي طويل في أوروبا وكذلك محصلة عمل منظم وواع، من قبل القادة الاسرائيليين، بنجاعة الفكر العقلاني الذي جعل اللائكيين منهم يقودون المتدينيين نحو تحقيق هدف قومي تم الإعداد لنشره في صفوف اليهود بجميع أنحاء العالم بوساطة هياكل شفافة وعن طريق جهد جماعي لا يلغي التعدد في الآراء ويحتكم إلى الكفاءة ويزن نفسه بميزان النتائج الموضوعية.

لا يمكن هزم هذا المشروع بالإنتهازية السياسية من جانب حكومات لا تهتم سوى لأمن أنظمتها واستمرار استبدادها، ولا بالخطابات الديماغوجية العقيمة المتصاعدة كحشرجات جسد متحلل، لا ترقى للأسماع وان ارتقت فإنها لا تستقر فيها طويلاً، فهي كنار القش تنطفئ بسرعة دون أن تضيء أو تدفئ.

هناك عمل يستطيع إنجازه كل واحد منا، وهو اتقان عمله والقيام بواجباته كما تتطلبه منه، المعلم في فصله، والعامل في مصنعه، والمهندس على آلته، والعالم في مخبره...، فالصهيونية ليست سبب مآسينا وإنما أحد تمظهراتها، فمأساتنا أكثر عمقًا.

المسار طويل، لأن كل بناء يستغرق وقتًا، ونحن نبدأ مجددًا من شبه الصفر، فوحده العمل طويل المدى كفيل بتحقيق نتئج دائمة المفعول. بالموازاة مع ذلك ينبغي نشر فكرة ارتباط الحقول والحقوق ببعضها البعض، فالدفاع عن قيم الحرية وترسيخ ثقافة المواطنة ليس أمرًا مستقلاً عن الكفاح الطويل المدى من أجل فلسطين وغير فلسطين، ومن أجلنا نحن جميعًا. بالموازاة مع ذلك أيضًا لا أعتقد أن اختلال موازين القوى يبرر الرضوخ لإرادة الطرف الأقوى بتحالفاته الدولية وبترسانة الأسلحة المتوفرة لديه، هناك حد أدنى من الممانعة لا يجب النزول تحته، في انتظار تغير التوازنات، وهي ستتغير حتمًا، فذلك حكم التاريخ.


الحوار عبر "إيلاف" الإلكتورنية هنا :