dimanche 12 septembre 2010

تونس: اليأس من الجمهورية يعيد الحنين إلى الملوكية



تونس: اليأس من الجمهورية يعيد الحنين إلى الملوكية

(عدنان المنصر، مؤرخ جامعي، تونس)

تحتفل تونس سنويا بعيد الجمهورية الذي يوافق يوم 25 جويلية من كل عام. ففي مثل ذلك اليوم من سنة 1957 أعلن المجلس القومي التأسيسي إلغاء النظام الملكي وإحلال النظام الجمهوري محله، فعزل الباي محمد الأمين ووضع مع عائلته قيد الإقامة الجبرية بإحدى ضواحي العاصمة تونس، في حين عين الزعيم الحبيب بورقيبة، الذي كان إلى حد ذلك اليوم رئيس حكومة الباي، رئيسا مؤقتا للجمهورية إلى حين الفراغ من إعداد ذات المجلس للدستور وتنظيم انتخابات 1959 التي سيكون المرشح الوحيد فيها لمنصب الرئاسة، وهو منصب سيظل يشغله إلى حين الإطاحة به صبيحة يوم 7 نوفمبر 1987.

يستعيد التونسيون اليوم، ومنذ بضع سنوات بصفة خاصة، تاريخ هذه الفترة من تطور النظام السياسي في بلادهم، وهو أمر يعود في الجزء الظاهر منه إلى بث القنوات التلفزية، غير التونسية دائما، أشرطة وثائقية تتناول جوانب من تاريخ دولة الاستقلال في تونس. وبالنظر إلى أن التونسيين يهجرون منذ زمن طويل قنواتهم "الوطنية"، فقد أضحى تتبع هذه البرامج بل وأحيانا اقتناصها وتحميلها ثم وضعها على الشبكات الاجتماعية على الأنترنات، أو بيعها بعد استنساخها في محلات ترويج الأقراص المضغوطة بأثمان بخسة، فرصة لعودة التاريخ التونسي إلى البيوت والمجادلات بين الأفراد والمجموعات بغض النظر عن مستوى الثقافة التاريخية للمتجادلين. ما يلمسه المتابع بوضوح منذ زمن قصير هو أن عودة الاهتمام بالتاريخ بين التونسيين تتزامن مع غياب كامل للمضامين التاريخية في وسائل الإعلام الرسمية بل حتى تخفيف وأحيانا تغييب هذه المضامين التاريخية من برامج التدريس، مما يجعل من التونسيين يولون وجوههم شطر مصادر المعلومات البديلة وخاصة منها التي تقدم مضمونا جديا يكون في غالب الأحيان نتاجا لمجهود بحثي محترم في أدنى الحالات. وحتما فإن الأشرطة الوثائقية التي تزاوج بين الصوت والصورة، في قالب فني يراعي مقتضيات الإخراج والتأثير في المتلقي، يصبح مكتسيا لأهمية بالغة في عصر سيطرة الصورة والأنترنات.

ومثل ما أحيا شريط "اغتيال حشاد" (الذي أنتجته قناة الجزيرة وبثته) الجدل حول الزعامة الوطنية في تونس وقضايا الذاكرة، مطلقا الجدل من جديد حول دور الحركة النقابية التونسية في تحقيق الاستقلال وتأسيس مشروع الدولة الوطنية، مع ما يقتضيه ذلك نظريا من المشاركة في صياغة السياسة الاقتصادية والاجتماعية العامة في البلاد، فإن شريط "بايات تونس" الذي أنتجته جهات إعلامية فرنسية بمناسبة خمسينية إعلان النظام الجمهوري في تونس ووقع بثه لأول مرة سنة 2007، والذي يعود للرواج بكثافة بين التونسيين في كل موفى شهر جويلية من كل سنة، أعاد الجدل مجددا حول طريقة تعامل نخبة الجمهورية مع النظام الملكي وأثار التعاطف، لدى بعض القطاعات، مع ما تعرض له أمراء العائلة الحسينية من سوء معاملة بلغت حد التشفي أحيانا غداة، بل وحتى قبل سقوط النظام الملكي.

لقد أنهى إعلان الجمهورية في 1957 حكم البايات الحسينيين في تونس الذي تأسس منذ سنة 1705، مما يعني استمرارية تاريخية فاقت القرنين والنصف من الزمان، وهو عمق تاريخي كاف لتأسيس شرعية تستند إلى الاستمرارية، بغض النظر عن المضمون التاريخي لهذه الاستمرارية: وإذا ما عدنا إلى مسألة المضمون تلك، وجب التذكير بأن هذه الأسرة الحاكمة التي وافق رئيسها محمد الصادق باي في سنة 1881 على دخول القوات الفرنسية المحتلة واستقرارها بالبلاد منخرطا في سياسة تهدف إلى وضع حد للمقاومة التي شنتها القبائل وبعض المدن على الفرنسيين، هي نفس الأسرة التي دعمت حركة الإصلاح الثقافي والسياسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تلك الحركة التي جعلت تونس أول بلدان العالم الإسلامي التي تلغي الرق، قبل أن تمنحها أول دستور مكتوب يستند إلى مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالها مع ما تقتضيه الأنظمة الحديثة من ضمانات للأفراد في وجه جبروت السلطة التنفيذية. كل ذلك لتلخيص فكرة بسيطة في ظاهرها ولكنها كثيرا ما وقع تناسيها من قبل "النظام الجمهوري" في تونس وبالأخص خلال فترة حكم الزعيم الحبيب بورقيبة، وهي فترة لم يضاهها زمنيا حكم أي باي من بايات العائلة الحسينية تقريبا: أن النظام الجمهوري لم يؤسس لتونس الحديثة ولم يبدعها، وأنه لا يمكن التغاضي عن طابع الاستمرار بين التجارب السياسية التي شهدتها البلاد في العهد الأخير من حياتها.

من الضروري هنا أن نشير أن نخبة الاستقلال، تلك التي أنشأت الجمهورية وشيدت نظامها، بنت شرعيتها التاريخية باستمرار بالاستناد إلى فكر النهضة الحديثة في تونس واعتبرت نفسها تواصلا للحركة الإصلاحية التي وقع تدشينها منذ منتصف القرن التاسع عشر (والتي كان الوزير خير الدين التونسي والجنرال حسين، إضافة إلى المؤرخ أحمد بن أبي الضياف والشيخ محمود قبادو وغيرهم من المصلحين) تناست باستمرار أن تلك الحركة الإصلاحية لم تكن لتشهد انطلاقتها لولا مساندة البايات لروادها واحتضانهم لمبادراتها، مما يجعل من حركة إعلان الجمهورية في الواقع تواصلا لحركة تاريخية ينبغي تأصيلها في إطار حركة فكرية وإصلاحية احتضنها البايات. طيلة عقود ثلاثة على الأقل من حكم الزعيم بورقيبة وقع تجاهل ذلك تماما، بل وأسند بعض المؤرخين الرسميين هذه القراءة الانتقائية للتاريخ بإعطاء غطاء أكاديمي لقفزة بهلوانية كبيرة اتساعها قرنان ونصف القرن من الزمان. في السياق نفسه، وفي إطار البحث عن شيء من العمق التاريخي، عاد الحديث في السنوات التي أعقبت الإطاحة بالرئيس بورقيبة عن العائلة الحسينية، ولاحظ المتابعون الفطنون تركيز الدعاية الرسمية على لقب مؤسس العائلة الحسينية، الحسين بن علي، للإيحاء بفكرة لم يتم التصريح بها أبدا، فكرة أن نظام ما بعد بورقيبة أكثر عمقا تاريخيا من نظام بورقيبة السابق، بل ومن الجمهورية نفسه، لمجرد تشابه في الأسماء لم ينطل على معظم الناس. منذ ذلك الوقت تم التغاضي عن إيحاءات من هذا القبيل، وعوضت بعبارات نجدها مكتوبة اليوم في اللافتات التي يقع تعليقها بكثافة بمناسبة الأعياد والذكريات الوطنية، وهي عبارات تجعل من رئيس الدولة الحالي رائدا من رواد الإصلاح وتواصلا لتجربة التحديث التي دشنت في منتصف القرن التاسع عشر، وتقفز على استحياء على تجربة الثلاثين عاما التي عرفتها البلاد في عهد الزعيم الراحل. ما يهمنا هنا ليس المضمون مطلقا، وإنما هذا الاستخدام الفج وغير البريء للذاكرة، وتطويع التاريخ عبر قراءات عشوائية ولكنها غير مرتجلة، تعتمد الإيحاء أكثر من التصريح، وتمس اللاشعور أكثر من الشعور. حتما إن للتاريخ دائما بهلوانييه الذين يأتون، في معظم الأحيان من عالم السياسة، ويسعون لتطويع الذاكرة لمقتضيات السياسة السفلى والعليا على حد سواء. ورغم ممارسته على أوسع نطاق، فإن هذا المنحى يتجدد كل مرة بنفس الإصرار، وبنفس الأهداف المعلنة والخفية.

في مقابل ذلك، تستعيد بعض الأوساط المتعاطفة مع الملوكية، مستغلة في ذلك يأس المحبطين من الجمهورية، الفرصة للعودة من جديد والتأكيد على طابع الضحية وسياسة الانتقام التي مورست على العائلة الحسينية بعد إعلان الجمهورية. هذا المنحى ليس أقل حرصا على نقاء الذاكرة التاريخية من غيره ممن وصفنا سابقا، وهنا فإن الأمر يحتاج إلى توضيح يعيد الذاكرة إلى نفسها والتاريخ إلى ذاته المتعالية- نظريا -عن قراءات المصالح والظرفيات المتغيرة. بالعودة إلى شريط "بايات تونس" لا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ تركيز الشريط، الذي مولته أطراف متعاطفة مع الملوكية وانتقي من مشاركات المؤرخين فيه (وقد كنت أحدهم) ما يتلاءم مع القراءة التنصيعية لتاريخ هذه الأسرة، ميله إلى إدانة النظام الجمهوري ليس من منطلق فشله في تحقيق الكثير مما وعد به التونسيين من فصل بين السلطات، وتوسيع لدائرة الحريات، وترسيخ لمبدأ التداول والشفافية في الحكم، وإنما من منطلق الخسارة الفادحة التي أصابت التونسيين جراء إنهاء قسري لحكم لا تعوزه الشرعية التاريخية. وقد هال الملاحظين المطلعين الذين شاهدوا هذا الشريط تصوير بعض المشاركين من ذوي الصفة الأكاديمية (ومن غير المؤرخين بالخصوص) الأمر على أنه كان قرارا شخصيا من الزعيم بورقيبة للاستئثار بالحكم وتأسيس نظام هو مزيج بين الملوكية والجمهورية اصطلح الظرفاء على تسميته بالجملوكية. يتناسى هؤلاء، ولا ينسون، أن القرار كان قد صدر عن المجلس القومي التأسيس المنتخب من طرف التونسيين والذي كان ممثلا للسيادة الشعبية غداة الاستقلال، رغم أن صلاحياته الدستورية كانت تتوقف أصلا على وضع دستور للبلاد الخارجة لتوها من استعمار فرنسي دام ثلاثة أرباع القرن. ولكن مشاهدي الشريط يمكن أن يلاحظوا تركيزه اللاواعي على نقطة أخرى وهي مسألة نهب أملاك الأمراء الحسينيين من قبل الدولة الجديدة وأعوانها التنفيذيين. ليس لذلك أهمية كبيرة تاريخيا، فالاختلاس وسوء التصرف ليسا من النقائص التي تدين في العمق نظاما جمهوريا ناشئا، حيث يمكن باستمرار وضع الأمر على عاتق التصرفات الفردية والتجاوزات غير المتوقعة، بالرغم من أن ذلك تم على نطاق واسع. ما يفضحه التركيز على هذه النقطة بالذات من زاوية نظر المؤرخ المهتم هو غياب أي فكر سلالي لدى أمراء العائلة الحسينية، فالملوكية حالة ذهنية قبل أن تكون جواهر وعقارات، وهي نوع من الإعتزاز بشرعية تاريخية ارتبطت بمسيرة نشأة دولة وشعب عبر قرون من الحرص على المصلحة العامة وحماية البلاد من الأخطار المهددة لها، وبصفة خاصة تلك القادمة من وراء البحار في شكل غزو أو استعمار، وهو أمر لم يحصل لسوء حظ تلك السلالة. في لقاء لي مع عدد من أبناء وأحفاد آخر البايات بالمغرب الأقصى، حكمت الصدفة كثيرا من تفاصيله، راعني أن السؤال الذي كان يتكرر علي باستمرار وإلحاح من قبل الجميع دون استثناء هو ذلك السؤال الفاضح: "أين ذهبت أملاكنا وكيف يمكن استعادتها؟" إذا لم يبق لدى سلالة مالكة سابقة من هم سوى الجواهر والأراضي، فإن سوء فهم كبير يزول بالضرورة، لتتوضح الصورة أكثر فأكثر: هل كان هؤلاء جديرين بالفعل بالبقاء على سدة الحكم بعد زوال الاستعمار الذي سهلوا استقراره وكانوا له أكبر معين على حكم شعب كان يفترض أنه شعبهم، طيلة ما يناهز القرن، بعد أن أذاقوه من صنوف القهر ألوانا طيلة كل الفترة التي سبقت حلول الاستعمار؟

ما يثير الانتباه أكثر من ذلك هو انخراط صنف آخر من التونسيين في نفس مسار الحنين ذاك، من منطلق اليأس من الجمهورية والقنوط من الحصول على الضمانات التي وعدت بها عند تأسيسها، نصف قرن وأكثر بعد الإعلان عنها. وهذا في الحقيقة أخطر المسارات على الإطلاق، بالرغم من المنطق الذي يستند عليه، والمقارنات التي يقوم عليها. هل أضحت الملوكيات، وبخاصة الدستورية، ضمانة حريات أكثر من الجمهوريات؟ هذا سؤال مرير بعد خمسة عقود من التجرية الجمهورية في تونس، وكل الفكر الذي صدر حولها والأدبيات التي أنتجتها. حتما، لا خوف من الحنين لأنه لم يؤسس يوما نظاما ولم يلغ آخر قائما، إنما الخوف من اليأس الذي قد يحطم ما هو موجود دون بديل حقيقي.

من منطلق سياسي، يمثل عودة الجدل حول طبيعة النظام الجمهوري وحدوده ومكاسبه أمرا محمودا‘ إذ أنه يدل على وجود حركية فكرية وسياسية تغذيها تجارب الدولة وأخطائها وتوقعات المحكومين منها، وحماسهم أو يأسهم، بحسب الحالات. أما من منطلق تاريخي، واستنادا إلى أهمية الذاكرة في بناء المخيال الجماعي، فإنه ينبغي القطع مع النظر إلى التاريخ كحلقات منفصلة عن بعضها البعض وكتوق متواصل إلى البناء الذي لا يستوي إلا على هدم ما كان موجودا. ما يسميه البعض مصالحة الناس مع تاريخيهم أمر ملح، لأن الأمر يتعلق ببناء ذاكرة قادرة على التعامل مع محطات تاريخها، الماضية والحاضرة والآتية، بنوع من التنسيب الضروري لمواصلة طريق لا يزال طويلا. هذا الأمر لا يستقيم مع القراءات الإنتقائية التي تعتقد بعض المصالح أن السياسة تبررها، وهنا فإن على البعض أن يتوقفوا على تجميل حصان طروادة الذي إن استقر داخل أسوار الذاكرة فإنه يحطمها ويحيلها صحراء قاحلة.


نشر في الجزيرة,نت

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/CB2A2772-DC97-45AC-956D-918914422856.htm

Aucun commentaire: