samedi 10 janvier 2009

غزة غراد... وعرب الإعتدال

غزة غراد... وعرب الإعتدال

عدنان المنصر



مقال صادر بجريدة الموقف التونسية بتاريخ 9 جانفي 2009



حصل أخيرا ما كان في دائرة المتوقع منذ مدة طويلة. لا يتعلق الأمر بالعدوان الذي تشنه اسرائيل على قطاع غزة منذ حوالي الأسبوعين، فهذا العدوان لم يتوقف مطلقا منذ أزيد من ستين عاما وأصبح خبز أهل فلسطين اليومي منذ جيلين على الأقل، بل بشكل الرد الذي وجده ذلك العدوان، في حلقته الراهنة، من صمت مريب لدى الدول التي "تقود" العالم العربي ولدى فئات معينة ممن يفترض أنهم مثقفون ملتزمون بقضايا الحرية والعدالة وكل "القضايا الإنسانية النبيلة".

لا أحد يحسد حكام مصر اليوم على الموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه بل وأوجدتهم فيه جغرافيا قاسية. نفس الوضع تقريبا مر به حكام الأردن منذ بضع سنوات أثناء الحصار الذي سلط على الضفة الغربية والذي انتهى بتسميم عرفات. كانت نهاية عرفات تلك أكبر انتصار حققته الدول العربية "المعتدلة" منذ امضاء أول اتفاقيات "سلام" بين العرب وإسرائيل. وللتذكير فإن كلا من الضفة الغربية وقطاع غزة كانتا من غنائم حرب الأيام الستة فازت بهما إسرائيل، يا لسخرية الأقدار، على حساب مصر والأردن بالتحديد. منذ ذلك الوقت لم يحدث شيء فعال لمنع تعميق اختلال ميزان القوى بين الكيان الناشئ من جهة وكل العرب من جهة أخرى إلا والتف حوله "المعتدلون" لإفشاله. معتدلو اليوم هم فاشلو الأمس، هذا أمر لا مراء فيه مهما بلغت المساعي لجعل ذلك الأمر نسيا منسيا. كان عليهم إذ قرروا أن لا فائدة من الحرب أن ينزلوا النسور من على راياتهم ويجعلوا مكانها حماما أبيض، وأن يبدلوا اللون الأحمر القاني فيها بأحد مشتقات الأزرق الوديع.

لا أحد يقدر أن يعيش كامل حياته منافقا، فالنفاق لا يكون إلا تكتيكا لمرحلة. لذلك فإن هؤلاء ليسوا منافقين مطلقا وهم بتعرضهم المتواصل لهذه التهمة يعيشون ظلما من الضروري تحريرهم منه. هؤلاء أصحاب قضية بالفعل، وقضيتهم هي "الإعتدال" غير أن عيبهم الوحيد ربما هو تطرفهم فيه. يحلو للبعض منهم رغم ذلك أن يستذكر ماضي خدمته العسكرية وأن يخرج من أدراج الزمن زيه القتالي وأن يفتخر بانتمائه لسلاح الطيران. ذهب كل شيء منذ وقت طويل ولم يبق من أندلس سوى ذكراها. يجاهد هؤلاء كثيرا منذ أزيد من ثلاثة عقود لنشر تصورهم عن "سلام" لم يفتأ منذ ذلك الوقت يزداد ابتعادا. من المثير ملاحظة الشبه الشديد في مواقف هؤلاء من كل المواجهات التي حصلت منذ 1978، وسواء كان في الصورة ثوريون علمانيون أو شيعة ملتزمون أو سنة تقطعت بهم سبل التاريخ، فإن رد الفعل كان دائما نفسه. في كل المراحل كان أبناء "أم الدنيا" الرسميون يرفضون أن "يزايد عليهم أحد" في وطنيتهم وانتمائهم القومي وينجحون، دائما أيضا، في العثور على مسوغ استراتيجي يغطي عورة الموقف. ذهب الإتحاد السوفياتي إلى غير رجعة وذهبت الأنظمة القومية التقدمية وذهبت معها منظمة التحرير فكان ذلك فألا حسنا "للإعتدال". منذ ذلك الوقت والمعتدلون يبحثون وراء الأكمات ويعثرون دائما، يا للمصادفة، على إيران. أصبح الشيطان أخضر بعد أن كان أحمرا، ولكن الخضرة درجات.

من المهين أن مصر التي استطاعت تكتيل العالم العربي وراءها في هبتها القومية الرائدة قبل بضعة عقود تفقد منذ ذلك الوقت أسس أمنها القومي والقطري وتسقط بتطرفها في الإعتدال كل الأوراق حتى أصبحت بكاملها عورة مثيرة للخجل. جعل التطبيع مصر أكثر ضعفا ولم يغنم منه المصريون سوى المزيد من الفقر والمهانة ومنذ حرب لبنان 1982 لم يفعل حكامها سوى التفريط في عمقها القومي والإستراتيجي. أضعفت مصر العراق بعد أن دفعت به إلى أتون حرب مدمرة ضد إيران ثم كانت من ضمن من أجهز عليه، كما أضعفت منظمة التحرير وياسر عرفات. نتذكر جميعا خزي الموقف الرسمي المصري تجاه ياسر عرفات المحاصر في المقاطعة، ولم يكن ياسر عرفات من حماس ولا من الجهاد. ونتذكر أيضا الموقف الأكثر خزيا من الهجوم الإسرائيلي على لبنان في صائفة 2006. من سوء حظ مصر أن محاولاتها الدؤوبة للحد من النفوذ الإيراني في العالم الإسلامي لم تزد ذلك النفوذ إلا تعاظما ولكن أكبر مصائب مصر على الإطلاق هو فقدان أي دور هام لها تجاه الصراع المحتدم في فلسطين. حتما ليست إيران وحدها الرابحة من تراجع مكانة مصر فتركيا العائدة بقوة إلى الساحتين العربية والإسلامية من أكبر المستفيدين من ذلك التراجع. شيئا فشيئا يفلت العالم العربي من بنيه تحت ضغط "الأعاجم" العائدين من أعماق التاريخ. "إن تركيا لها تاريخ في هذه المنطقة وعليها مسؤوليات"، يلخص هذا التصريح لأوردوغان تلك العودة، ولن يمر وقت طويل حتى يجد عرب الإعتدال أنفسهم دون بضاعة يعرضونها في سوق السلام.

بنفس العجز عن الفهم يدار الوضع الداخلي. يخضع سبعون مليون شخص إلى سطوة الأحكام العرفية منذ حولي الثلاثة عقود ويتصرف الحكم وطغمته في مقدرات البلد كقوة احتلال مع ميل واسع إلى ارتكاب جميع المنكرات الإنتخابية. عندما يتقيأ رئيس أكبر دولة عربية ويتغوط وزير خارجيته بما سمعنا من كلام نفهم بشكل شديد الوضوح المعنى الذي يعطيه هؤلاء للإعتدال فلا تعود لنا أية شكوك فيما يدفع القوم: هؤلاء ليسوا منافقين ولا خونة، هؤلاء جزء أساسي من حركة العدوان التي تقودها إسرائيل. وكما أن الدجاجة لا تفرخ إلا صيصانا، فإن الإعتدال لا يفرخ إلا معتدلين والإستبداد سوى مستبدين والفساد سوى فاسدين. إن قدرة نظام معين على الإستمرار لثلاثة عقود لا تفسر إلا بطبيعة التحالفات التي استطاع نسجها طيلة مسيرته "المظفرة". تتجاوز تلك التحالفات حدود الوطن والإقليم ولكن أكثرها فعالية تلك التي نسجت في الداخل. يتجمع حول النظام سديم من المنتفعين، رجال أعمال مثقفين، رجال دين، ممثلين...إلخ، ويضع كل منهم خبراته وقدراته تحت تصرفه فتبدأ عملية تشييد عالم مواز للعالم الواقعي. ينشئ الفساد عالمه الخاص الذي يزداد ابتعادا عن العالم الحقيقي وسيطرة عليه في الوقت نفسه.

نفتقد في هذه الأيام شيخ الأزهر وغباءه المتصنع. الرجل ليس غبيا كما يريد أن يبدو عليه. أي مثال للمسلمين يقدمه "الزعيم الشرعي للإسلام" (الذي يرى في نفسه، لشدة حمقه، ندا لبابا الفاتيكان) عندما يكذب على الملأ ثلاث كذبات في ثلاثة أيام؟ وبقدر ما أنه ليس غبيا فالرجل ليس منافقا أيضا، أما إيمانه وشدة تمسكه بتعاليم دين لا يشجع على الكذب، فذلك أمر ليس من شأننا. يقدم الرجل صورة للإسلام تحت الطلب ويستنجد به في كل مرة للتغطية على بعض العورات. أما في الجهة الأخرى من الصحراء فلا يفعلون ما هو أفضل فقد أفتى كبيرهم، الذي يعلمهم السحر، بأن المظاهرات المنددة بالعدوان على غزة هي من قبيل الفساد في الأرض لأنها تمنع العمل المنتج وتعطل العبادات. من تحت الألحاد يستنشق إسلام الأمراء رائحة الحياة ويستجمع قواه للوثبة الأخيرة. من المخزي للمعتدلين أن يكون الإسلام الذي يدافع عنهم من النوع المنتهية صلاحيته التاريخية، فذلك يبشر دون أدنى شك أنهم، مثله تماما، أصبحوا خارج التاريخ. يقوم الرجلان بالدور المطلوب بكثير من الحماس الذي لا ينافسهما فيه سوى بعض "الزعماء" من قدامى "المشاغبين". نكتشف منذ فترة قدرة كوميدي مثل عادل إمام على التحليل السياسي والإستراتيجي ولا نملك إلا أن ننحني تقديرا لفطنة من أولى مهمة الدفاع عنه لأمثال ذلك الرجل.

ينخرط الجميع في مجهود جبار لتطويع الرأي العام الذي لا يريد أن ينسى "الأهل في فلسطين". ما هو منسوب الغضب ضد الديكتاتورية في المظاهرات التي خرجت في كل مكان للتعبير عن التضامن مع غزة؟ تلك المظاهرات لم تظهر فقط حجم "التعاطف" مع قضية العرب والمسلمين الأولى بل أظهرت أن هناك رأيا عاما ميالا للتمرد على السياسات التي تنتهجها قياداته الرسمية، وقد فهمت تلك القيادات الأمر على هذا النحو بالضبط. ما يخيف بالفعل، من منظور تلك القيادات، أن الفضاء العمومي قابل للسقوط في يد الجماهير السائبة في كل لحظة رغم كل الجهود التي وقع القيام بها من أجل حصر هذا الفضاء والتضييق عليه بل وإلغائه تماما في بعض الأحيان. كم هي قاسية المعركة التي تتم على الفضاء العمومي اليوم، لا ينافسها قسوة سوى ما يتم على أرض غزة. لا يراد لتلك الجماهير أن تتعود على الغضب ولو كانت الذريعة تبعد آلاف الأميال، فالتاريخ لا يؤتمن جانبه. وذلك هو بالفعل ما فهمته القيادات ، ولكن ينبغي توفر أشياء أخرى غير الفهم لتغيير مسار الأشياء.
مسار الأشياء، ذلك هو الخيط الذي ينبغي التمسك بتتبعه في زحمة الأحداث المتسارعة. من أصدق ما قالته تسيبي ليفني على الإطلاق في معرض تعليقها على المظاهرات الضخمة التي خرجت تندد بالعدوان على غزة في كل العالم العربي، أن "العرب يثبتون كل يوم أنهم ضد السلام". نعم، العرب ضد السلام الذي يصادر حقوق شعب محتل في الأرض والكرامة وليس من قوة على الأرض، ولا في السماء، يمكن أن تقهر إلى ما لانهاية توق الشعوب إلى التحرر. من حسن الحظ أن هناك شيئا اسمه إسرائيل يذكرنا بهذا القانون التاريخي الصارم وبأننا فلسطينيون عندما ننسى ذلك. لا أفق لسلام من النوع الذي يروج له عرب الإعتدال، فإسرائيل تتكفل تطوعا بإغلاق كل المنافذ الممكنة أمامه. أصبحت إسرائيل، بقيادتها لعرب الإعتدال في التصدي "للإرهاب" و"بتطابق المصالح النادر" بينها وبينهم، زعيمة النظام الرسمي العربي، وهذا في حد ذاته يعطي لمظاهرات المساندة لغزة بعدا جديدا آخر. يثير الأسف استيعاب الدعاية الصهيونية التي تجعل من المقاومة عملا مرتبطا بحركة حماس، لأن الهدف من ذلك هو استعداء قطاعات مؤثرة في الرأي العام العربي والدولي ليس للحركة بحد ذاتها ولكن للمقاومة كمنطق وكإستراتيجيا، فقد استعمل نفس المنطق وسادت نفس المبررات خلال مراحل طويلة من الصراع، عندما كانت حماس لم تولد بعد. لم تمر على إنشاء دولة إسرائيل سوى ستون عاما، ومع ذلك فإنها تبدو وكأنها في خريف عمرها ولن ينفعها تعويلها على خدمات المعتدلين شيئا على المدى المتوسط والطويل. فمنذ إمضاء أول اتفاقيات سلام قبل ثلاثين عاما، لم يزد عرب الإعتدال إلا عزلة وهزالا، فاشلين في تغيير الوعي العربي والإسلامي بالعداء للكيان الغاصب ولو قيد أنملة. نشأ منذ ذلك الوقت جيل جديد، ولم يتغير شيء في الصورة. وها أن إسرائيل، ومعها عرب الإعتدال، تجسم بالعدوان على غزة مرحلة مفصلية في مصيرها المحتوم. لن تحقق إسرائيل شيئا هاما في هذا العدوان مهما بلغت وحشيتها ومهما بلغت قيمة الخدمات التي يقدمها لها عرب الإعتدال، فحركة التاريخ تسير في الإتجاه المعاكس تماما. منذ أزيد من قرن على انطلاق حركة الإستيطان الصهيوني في فلسطين، وبرغم المساندة القوية التي وجدتها من قبل القوى الدولية الكبرى، لم تستطع إسرائيل أن تندمج في بيئتها الجغرافية والبشرية ولم يغير تحولها إلى "دولة" منذ عقود ستة من الأمر شيئا. في المقابل اكتسبت الأمة بالتدريج المناعة ضد كل المشاريع التي أريد لها أن تسوق للواقع اللاشرعي الجديد وطورت مخزون صمود لا حدود له ضد كل الهمجية الصهيونية وضد دعايات المعتدلين. وحده الهدير الجارف للأجيال المقاومة والصامدة يسير بموازاة حركة التاريخ، وكل ما عدا ذلك مجرد تفاصيل.

lundi 5 janvier 2009

مهددون بالرفت من دائرة الوطن

الوطن..... قلم وممحاة

مهددون بالرفت من دائرة الوطن

عدنان المنصر

أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سوسة

مقال نشر بصحيفة الموقف التونسية، العدد 478 بتاريخ 26 سبتمبر 2008

كنت مصادفة بأحد الأسواق الأسبوعية الكثيرة ببلادنا، حيث يكثر الضجيج ويتعالى الصياح لأتفه الأسباب ويكثر العراك بدون موجب(وأنا عادة أكره الزحام ولكنها زوجتي سامحها الله). ولكن ما أضفى على المكان نكهة جديدة لم يكن مما نجده عادة في مثل هذه الأسواق التي يتداعى لها الناس من كل فج عميق، وإنما أناشيد وأغاني وطنية كانت تبثها مضخمات صوت عملاقة، من نوع تلك الأغاني التي يكثر بثها في مناسبات سياسية معينة والتي تسرف في التغني بوطن يقسم بكتابة اسمه على شمس لا تغيب وبجود شعبه وكرمه الذي لم يترك لغيره من الشعوب شيئا في مضمار الشجاعة والإقدام. للحظة ساءلت نفسي إن كان اليوم يصادف عيدا وطنيا غير أنني لم أجد شيئا يوافقه في روزنامة الأعياد الوطنية. ولكن سرعان ما جاءني الجواب من مكبرات الصوت ذاتها التي كانت تبث بين أغنية وأخرى نداء من بلدية المكان للمواطنين لدفع ما تخلد بذممهم من أداءات.

لماذا يستدعى الوطن في كل المناسبات، كبيرها وحقيرها، ويرفع كتهديد في وجه أبنائه؟ يفترض بحسب السياق أن من يتلدد في دفع ما ترتب عليه من أداءات لا يساهم في رفعة شعبه ولا هو بالشهم الكريم أو بالشجاع الهمام، أي أنه ببساطة، وفي أدنى الحالات، لا ينتمي للوحدة المتغنى بها. لا نناقش هنا الموقف من الأداء البلدي أو من غيره من الأداءات، وإنما الإبتذال الذي أصبح يعامل به الوطن والوطنية كمعاني يفترض أن لا تستدعى إلا عند المناسبات الكبيرة. غير أن القوم لم يعودوا يفرقون بين المناسبات الكبيرة التي تستحق أن يستدعى فيها الوطن وبين المناسبات الصغيرة التي لا تستحق أن يستدعى فيها أحد. وفي المقابل فإن الواحد منا الذي يفترض بداهة أنه مواطن، يعيش مواطنته ووطنيته ووطنه كحالة وقتية حيث سيوجد دائما من يشكك في انتمائه لوطن مفترض ويثير حوله كل التساؤلات الخبيثة الممكنة. نبدو في حالة توقع الأسوأ باستمرار. من واجبك أن تسجل في القائمات الإنتخابية، حتى لو لم يحتفظ باسمك فيها. من واجبك أن تقترع حتى لو احتسبت ورقتك وكأنها لم تكن. من واجبك أن تدفع الأداء البلدي وكل الأداءات الأخرى حتى لو لم ينلك من عناية البلدية شيء وقضيت حياتك تطالب بخدمات لا يوفرها أحد. من واجبك أن تستهلك المنتجات "الوطنية" (كيف تكون منتجات ما "وطنية"؟) حتى لو سببت لك كل الحساسيات الممكنة. من واجبك القيام بالكثير من الأشياء، حتى لو لم تحصل في المقابل على شيء. في حضور منطق الواجب وغياب منطق الحقوق، نبقى مهددين بالرفت من دائرة الوطن، وكأننا حللنا به البارحة، وكأن زوارق متخفية ألقت بنا على شواطئه ذات ليل، وكأن علينا أن نمضي على سجلات حضورنا فيه كل يوم مرتين.

وفي المقابل، يسطو البعض منا على الدفتر والقلم والممحاة. لا أحد يجرؤ على المطالبة بوضع الدفتر في متناول المواطن الكريم، فهو من الوثائق بالغة السرية التي يعتقد أنه ليس بمقدور أحد غير الدولة حمايته من أيدي العابثين ذوي النفوس المريضة المصطادين دائما في المياه العكرة (بالمناسبة، ينبغي التفكير في توفير مياه نظيفة يمارس فيها هواة الصيد نشاطهم المحبب). بسرعة شديدة حللنا في فضاء اختلطت فيه المفاهيم حابلها ونابلها، أصبح الوطن والدولة والواجب والسياسة المتبعة تعني أشياء شديدة الشبه بعضها ببعض. يستخدم هذا الخلط كطريقة ومنهج في التسييرلا يجوز أن يوضع موضع تساؤل ويستفيد الجميع من هذا الخلط، ما عدا الوطن والمواطن. في خضم ذلك الخلط المقصود تنجز أكثر القفزات البهلوانية طرافة. تعودنا منذ زمن صار طويلا أن نسمع شعار "الدولة كحام ومدافع ومؤسس المجتمع المدني" حتى أنه لم يعد يعني لنا شيئا أن نناقشه ونقف على بهتانه شديد الوضوح: لا يمكن للدولة مهما كانت ديمقراطية أن تقوم بذلك الدور، فالمجتمع المدني هو بالطبيعة نقيض للمجتمع السياسي الذي تمثله الدولة.

والحقيقة أن التكثيف المتعمد في استعمال الرموز له ما يبرره من وجهة نظر ممثلي المجتمع السياسي. فالمسألة بالغة الأهمية: يوحى من خلال بعض تلك الرموز بوجود عقد اجتماعي ما ينبغي على المحكومين احترام بنوده ولكن لا أحد سيتساءل أمام تلك الكثافة القاتلة في استخدام الرموز الجمعية عن احترام المجتمع السياسي لبنود العقد المذكور إن وجد. يعني ذلك، من ناحية المبدأ، أن العقد الإجتماعي بين الحكام والمحكومين، ضروري لتسيير المجتمعات بأقصى حد ممكن من النجاعة والرضى، وهذا في حد ذاته من الأمور المحمودة. لا يتعلق الأمر بطرف دون آخر، فالإيهام بوجود ذلك العقد ضرورة مطلقة، "مصلحة وطنية" كما يقال. يحيل ذلك على رغبة أكيدة لدى اليد العليا بتحقيق شعور ما بالرضى عن الذات. أما من ناحية اليد السفلى فإن التشكيك في احترام بنود العقد أو في وجوده أصلا يطرح عليها من المهام المزعجة ما لا قبل لها به وما لا رغبة لها في خوضه إطلاقا. يبدو الجميع مرتاحين إذا وأن لا شيء يدعو إلى القلق.

من الضروري التساؤل عما يدفع أبناءنا الصغار إلى الإفلات من "واجب" تحية العلم كل صباح في المدرسة، رغم جهدنا في إقناعهم بأن الراية الوطنية رمز جدير بالإحترام. من الضروري أيضا التساؤل عن الشعور المتعاظم باللامبالاة عند عزف "النشيد الوطني"، رغم لحنه الشجي. نعيش وطنيتنا منذ زمن أضحى بعيدا، كعبء، كحمل تنوء به كواهلنا المتعبة، كهروب دائم. يفترض أن يعمنا الشعور"بالفرح الدائم" كوننا نعيش في وطن له رموزه وقيمه وتاريخه. ينبغي التوقف عن ابتذال الشعور الوطني وعن استدعائه واستجدائه بمناسبة وبدون مناسبة، وفي الوقت نفسه ينبغي الكف عن إشاعة الخلط المتعمد بين المفاهيم لأن ذلك يهددنا في ما هو أهم من كل الأشياء العابرة، في وطنيتنا التي هي شعور قبل كل شيء. ينبغي النظر إلى الوطن كمعنى جامع يؤلف بين الناس ولا يفرق بينهم، لا يملك أحد حق طرد الآخرين منه مهما اختلفوا معه. وفي المقابل ينبغي التوقف عن الإحساس بأن أحدا ما في مكان ما يملك تقرير وطنيتنا من عدمها وأن وجودنا ومضمون إنسانيتنا مما يخرج تحديده عن نطاقنا.

ولكن هل نملك للوطنية نفس التصور؟ تفترض الوطنية أنها احساس بالإنتماء إلى بلد معين يقوي الشعور بالوحدة حول القيم المشتركة، وأنها حالة ذهنية تدفع شخصا أو مجموعة أشخاص إلى الإحساس بالحب والفخر وبالدفاع عن مصالح وطنه. من منظور معين يبدو هذا التعريف كافيا لحشر الجميع في بوتقته، غير أنه في الوقت نفسه متخم بالألغام. ما هي القيم المشتركة؟ وما هي مصالح الوطن؟ هنا مربط الفرس، ولكن لا أحد ذهب إلى ذلك المربط ووجد الفرس هناك فيما يبدو. لكثير من الناس يبدو الوطن حسابا بنكيا، أو ضيعة أو أسهما في البورصة. لكثير آخرين يبدو الوطن حربا لا تنتهي أبدا ضد قيم يعتنقها عدد من أبناء الوطن. لكثير آخرين يبدو الوطن قطعة حلوى يتلذذ بلعقها في أوقات الفراغ. لبعض الناس أيضا يبدو الوطن راية وقتية "لجهاد مقدس". غير أن الجميع، في الوقت نفسه يشعر بأنه ذلك المكان الذي يريد أن يدفن فيه عندما تحين ساعته وبأنه ذلك المكان الذي لا مهرب منه إلا إليه.

الوطن إله صغير، خلقنا وصاغنا وشكلنا ولم يعد يضيره بعد ذلك أن نؤمن به أو لا نؤمن. هو فعلا كالإله الذي لا تجده في مكان بعينه ولكنه في كل مكان، فلا يضره من بعد من يؤمن ومن يكفر، من يبر ومن يجحد. تجد الوطن في إصرار الفلاح على رعاية أرضه الجدباء رغم انحباس المطر، وفي جهد العامل رغم جحود رب العمل، وفي فصل التدريس رغم بؤس المآل. ليس الوطن ضريبة تدفع، ولا موقفا يبتز، ولا طاعة تستجلب، ولا بقرة تستحلب. وهو فوق ذلك حكما ليس دفاتر تحفظ ولا مناداة، ولا قلم ولا ممحاة.