lundi 5 janvier 2009

مهددون بالرفت من دائرة الوطن

الوطن..... قلم وممحاة

مهددون بالرفت من دائرة الوطن

عدنان المنصر

أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سوسة

مقال نشر بصحيفة الموقف التونسية، العدد 478 بتاريخ 26 سبتمبر 2008

كنت مصادفة بأحد الأسواق الأسبوعية الكثيرة ببلادنا، حيث يكثر الضجيج ويتعالى الصياح لأتفه الأسباب ويكثر العراك بدون موجب(وأنا عادة أكره الزحام ولكنها زوجتي سامحها الله). ولكن ما أضفى على المكان نكهة جديدة لم يكن مما نجده عادة في مثل هذه الأسواق التي يتداعى لها الناس من كل فج عميق، وإنما أناشيد وأغاني وطنية كانت تبثها مضخمات صوت عملاقة، من نوع تلك الأغاني التي يكثر بثها في مناسبات سياسية معينة والتي تسرف في التغني بوطن يقسم بكتابة اسمه على شمس لا تغيب وبجود شعبه وكرمه الذي لم يترك لغيره من الشعوب شيئا في مضمار الشجاعة والإقدام. للحظة ساءلت نفسي إن كان اليوم يصادف عيدا وطنيا غير أنني لم أجد شيئا يوافقه في روزنامة الأعياد الوطنية. ولكن سرعان ما جاءني الجواب من مكبرات الصوت ذاتها التي كانت تبث بين أغنية وأخرى نداء من بلدية المكان للمواطنين لدفع ما تخلد بذممهم من أداءات.

لماذا يستدعى الوطن في كل المناسبات، كبيرها وحقيرها، ويرفع كتهديد في وجه أبنائه؟ يفترض بحسب السياق أن من يتلدد في دفع ما ترتب عليه من أداءات لا يساهم في رفعة شعبه ولا هو بالشهم الكريم أو بالشجاع الهمام، أي أنه ببساطة، وفي أدنى الحالات، لا ينتمي للوحدة المتغنى بها. لا نناقش هنا الموقف من الأداء البلدي أو من غيره من الأداءات، وإنما الإبتذال الذي أصبح يعامل به الوطن والوطنية كمعاني يفترض أن لا تستدعى إلا عند المناسبات الكبيرة. غير أن القوم لم يعودوا يفرقون بين المناسبات الكبيرة التي تستحق أن يستدعى فيها الوطن وبين المناسبات الصغيرة التي لا تستحق أن يستدعى فيها أحد. وفي المقابل فإن الواحد منا الذي يفترض بداهة أنه مواطن، يعيش مواطنته ووطنيته ووطنه كحالة وقتية حيث سيوجد دائما من يشكك في انتمائه لوطن مفترض ويثير حوله كل التساؤلات الخبيثة الممكنة. نبدو في حالة توقع الأسوأ باستمرار. من واجبك أن تسجل في القائمات الإنتخابية، حتى لو لم يحتفظ باسمك فيها. من واجبك أن تقترع حتى لو احتسبت ورقتك وكأنها لم تكن. من واجبك أن تدفع الأداء البلدي وكل الأداءات الأخرى حتى لو لم ينلك من عناية البلدية شيء وقضيت حياتك تطالب بخدمات لا يوفرها أحد. من واجبك أن تستهلك المنتجات "الوطنية" (كيف تكون منتجات ما "وطنية"؟) حتى لو سببت لك كل الحساسيات الممكنة. من واجبك القيام بالكثير من الأشياء، حتى لو لم تحصل في المقابل على شيء. في حضور منطق الواجب وغياب منطق الحقوق، نبقى مهددين بالرفت من دائرة الوطن، وكأننا حللنا به البارحة، وكأن زوارق متخفية ألقت بنا على شواطئه ذات ليل، وكأن علينا أن نمضي على سجلات حضورنا فيه كل يوم مرتين.

وفي المقابل، يسطو البعض منا على الدفتر والقلم والممحاة. لا أحد يجرؤ على المطالبة بوضع الدفتر في متناول المواطن الكريم، فهو من الوثائق بالغة السرية التي يعتقد أنه ليس بمقدور أحد غير الدولة حمايته من أيدي العابثين ذوي النفوس المريضة المصطادين دائما في المياه العكرة (بالمناسبة، ينبغي التفكير في توفير مياه نظيفة يمارس فيها هواة الصيد نشاطهم المحبب). بسرعة شديدة حللنا في فضاء اختلطت فيه المفاهيم حابلها ونابلها، أصبح الوطن والدولة والواجب والسياسة المتبعة تعني أشياء شديدة الشبه بعضها ببعض. يستخدم هذا الخلط كطريقة ومنهج في التسييرلا يجوز أن يوضع موضع تساؤل ويستفيد الجميع من هذا الخلط، ما عدا الوطن والمواطن. في خضم ذلك الخلط المقصود تنجز أكثر القفزات البهلوانية طرافة. تعودنا منذ زمن صار طويلا أن نسمع شعار "الدولة كحام ومدافع ومؤسس المجتمع المدني" حتى أنه لم يعد يعني لنا شيئا أن نناقشه ونقف على بهتانه شديد الوضوح: لا يمكن للدولة مهما كانت ديمقراطية أن تقوم بذلك الدور، فالمجتمع المدني هو بالطبيعة نقيض للمجتمع السياسي الذي تمثله الدولة.

والحقيقة أن التكثيف المتعمد في استعمال الرموز له ما يبرره من وجهة نظر ممثلي المجتمع السياسي. فالمسألة بالغة الأهمية: يوحى من خلال بعض تلك الرموز بوجود عقد اجتماعي ما ينبغي على المحكومين احترام بنوده ولكن لا أحد سيتساءل أمام تلك الكثافة القاتلة في استخدام الرموز الجمعية عن احترام المجتمع السياسي لبنود العقد المذكور إن وجد. يعني ذلك، من ناحية المبدأ، أن العقد الإجتماعي بين الحكام والمحكومين، ضروري لتسيير المجتمعات بأقصى حد ممكن من النجاعة والرضى، وهذا في حد ذاته من الأمور المحمودة. لا يتعلق الأمر بطرف دون آخر، فالإيهام بوجود ذلك العقد ضرورة مطلقة، "مصلحة وطنية" كما يقال. يحيل ذلك على رغبة أكيدة لدى اليد العليا بتحقيق شعور ما بالرضى عن الذات. أما من ناحية اليد السفلى فإن التشكيك في احترام بنود العقد أو في وجوده أصلا يطرح عليها من المهام المزعجة ما لا قبل لها به وما لا رغبة لها في خوضه إطلاقا. يبدو الجميع مرتاحين إذا وأن لا شيء يدعو إلى القلق.

من الضروري التساؤل عما يدفع أبناءنا الصغار إلى الإفلات من "واجب" تحية العلم كل صباح في المدرسة، رغم جهدنا في إقناعهم بأن الراية الوطنية رمز جدير بالإحترام. من الضروري أيضا التساؤل عن الشعور المتعاظم باللامبالاة عند عزف "النشيد الوطني"، رغم لحنه الشجي. نعيش وطنيتنا منذ زمن أضحى بعيدا، كعبء، كحمل تنوء به كواهلنا المتعبة، كهروب دائم. يفترض أن يعمنا الشعور"بالفرح الدائم" كوننا نعيش في وطن له رموزه وقيمه وتاريخه. ينبغي التوقف عن ابتذال الشعور الوطني وعن استدعائه واستجدائه بمناسبة وبدون مناسبة، وفي الوقت نفسه ينبغي الكف عن إشاعة الخلط المتعمد بين المفاهيم لأن ذلك يهددنا في ما هو أهم من كل الأشياء العابرة، في وطنيتنا التي هي شعور قبل كل شيء. ينبغي النظر إلى الوطن كمعنى جامع يؤلف بين الناس ولا يفرق بينهم، لا يملك أحد حق طرد الآخرين منه مهما اختلفوا معه. وفي المقابل ينبغي التوقف عن الإحساس بأن أحدا ما في مكان ما يملك تقرير وطنيتنا من عدمها وأن وجودنا ومضمون إنسانيتنا مما يخرج تحديده عن نطاقنا.

ولكن هل نملك للوطنية نفس التصور؟ تفترض الوطنية أنها احساس بالإنتماء إلى بلد معين يقوي الشعور بالوحدة حول القيم المشتركة، وأنها حالة ذهنية تدفع شخصا أو مجموعة أشخاص إلى الإحساس بالحب والفخر وبالدفاع عن مصالح وطنه. من منظور معين يبدو هذا التعريف كافيا لحشر الجميع في بوتقته، غير أنه في الوقت نفسه متخم بالألغام. ما هي القيم المشتركة؟ وما هي مصالح الوطن؟ هنا مربط الفرس، ولكن لا أحد ذهب إلى ذلك المربط ووجد الفرس هناك فيما يبدو. لكثير من الناس يبدو الوطن حسابا بنكيا، أو ضيعة أو أسهما في البورصة. لكثير آخرين يبدو الوطن حربا لا تنتهي أبدا ضد قيم يعتنقها عدد من أبناء الوطن. لكثير آخرين يبدو الوطن قطعة حلوى يتلذذ بلعقها في أوقات الفراغ. لبعض الناس أيضا يبدو الوطن راية وقتية "لجهاد مقدس". غير أن الجميع، في الوقت نفسه يشعر بأنه ذلك المكان الذي يريد أن يدفن فيه عندما تحين ساعته وبأنه ذلك المكان الذي لا مهرب منه إلا إليه.

الوطن إله صغير، خلقنا وصاغنا وشكلنا ولم يعد يضيره بعد ذلك أن نؤمن به أو لا نؤمن. هو فعلا كالإله الذي لا تجده في مكان بعينه ولكنه في كل مكان، فلا يضره من بعد من يؤمن ومن يكفر، من يبر ومن يجحد. تجد الوطن في إصرار الفلاح على رعاية أرضه الجدباء رغم انحباس المطر، وفي جهد العامل رغم جحود رب العمل، وفي فصل التدريس رغم بؤس المآل. ليس الوطن ضريبة تدفع، ولا موقفا يبتز، ولا طاعة تستجلب، ولا بقرة تستحلب. وهو فوق ذلك حكما ليس دفاتر تحفظ ولا مناداة، ولا قلم ولا ممحاة.

5 commentaires:

Legend Of The Fall a dit…

ما العيب في أن تدعو البلدية المواطنين إلى دفع ما تخلّد بذمتهم من آداءات؟ المواطن، و انا مواطن، دائما ما نطالب البلدية بتعبيد الطرقات و الإنارة و التطهير و النظافة و تحمل مسؤولياتها و ننسى نعن ننسى أو نحن نتناسى أن البلدية لا يمكنها أن تقوم بكل ما نطلبه منها لو لم نقم كمواطنين و تجار بدفع ما علينا من آداءات بلدية. ليكن في علمك يا سيدي، و هذا الكلام من مصادر موثوقة، أن أغلب البلديات تقوم بآداء واجباتها من خلال صرف منح الدولة و هي منح لا تكفي أغلب المجالس البلدية لتغطية مصاريفها و السبب هو عدم دفع عدد كبير من المواطنين للآداءات البلدية. بالتالي لا يمكن أن نطلب من البلديات و الدولة أكثر مما نتوقع أم يمكنها. و ليس من العيب أن تحاول البلدية أو الدولة أن تحيي في المواطن وطنيته و تدغدغ غنتمائه للوطن. و أنا متأكذ يا سيدي و أبصم لك بالعشرة، أن صديقنا كاتب المقال هو نفسه لا يدفع ما يتوجب عليه من آداءات و لو كان هو أصلا مواطن صالح لما كتب ما كتبه و لما قال ما قاله بل كلامه مردود عليه أصلا. فكر جيدا و ستجد أن معي ألف حق

Anonyme a dit…

l'auteur de l'article est lui-meme l'auteur du blog, il fallait le lire c'est tellement clair. avec tout mon respect monsieur, il ne s'agit pas de l'impôt dans cet article, ce n'est qu'un prétexte comme tout le monde peut le voir mais dommage, vous passez à côté de l'essentiel !!

Legend Of The Fall a dit…

@Anonyme: oui j'ai bien vu qu'il s'agit de l'auteur lui même. de temps en temps je ne donne pas de l'importance mais bon! A côté, non! j'ai bien compris son message mais il te faut lire entre les lignes pour que tu comprenne mon message à moi!

Anonyme a dit…

faysal.bh@gmail.fr

بداية شكرا على هذا المقال الذي انتظرناه طويلا.....
أعتقد أن الوطنية لا معنى لها في غياب الحرية والعدالة والديمقراطية..فلا يمكن أن نطالب إنسانا مسلوب الحرية إرادته مصادرة يمارس عليه أبشع أنواع القمع والظلم بان يكون وطنيا بل و ونلومه على قلة وطنيته....
للأسف اليوم لا نعيش في أوطاننا بل في أوطانهم (هم..أصحاب الدفاتر والقلم والممحاة..كما تفضلت..)...ونحن لا نعيش "كمواطنين"...بل كمقيمين غير شرعيين.. كغرباء .. كلاجئين أو كمشبوهين.. ..كلامنا وأفعالنا مشبوهة ...يفترضون فينا دائما سوء النية ونتهم بنكران الجميل..(وأي جميل؟؟؟)
..."وطن" كهذا يقتل فيك الطموح...يسرق منك ماضيك وحاضرك ومستقبلك...يصادر منك إرادة الحياة...
وطن كهذا ..لا نحيا فيه إلا لنموت...نموت ألف مرة كل يوم..ولا يريحنا من عذابنا فيه إلا موتنا "الأخير"...لندفن في ارض "الوطن"...علنا نجد في باطنه مصيرا أفضل مما وجدناه فوق سطحه........

Anonyme a dit…

مواطن وطني، من أرض المهجر...بل من ديارالهجرةيحييكم ياأبناء سيدي بلحسن و سيدي محرز بن خيرخلف عن خير سلف. فقط، وأقسم لكم بالعشرةأصحاب العدناني أن وطننا العزيز ماض قدما في طريق الرقي والعزةوعين العناية تحرسه(خمسة وخميس وعين الحسود فيهاجذع النخل المملوء)وأن نسبيةانشتاين تشمل كل زمان ومكان حيث التقياوالوطن النقطةوأننا(نموت نموت ويحي الوطن)...وأنني أعشق وطني وأبناء وطني والساهرين على سلم وسلامةبلدي الحبيب والعاملين على المضي به حثيثاإلى الأمام. شكرا للحبيب عدنان على المقال ولديانا على صراحةالحروف.