dimanche 11 juillet 2010

من "الشخصية التونسية" إلى "الهوية التونسية"، إلى "الأمة التونسية": محمد مزالي والبشير بن سلامة‏

(بقلم عدنان المنصر)

من "الشخصية التونسية" إلى "الهوية التونسية"، إلى "الأمة التونسية": محمد مزالي والبشير بن سلامة‏


اكتفى بورقيبة في هذا المجال بوضع المبادئ العامة للثقافة الجديدة المراد ترسيخها لدى الأجيال الشابة والتي سيعتبر أنها ضمانة لاستمرار مشروع الدولة الوطنية في المستقبل، في حين قامت أطراف أخرى، جمع بينها وحدة التكوين وانسجام الرؤى والحماس الفياض للمشروع البورقيبي، بصياغة هذه الثقافة الجديدة وإعطاء إيديولوجيا الدولة الوطنية بعدا أعمق عن طريق تأصيلها في الثقافة الوطنية من جهة، وعن طريق إعادة صياغة هذه الثقافة الوطنية لتصبح متماشية مع البرامج السياسية بعيدة المدى للنخبة الوطنية. ويؤكد ذلك في الحقيقة حركية هذه النخبة المثقفة الجديدة وبراغماتيتها في الوقت نفسه. فإضافة إلى اقتناعها الكامل بالمشروع الذي شرع في تطبيقه منذ استقلال البلاد، كانت هذه النخبة، التي نشأت في الصادقية وعايشت أهم مفاصل مسيرة التحرر الوطني واطلعت بحكم دراساتها العليا على ما كان يعتمل داخل الثقافة الأوروبية عموما والفرنسية منها بالخصوص غداة الحرب، صاحبة مشروع جنيني عبرت عنه منذ الأعداد الأولى من الفكر، وهو مشروع "التونسة" أو صيرورة "تأصيل الكيان" الوطني. وهكذا أصبحت مجموعة الفكر، وبصفة خاصة قطباها محمد مزالي والبشير بن سلامة، المجموعة التي سيعهد إليها بصياغة الثقافة الجديدة.
لقد كان الأمر يتعلق بإنشاء أجيال جديدة تؤمن بالعقيدة الوطنية مما جعل للمدرسة وللنظام التربوي الدور الأساسي في هذه الصيرورة وهو ما عبر عنه أحد أكبر المتحمسين لفكرة "التونسة" وهو محمد مزالي عندما كتب أن هذه الأخيرة "تقتضي أن يهدف الهيكل الجديد لنظامنا التربوي إلى تجسيم كل مقومات الأمة وغرس العقيدة الوطنية في نفس الشباب بحيث يؤمنون بأنهم ينتمون إلى وطن له خصائصه الحضارية وله تاريخه وأمانيه فيعتزون بالانتساب إليه ويندمجون فيه ويستعذبون البذل والتضحية من أجل نصرته ومناعته وهذا لن يكون ما لم يتم الاتفاق بين أهل الحل والعقد ورجال الفكر على محتوى هذه التونسة، وما لم يتيسر ضبط مقومات الأمة التونسية ومعرفة خصائصها، وما لم يشيد سلم القيم الروحية والأخلاقية الذي به يكيف الشباب أعمالهم ومنه يستوحون سلوكهم واتجاهاتهم".
لقد عني "بالتونسة" التأكيد على محتوى العقيدة الجمعية الجديدة المراد ترسيخها لدى التونسيين، وهو ما سيسمى في مرحلة موالية "بالشخصية التونسية" قبل أن تتحول إلى "الهوية التونسية" ثم إلى "الأمة التونسية". ويتنزل هذا المجهود النظري الذي اضطلعت به النخبة المثقفة الجديدة في إطار ما أسماه محمد مزالي "إعطاء الوحدة القومية مضمونا عقائديا وفلسفيا" والتعمق في استجلاء هذه الخصائص ثم تركيزها في كل البرامج التربوية والثقافية واعتمادها في سياسة تكوين الشباب وتوجيهه، واستيحائها عند ضبط وسائل الإعلام وطرائق التوجيه.والوحدة القومية تقتضي من التونسيين، في نظر محمد مزالي، "الإيمان بأننا أمة قبل كل شيء، ومعرفة مقوماتنا ثم العمل على تغذية هذه المقومات وجعل الأجيال الصاعدة تتعرف إليها وتتغذى منها وتعتز بها ثم تعمل بدورها على إشاعتها وتنميتها وتبليغ الأمانة إلى الأجيال التي تأتي بعدها". من هذا المنطلق يفند محمد مزالي الادعاء بمرحلية الوحدة القومية، كونها مجرد موقف ظرفي ينحصر في "وحدة الصف" في مرحلة الكفاح من أجل التحرر، بل يعطيها مضمونا حضاريا وثقافيا يعتمد على شعور التونسيين أنهم يكونون أمة "لها خصائصها ولها حاضرها ولها مستقبلها وتقتضي إيمانا بوجوب الحفاظ على جملة المقومات القارة التي تجمع بينها وصونها من التلاشي والضياع".
إن أهمية اجتهادات كل من محمد مزالي وبصفة خاصة البشير بن سلامة تكمن في تناولها مسألة ذات صبغة إشكالية واضحة، فقد حاول كل منهما تأكيد مقولة "نحن أمة" التي قامت عليها فلسفة التحرر الوطني، مؤكدين على وجود جملة من الخصائص تجعل من التونسيين أمة بالفعل. وهنا يقعان بفعل تأكيدهما على أن الدولة لا تعدو كونها خاصية من خصائص الأمة أو أحد انتاجاتها في أفضل الحالات، للوهلة الأولى، في تعارض واضح مع نظرية بورقيبة والقائمة على فكرة انعدام شيء اسمه الأمة التونسية وأن إيجادها هي مهمة الدولة الوطنية ومبرر وجودها. غير أنه من الضروري الإشارة إلى أن الاختلاف بين الموقفين ليس أمرا خاصا بالساحة التونسية . نجد النخبة المثقفة التي ينتمي إليها مزالي وبن سلامة أكثر إلحاحا على عملية التراكم التاريخي التي جعلت التونسيين أمة تسعى لتحقيق تحررها وبناء كيانها السياسي المتمثل في الدولة الوطنية.

يؤكد محمد مزالي أن "لهذه البلاد تاريخا وتاريخا مجيدا، وأن شعبنا ظل صامدا حيا رغم تعاقب الغزاة وشراسة الطامعين، لم يذب قط في الغير بل هضم ما استساغته روحه الحضارية وأخذ عن الأقوام ما تصادى مع أخص خصائص عبقريتهن وتصدى للغاصبين فردهم على أعقابهم وكثيرا ما لعب دورا إيجابيا فأخذ وأعطى واستوحى وأوحى.." وقد أدت تجربة التونسيين في العيش مع بعضهم وتوالي المحن والغزاة إلى تبلور تلك "الإرادة المشتركة في الحياة الجماعية، وهي الإرادة التي تتكون بها الأمم". وقد لاحظ مزالي من خلال استقرائه لتاريخ الشعب التونسي أن هناك خصائص كبرى تجمع بين أفراده وتجعلهم يكونون أمة بالمعنى الكامل وهذه الخصائص لخصها في ما أسماه بالقاعدة الروحية ذات المنبع الشرقي، وجدلية العلاقة مع حضارات وشعوب البحر المتوسط التي تجسمت عبر القرون تارة في الاحتكاك السلمي وطورا في التصادم الحربي "مما أورث فينا النظرة الواقعية". من هنا استنتج مزالي أن تونس "ليست مجرد فرع من أصل، إنها وطن متميز، له كيانه المعروف وحيزه الجغرافي المضبوط وإن دينها الإسلام معتقدا وحضارة وتراثا، سلوكا ونظام حياة ونظرة إلى الوجود، وإن لغتها العربية... الركن الركين للشخصية الوطنية والعنصر المتين للذاتية القومية".
ورغم أن ملامح وصفات هذا الانتماء الحضاري تبدو أمرا بديهيا إلا أن طبيعة السجال الإيديولوجي والسياسي الذي عرفته تونس بين دعاة التشريق ودعاة التغريب قد جعلت مهمة منظري الذاتية التونسية صعبة نوعا ما. وإذا ما كان من اليسير نسبيا على هؤلاء مجابهة دعاة التغريب فإن مواجهة الخصوم الآخرين لم يكن بمثل ذلك اليسر، من هنا فإن التمسك بالثقافة العربية وبالدين الإسلامي كمكونين أساسيين في تلك الشخصية التونسية كان يرمي أولا إلى رد تهم الفئات التقليدية والأطراف القومية -التي شكلت هذه الفترة وخاصة قبل هزيمة جوان 1967 عهدها الذهبي- بسعي الدولة الوطنية في تونس إلى الخروج عن دائرة الانتماء الحضاري العربي الإسلامي. لذلك نجد محمد مزالي يواصل في ذات السياق التأكيد على أن "الأمة التونسية عربية إسلامية منذ الفتح الإسلامي، تغلغلت فيها الروح الدينية وصهرت شعبها وطبعته بطابعها حتى أصبح الدين الإسلامي من أخص خصائصها وأمتن مقوماتها، لا يمكن أن تتنكر له أو تزور عنه دون أن تفقد ذاتها وتمسخ شخصيتها". غير أن الاعتزاز بهذا الانتماء لا يجب أن يخفي في نظر النخبة التونسية المثقفة طبيعة المعركة التي أصبح على الأمة خوضها، وهي معركة التحرر الاقتصادي والاجتماعي، وسعيها إلى "تجديد مفاهيم الحرية والعدالة والسعادة بما ينسجم ومثلها العليا في الحياة وما يمليه عليها ضميره الحي". من هذا المنطلق فإن الدين الإسلامي الذي "وقى الأمة في الماضي شر التشتت ودرأ عنها خطر الاندماج رغم السياسة الاستعمارية ومكائدها وزود مجاهديها بالطاقة على الكفاح والإيمان بالنصر، يمكن، بل يجب، أن يكون محركا للعزائم وحافزا على العمل، والقوة على العمل، والثقة "بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
ويؤكد البشير بن سلامة على نفس المبدأ في التعامل مع الانتماء العربي الإسلامي لما يسميه الأمة التونسية وإن كان أكثر إسهابا. فهو يرى أن تأكيده على وجود ما أسماه الشخصية التونسية هو تأكيد لوجود أمة تونسية دون أن يعني ذلك مطلقا أي استنقاص من أهمية انتساب هذه الأمة إلى الأمة العربية اعتقادا منه " أنه لا تزدهر هذه الأمة الكبيرة التي ننادي بإقامتها والتي أصبحت الأمل الذي يجب أن يتحقق إلا بقيام الأمم العربية أي أن تصبح هذه الشعوب المتأرجحة في ثنائية يائسة أمما بأتم معنى الكلمة تنصهر في نهر الأمة العربية الكبير وإلا فإنها ستبقى أجزاء مبعثرة يوحدها الأمل ويفرقها الواقع".

انطلاقا من هنا سعى البشير بن سلامة لإثبات فرضية وجود "الأمة التونسية" فلاحظ أن علماء الاجتماع والفلاسفة قد اتفقوا على أنه "لا يمكن لشعب يصبح أمة إلا إذا أظهر بصفة مستمرة حية، إرادة جماعية للعيش عيشة مشتركة وإذا عرف كيف يكون لنفسه الهياكل اللازمة لوجوده كأمة قائمة الذات وكذلك إذا هو أمكن له أن تكون له نوع من الثقافة ونوع من القدرة على أن يحكم نفسه بنفسه ويدير شؤونه".
والبشير بن سلامة هنا لا يخرج عن الإطار الذي تشكلت فيه الرؤية النظرية للحركة الوطنية التونسية بوصفها عملية إحياء للثقافة وللأمة وبكونها رفضا للذوبان في الثقافة الفرنسية الغازية وبرهانا على استمرارية الكيان الوطني. فنجد أن على البلهوان، وهو أول الوطنيين الذين تناولوا هذه الإشكالية بكثير من الاهتمام، نجده ينتصر للفكرة التي تجعل من الدولة مجرد مظهر من مظاهر الأمة، ذلك أن الأنظمة تتغير وتزول وتتوالى العائلات الحاكمة ويندثر بعضها "غير أن الحكم السياسي للأمة لا ينمحي بسبب تلك التغييرات بل يبقى مستمرا دائما" .ولا يعني ذلك أي استنقاص من أولوية دور الدولة في فكر البشير بن سلامة، بل إنه على العكس من ذلك تماما يجعلها تتويجا لمسيرة دامت قرونا وقرونا وينيط بها مهمة تحويل بعض الخصائص الحضارية السلبية إلى خصائص أخرى ايجابية.

مقتطف من كتاب "دولة بورقيبة، فصول في الإيديولوجيا والممارسة"، عدنان المنصر، 2007.

عدنان المنصر،حوار مع إيلاف حول فلسطين وقضايا التطبيع

إيلاف، أجرى الحوار الصحفي اسماعيل دبارة

شدّد المؤرّخ التونسيّ الدكتور عدنان منصر على أنّ الديانة اليهودية معترف بها في تونس وأنها قديمة الحضور، واعتبر منصر وهو أستاذ محاضر في الجامعة التونسية في معرض تعليقه على الجدل الذي رافق زيارة الآلاف من اليهود إلى معبد جزيرة "جربة" أنّ هناك أقليةدينية تونسية يهودية تشرف على المؤسسات الدينية اليهودية ومن بينها كنيس "الغريبة" وهي التي تنظم عملية الحج سنويًا، مؤكدًا أنّ المشكل يكمن في "قدوم يهود من إسرائيل للقيام بهذه الطقوس على أرض دولة لا تقيم علاقات دبلوماسية بإسرائيل، فالخلط بين الجانب الديني والجانب السياسي هو الذي يعطي للموضوع حساسيته لدى معظم التونسيين".


تونس: قال الدكتور عدنان منصر في حوار مع "إيلاف" من تونس أنه يلمس "توجهًا مرضيًا لدى بعض القطاعات بتحديد كل شيء بالنظر إلى إسرائيل، واعتبرها " ردة فعل غريزية لا تليق بالأكاديميين ولا بالمثقفين". كما تطرّق منصر، الذي ألف عدة كتب من بينها " المقاومة المسلحة في تونس" و" إستراتيجية الهيمنة : الحماية الفرنسية ومؤسسات الدولة التونسية"، إلى مسألة حضور الأكاديميين العرب في المؤتمرات التي يحضرها إسرائيليون وقال إن ذلك الحضور "لم يعد باهتًا ولا سلبيًا" ، وشدّد على أنّ الصهيونية ليست سبب مآسينا وإنما أحد تمظهراتها".

وفي ما يلي نصّ الحوار كاملاً



س : تحوّلت مناسبة إحياء اليهود لمقدساتهم في جزيرة "جربة" في كلّ عام، إلى مناسبة للمزايدات الإعلامية والسياسيّة، وتداخل المفاهيم واستعمالها في غير محلها من قبيل (تسامح / تطبيع) و(يهود/ إسرائيليون)..إلخ
لماذا برأيكم تطرح مسألة التطبيع مع الإسرائيليين في هذه المناسبة اليوم، ولم تطرح منذ سنوات بعيدة ؟ وماهي الحدود بين التسامح الديني والتطبيع ؟


ج : أعتقد أن الخلط بين التسامح والتطبيع نابع في أصله من الخلط بين اليهودية والصهيونية، أي بين النظر للمسألة من زاوية دينية طقوسية وبين النظر إليها من زاوية سياسية وإيديولوجية. بالنسبة لتونس يعاد طرح مسألة التطبيع سنويا تقريبا مع موسم حج اليهود إلى كنيس الغريبة في جزيرة جربة التونسية وفي مناسبات سياسية غير دورية مثل مؤتمر أممي أو دولي يعقد بتونس. من ناحية أولى يمكن النظر إلى المسألة كتعبير عن حالة تحفز شعبي لكل ما من شأنه أن يؤول كاتجاه رسمي نحو التطبيع، ولكن لا أعتقد أنها زاوية النظر الوحيدة الممكنة للموضوع.

هناك على سبيل المثال توظيف للمسألة لإحراج الأوساط الرسمية، وهو أمر لا ينبغي النظر إليه فقط من منطلق التجاذب السياسي الداخلي بين الحكومة وبعض تيارات المعارضة بل أيضًا من منطلق إيمان تلك التيارات بأهمية مواجهة كل سير نحو التطبيع. يجب أن يفهم الجميع أن الديانة اليهودية معترف بها في تونس وأنها قديمة الحضور، وأن هناك أقلية دينية تونسية يهودية تشرف على المؤسسات الدينية اليهودية ومن بينها كنيس الغريبة وهي التي تنظم عملية الحج المذكورة.

المشكل يكمن في قدوم يهود من إسرائيل للقيام بهذه الطقوس على أرض دولة لا تقيم علاقات ديبلوماسية بإسرائيل. هنا يصبح الخلط بين الجانب الديني والجانب السياسي مبررا إلى حد ما وهو الذي يعطي للموضوع حساسيته لدى معظم التونسيين. غير أن للموضوع بعدًا اقتصاديًا واضحًا أيضًا وهو أمر يجب وضعه في الإعتبار، فالسلطات تعتبر هذه المناسبة السنوية مصدرًا مهمًّا للعملة الصعبة السياحية، وربما أرادت إبراز الدلائل على أنها "غير متطرفة" في النظر لموضوع "الحريات الدينية" والأقليات، وتحسين صورتها لدى الدول الأجنبية.

ولا ينفي كل ذلك أن الموضوع يبقى شديد الحساسية في وسط تونسي كان تاريخيًا، وباستمرار، معاديًا للصهيونية التي تجسم اسرائيل كيانها الرسمي، ومتعايشًا مع أقلياته الدينية والعرقية بما فيها الأقلية اليهودية. وينبغي في نظري، ما دمنا نتحدث عن الحريات الدينية أن نسأل: هل تسمح إسرائيل للتونسيين بالحج إلى المسجد الأقصى وهو بالنسبة إلى المسلمين ذو أهمية دينية بالغة، وبالأعداد والدعاية نفسهما؟ لا أعتقد أن الإجابة ستكون بنعم، وهنا فإن القاعدة المعمول بها بين الدول هي التعامل بالمثل.




س : سلاح مقاومة التطبيع بدأ يفقد ألقه وجدواه - بحسب عدد من المتابعين - خصوصًا مع توقيع اتفاقيات السلام بين دول عربيّة وإسرائيل من جهة، ومع انتشار وسائل الاتصال الحديثة وانهيار الحدود والفواصل بين الدول.
كيف تقيّم تجربة أكثر من خمسة عقود من مقاومة التطبيع في العالمين العربي والإسلامي؟



ج : أصبحت مهمة مقاومة التطبيع مهمة شعبية وقومية وإسلامية منذ ثمانينات القرن الماضي، أي منذ عقد اتفاقية كامب ديفيد، وما تلاها من اتفاقيات وتفاهمات رسمية بين الدول العربية وإسرائيل، بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لا أعتقد أن هذا التحول قد أضر بموضوع مواجهة الصهيونية وإسرائيل بل إنه يحمل الموضوع من الأفق الرسمي المكبل ومحدود الفاعلية إلى الأفق الشعبي وهو أفق أكثر عمقًا وتحررًا وقابلية للإستمرار.

هل ننتظر من الحكومات أن تواجه اليوم إسرائيل؟


لا أعتقد ذلك، وحتى إن تم فإنه يبقى احتمالاً عديم الفاعلية، ولولا أحداث فلسطين ولبنان التي عطلت عجلة التطبيع الرسمي لكان لإسرائيل سفراء في كل العواصم العربية منذ مدة طويلة. ما يحصل هو تحول مقاومة التطبيع ومعاداة "الصهيونية" إلى هم شعبي، وهو ما يعطي في نظري لهذا التوجه قدرة على الإستمرار زمنيًا أكثر مما يعطيه موقف رسمي ما مهما كانت حدته. الشعوب لا تبيع ولا تشتري، أما الحكومات فإنها تفعل ذلك بصفة مستمرة، بل لعله سلوك مترسخ في طبيعة وجودها.

وهنا فإنني أعتقد أن العمل على ترسيخ هذا التوجه مسؤولية حتمية على كل المهتمين باستمرار هذا النفس زمنيًا وامتداه مجاليًا، وهو كفيل إن حصل، بأن يشكل ضغطا على الأوساط الرسمية وبموازنة الضغوط الأجنبية وربما عكسها تمامًا على المدى المتوسط. قد يكون عالم اليوم أقل حدودًا بين الدول، لكن هناك حدودًا لا تؤثر فيها العولمة وهي الحدود بين القيم التي تصنع وجود الإنسان وتعطيه صفته ككائن متعلق بالعدالة والكرامة، وهذه القيم لا تؤتمن عليها الحكومات مهما كانت وطنيتها.


س : موضوع ما يسمى "التطبيع الأكاديميّ والعلميّ" يثير جدلاً كبيرًا، مقارنة بالجوانب الأخرى للتطبيع، خصوصًا مع وجود خطط إسرائيلية متكاملة لاختراق صفوف الأكاديميين العرب من جهة، وتمسّك العرب بالمقابل بمقولة "الكراسي الشاغرة".
ما رأيكم في هذا السّجال، وهل من الضروريّ معاملة الأكاديميّين والباحثين كرجال سياسة؟ من مؤلفاته


ج : الأكاديميون ليسوا رجال سياسة وإن كانت السياسة هي أحد الأبعاد التي ينبغي أن يأخذوها بالإعتبار في نظرتهم للأشياء. من الجانب الإسرائيلي، لا شك أن هناك رغبة أكيدة في اختراق كل صفوف الممانعة لدى الشعوب العربية والإسلامية، وهو أمر طبيعي من منطلق كيان يشعر باستمرار أن وجوده مهدد على المستوى البعيد. مع ذلك ليست هذه هي الزاوية الوحيدة للنظر للموضوع. تكون إسرائيل سعيدة أكثر بغياب الأكاديميين العرب من المؤتمرات العلمية فهذا يعطي أكاديمييها حرية أكبر في الامتداد داخل الأوساط العلمية الدولية.

عندما ننظر في خارطة المؤتمرات العلمية الدولية منذ عشرين أو ثلاثين عاما، نلاحظ شيئين أساسيين: حضور متزايد للعرب من جهة أولى، ونمو في التعاطف الدولي مع قضاياهم وأولها قضية فلسطين. صحيح أن هناك عملاً طويلاً ينبغي مواصلة القيام به ولكن لنعترف أولا أن الملاحظتين مترابطتان، بل إن الثانية نتيجة للأولى، وهو أمر لا ينكره أي متابع لهذه المناسبات العلمية. هذا التعاطف لا يظهر فقط في المؤتمرات التي تتناول مسائل ذات صلة مباشرة بالموضوع بل في الحوارات الجانبية لمؤتمرات بعيدة في مواضيعها تماما علن المسائل السياسية.

يحتاج العرب إلى إبلاغ وجهة نظرهم تجاه كل المواضيع، وهو أمر لا يتسنى تحقيقه بالغياب، مهما كانت النوايا طيبة، وقضية فلسطين وحقوق شعبها هي إحدى هذه القضايا ولكنها ليست القضية الوحيدة. ما يقلقني شخصيًا هو هذا التوجه المرضي لدى بعض القطاعات بتحديد كل شيء بالنظر إلى إسرائيل، فإذا ذهبت يمينًا ارتمينا شمالاً، واذا اتجهت شمالاً ألقينا بأنفسنا يمينًا. هذه ردة فعل غريزية لا تليق بالأكاديميين ولا بالمثقفين وهم نخبة مجتمعاتنا الذين تناط بهم مهمة ليست أقل أهمية، وهي دفع الجمهور في اتجاه التعامل العقلاني مع قضاياه وتخليصه من الميل المفرط للتعميم والتبسيط.

من زاوية نظري كمؤرخ، أعتقد أن وجود إسرائيل يصبح مضمون الدوام إذا ما نجح في تشكيكنا في وجودنا كأمة ممتدة في التاريخ وإذا ما أصبح همنا الوحيد هو التموقع فقط بالنسبة إلى إسرائيل. عمر هذا الكيان لا يتجاوز العقود الستة، وهي فترة لا تصنع حضارة ولا تعد بالتواصل، خصوصًا إذا كان هذا الوجود مصطنعًا وفي بيئة ستبقى معادية على الدوام.

كعرب وكمسلمين لدينا مهمات أخرى حساسة وذا أهمية بالغة، وهي نشر التعليم وترسيخ الفكر النقدي ومقاومة الجهل والتخلف ودفع الحكومات إلى احترام حقوق شعوبها ونقل هذه الشعوب من وضعية الرعية إلى وضعية المواطنة، عندها يتم ذلك يحصل رشد سياسي عام وتصبح الحكومات معبرة عن الإتجاه الغالب لدى شعوب المواطنين تجاه اسرائيل وغيرها. ينبغي في نظري معالجة هذا الموضوع بصفة متكاملة وليس جزئية، على المستوى البعيد وليس فقط القريب.




س : يُعاب على بعض المُنتقدين لسياسة "الكراسي الشاغرة" أنّ حضورهم في ندوات أو مؤتمرات أو مُلتقيات إلى جانب إسرائيليين ، عادة ما يكون حضورًا باهتًا وسلبيًا كونهم لا يُدينون إسرائيل وسياساتها، ولا يُحرجون مُمثليها في تلك الملتقيات ، وأنهم لم "يقتدوا" برئيس وزراء تركيا أردوغان وحادثته الشهيرة في "دافوس".
ما تعليقكم ؟


ج : هذه النظرة هي أكبر تعبير عن الخلط في النظر إلى المسألة. عندما نتحدث عن مؤتمرات أكاديمية ينبغي أن تكون نظرتنا أكثر شمولية. فعلى سبيل المثال، ما علاقة مؤتمر حول الغطاء النباتي أو طبقة الأوزون أو كيمياء المعادن أو هجرة الدلافين بإسرائيل؟ هذا أمر مثير للإستغراب على أقل تقدير.

هناك مؤتمرات تقترب من الشأن السياسي أو يتاح فيها التعرض إلى أمور سياسية، هنا فإن التعبير عن المواقف العربية يصبح أمرا مطلوبا، دون أن يعني ذلك تحول الأكاديميين إلى "أردوغانات"، ففي الأمر خلط لا ينبع إلا من نظرة شعبوية وديماغوجية مرضية ومن عدم إدراك للكيفية التي تنظم بها هذه المؤتمرات وطريقة سيرها. يأخذ كثير من المنتقدين الأمور بمظاهرها وعذرهم الوحيد هو تحمسهم للقضايا العربية بطريقة تجعلهم غير معنيين بالفهم، لذلك فهم يتخذون موقفًا ثم يبحثون عن المبررات، وفي بحثهم عن المبررات لا يستطيعون بناء خطاب متماسك، ذلك أن همهم الوحيد يصبح المعارضة للمعارضة.

الغريب هو أن قسمًا من هؤلاء يعتبرون أنفسهم أوصياء على الأكاديميين، فيتفضلون عليهم بالنصائح والتوجيهات. كان من الأجدر بهم قبل التوجه بها أن يتخلوا عن منطق الوصاية، فهو منطق خاطئ أصلاً، فليسوا أكثر وطنية وإن حاولوا أن يوحوا بذلك، وليسوا أكثر علمًا وتجربة ممن ينتقدونهم. قد تنطلي الشعبوية والديماغوجيا على قسم من الناس، وقد لا يملك المنتقدون من البضاعة إلا ذلك للأسف، وقد تكون انتقاداتهم في حالات أخرى من الرغبة في تصفية حسابات سياسية رخيصة، لكن اعتقادهم أنه بإمكانهم أن يرهبوا الأكاديميين بذلك هو اعتقاد سخيف.

حضور الأكاديميين العرب في المؤتمرات التي يحضرها اسرائيليون ليس باهتًا، وليس بمثل هذه السلبية، وهناك اعتراف متزايد بالإضافات التي يقدمونها وبالمواقع التي ما فتئوا يحتلونها على المستوى العلمي الدولي، وهو اتجاه مرشح للتصاعد. الصورة ليست بمثل هذه السلبية مطلقًا. نقطة أخرى أود الإشارة إليها، وهي مسألة الحريات الأكاديمية. إذا كانت هذه الحريات غير مضمونة فلا شيء مضمون على الإطلاق. الغريب أنه في وقت فهمت فيه الحكومات، حتى أكثرها ديكتاتورية، أن هذه الحريات أمر يجب التعامل معه، يصعد أوصياء جدد في كل مرة يعلمون الأكاديميين ما يجب عليهم فعله.

رأيي الخاص أن على الأكاديميين أن يواصلوا القيام بما يعتقدون أنه واجبهم، وألا يلقوا أذنًا إلى الإتهامات التي يناقض أصحابها أنفسهم، خصوصًا إذا كان هؤلاء من غير المؤهلين إطلاقًا لتقديم النصائح فضلاًعن أن يكون لاتهاماتهم أي صدى يفخرون به. لينفق هؤلاء وقتهم في أشياء أكثر قيمة، وليفهموا أولاً أن الوقت سلاح، وأن الديماغوجيا العقيمة لا تثمر إلا ترسيخًا للجهل.

س : كل هذا يحيلنا إلى البعد العربيّ في مسار الصراع في فلسطين، فمنذ أكثر من نصف قرن والعرب حكامًا وشعوبًا يعتبرون القضية الفلسطينية قضيتهم الأولى، وعلى الرغم من ذلك فإنّ تدخلهم وفق آليات ومناهج وطرائق متعدّدة، لم يمنع تفوّق الإسرائيليين ولا خسارة المزيد من الأراضي على حساب الاستيطان، ولم يتمكنوا بالمقابل من كسب الدعم الغربيّ والدوليّ لما ينادون به.
برأيكم أين هو الخلل بالضبط، هل هو في تدخّل العرب في حدّ ذاته أم في طريقة هذا التدخّل؟ أم في سقف المطالب والتي تبدو لبعض "البراغماتيين" مستحيلة وغير قابلة للتحقيق مع اختلال موازين القوى على الأرض؟



ج : منذ أكثر من نصف قرن أيضًا تتعامل الحكومات العربية مع قضية فلسطين بأقصى درجات الإنتهازية وتسخرها لخدمة أجندات لا علاقة لها بفلسطين وبحقوق شعبها، منذ أكثر من نصف قرن أيضا وهي تقمع شعوبها باسم فلسطين، وترمي بهم في أحضان السيطرة الأجنبية باسم عقلانية التعامل مع قضية فلسطين. أما الشعوب فهي تعتقد في غالبها أيضا، ومنذ أزيد من نصف قرن، أن قضية فلسطين تبرر تأجيل معاركها من أجل المعرفة والحريات والمواطنة والتعددية.

الخلل في هذه النظرة للأشياء، وهي مسؤولية مشتركة بين الحكومات والشعوب على حد سواء. هناك مقومات صمود نفتقد إليها، وسنظل كذلك طالما كانت نظرتنا تجزيئية للموضوع. نشوء اسرائيل كان نتيجة مخاض تاريخي طويل في أوروبا وكذلك محصلة عمل منظم وواع، من قبل القادة الاسرائيليين، بنجاعة الفكر العقلاني الذي جعل اللائكيين منهم يقودون المتدينيين نحو تحقيق هدف قومي تم الإعداد لنشره في صفوف اليهود بجميع أنحاء العالم بوساطة هياكل شفافة وعن طريق جهد جماعي لا يلغي التعدد في الآراء ويحتكم إلى الكفاءة ويزن نفسه بميزان النتائج الموضوعية.

لا يمكن هزم هذا المشروع بالإنتهازية السياسية من جانب حكومات لا تهتم سوى لأمن أنظمتها واستمرار استبدادها، ولا بالخطابات الديماغوجية العقيمة المتصاعدة كحشرجات جسد متحلل، لا ترقى للأسماع وان ارتقت فإنها لا تستقر فيها طويلاً، فهي كنار القش تنطفئ بسرعة دون أن تضيء أو تدفئ.

هناك عمل يستطيع إنجازه كل واحد منا، وهو اتقان عمله والقيام بواجباته كما تتطلبه منه، المعلم في فصله، والعامل في مصنعه، والمهندس على آلته، والعالم في مخبره...، فالصهيونية ليست سبب مآسينا وإنما أحد تمظهراتها، فمأساتنا أكثر عمقًا.

المسار طويل، لأن كل بناء يستغرق وقتًا، ونحن نبدأ مجددًا من شبه الصفر، فوحده العمل طويل المدى كفيل بتحقيق نتئج دائمة المفعول. بالموازاة مع ذلك ينبغي نشر فكرة ارتباط الحقول والحقوق ببعضها البعض، فالدفاع عن قيم الحرية وترسيخ ثقافة المواطنة ليس أمرًا مستقلاً عن الكفاح الطويل المدى من أجل فلسطين وغير فلسطين، ومن أجلنا نحن جميعًا. بالموازاة مع ذلك أيضًا لا أعتقد أن اختلال موازين القوى يبرر الرضوخ لإرادة الطرف الأقوى بتحالفاته الدولية وبترسانة الأسلحة المتوفرة لديه، هناك حد أدنى من الممانعة لا يجب النزول تحته، في انتظار تغير التوازنات، وهي ستتغير حتمًا، فذلك حكم التاريخ.


الحوار عبر "إيلاف" الإلكتورنية هنا :

حول النكبة مجددا

حول النكبة مجددا

بعض من دروس الأعداء
عدنان المنصر مؤرخ جامعي (تونس)


لا معنى لشهر ماي من كل عام دون تذكر فلسطين ونكبتنا. منذ إثنين وستين عاما والوضع على ما تركتنا عليه جيوش العرب وملوكها وجامعة دولها، لا بل أشد سوءا: شعب يقاوم في الوقت نفسه عسف المستوطنين وقهر الدول الكبرى، وظلم ذوي القربى، ومقومات صمود رسمي تتضاءل تحت شمس التاريخ الحارقة كجلد حمل ذبح منذ ستين عاما.
عندما ترك الأنقليز فلسطين للمستوطنين في ماي 1948، بعد ربع قرن قضوه هناك في تهيئة الظروف لشعب الله المختار حتى يضم إلى "تاريخه الطويل" قليلا من الجغرافيا العربية القاحلة، كان الإعتقاد أن الأمر لم يفلت تماما من يد العرب، وأن ما حصل ليس إلا حكم القوة الزائل تحت وطأة الإرادة المكافحة من أجل العروبة والإسلام وتحت قيادة جامعة المستبدين الناشئة والأنظمة الوطنية والقومية في المشرق الذي تنفس أخيرا ووضع عنه عهر سايكس وبيكو.
لا شيء كان يحرك العرب مثل فلسطين، وإن النظر في حركة التطوع التي شملت معظم البلدان العربية للقتال في فلسطين تبين أن الأمر قد هز الوجدان بطريقة أنست المستعمرين أنهم مستعمرون، والمستبد عليهم أنهم هم أيضا ضحايا التاريخ الجحود، مثل عرب فلسطين تماما. منذ ذلك الوقت والأمور لم تتغير إلا قليلا: شعوب تهتز لفلسطين في كل مجزرة للأرض والبشر، وتنسى في اهتزازها ذاك قيودها القديمة، وولاة أمور يتولون كل الأمور، ما ظهر منها وما بطن، تتجه نحوهم العيون فترتد في كل مرة خائبة حسيرة. منذ عقود ستة تتكرر هذه الحركة اليائسة والقاتلة، ذلك أن العرب مازالوا لا يعرفون النظرية التجريبية ويعتقدون أن التقاء نفس العوامل قد ينتج شيئا مختلفا في كل مرة...
عندما بدأت المنظمات الصهيونية في أوروبا ترسل بالمستوطنين إلى فلسطين العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر كان الأمر خطوة في مسار طويل انتقلت فيه "المسألة اليهودية" من مسألة أقلية دينية قابلة لوضعية الإضطهاد المعادي للسامية إلى وضعية قضية قومية تبحث عن حل سياسي. من زاوية تاريخية بحتة لا يمكن أن يبقى المرء ممتنعا عن ملاحظة الجهد الخارق الذي أنجزته الصهيونية كتعبير سياسي عن الحل القومي المنشود للمسألة اليهودية. ذلك ما يفسر دعوة رشيد رضا العرب، آنذاك، إلى الإستفادة من الدرس الذي قدمته الصهيونية، كانت تلك دعوة لا تعوزها الحكمة ولكنها بقيت إلى اليوم عويلا في صحراء التاريخ وقحط الثقافة السياسية العربية.
جاء نجاح الصهيونية في النهاية كمحصلة لتضافر عوامل مختلفة التقت في صعيد واحد يضيق المجال عن حصرها جميعا. على المستوى الفكري انتقلت الصهيونية الثقافية من وضع كانت المسألة اليهودية تطرح فيه بعبارات العاطفة والتباكي، إلى وضع مختلف تماما يمسك فيه اليهود بمصيرهم بأنفسهم ويعيدون تأسيس الهوية اليهودية من جديد. لم يبق في ذاكرتنا عن صهيونية هذه المرحلة سوى تيودور هرتزل. غير أن الرجل، رغم الجهد التنظيمي والتنظيري الذي قام به، لا يكاد يكون له كبير حضور في الذاكرة اليهودية المعاصرة إذا ما قورن بآخرين ممن هيأوا الفكر اليهودي لتقبل الصهيونية وتطويع الفهم التوراتي لضرورات المرحلة الجديدة، مثل ليو بينسكر وموشي لليانبلوم وأحد عام، وهم أيضا من التيار الصهيوني العلماني. إن أهم انتصار للفكرة الصهيونية هو ذلك الذي حققته داخل الفكر اليهودي فثورته وجعلت منه سندا للمشروع القومي الصهيوني. ما يجب الإحتفاظ به هو أنه في مثال الصهيونية لم يستغرق الجدل حول مسألة التوفيق بين المعتقد الديني والأهداف القومية سوى الوقت الضروري لتحقيق إقلاع آمن، بعد ذلك أمكن حل بقية التعقيدات المرتبطة بنقل المسألة من مجرد رؤية نظرية إلى مشروع مجسم على الأرض. من جهة أخرى، وفي تكامل تام مع هذا المسار، حصل تحالف متين بين أهم تيارين في الفكر الصهيوني: التيار العلماني والتيار الديني. كان تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية مظهرا من مظاهر نجاح هذا التحالف، وهي المنظمة التي أخذت على عاتقها متابعة إنجاز مراحل المشروع النهائي الهادف إلى تأسيس دولة لليهود في فلسطين. غير أن هذا التحالف لم يكن هدفه إنهاء الخلافات بين التيارين وإنما تنسيبها بدفعهما نحو انجاز مهمة واحدة وفي هياكل واحدة: كان هناك اتفاق على أن أهمية الهدف تلغي أية ذرائع لعدم التوحد، وهي قناعة لا تزال تقود المجتمع الصهيوني اليوم في مواجهة كل المسائل التي يطرحها استمرار وجوده. لقد قدمت المنظمات الصهيونية المتدينة، وخاصة منظمة "عشاق صهيون" القوة البشرية الدافعة للمشروع الصهيوني، ورغم مركزيتها في الحركة الصهيونية فإنها قبلت بالتحالف مع العلمانيين الصهيونيين (رغم ضعف تمثيليتهم ونخبويتهم) وحتى بالإندماجيين الذين انخرطوا من جهتهم في العمل الخيري عن طريق الدعم المالي للمستوطنين اليهود في فلسطين.
إن المشروع الصهيوني مشروع قومي بدرجة أولى، وديني بدرجة ثانية. يمثل الدين الغطاء الذي التحف به الجميع ذلك أنه كان يقدم الشرعية التوراتية العليا لكل المشروع مصبغا عليه هالة من القداسة. لا نفهم سر نجاح المشروع الصهيوني في إنجاز كيان سياسي بفلسطين دون أن نأخذ ذلك بعين الإعتبار: من منطلق استعماري بحت، كان العلمانيون في الحركة الصهيونية الذين صاغت الحركة الإستعمارية الأوروبية فكرهم إلى حد ما، ميالين للبحث عن مجال جغرافي مختلف لتأسيس كيان اليهود السياسي. لذلك فقد اتجهت أنظارهم نحو الأرجنتين على سبيل المثال، وهو أمر نجد له أثرا واضحا في كتاب هرتزل "دولة اليهود"، ذلك أنه كان يؤمن أنه لا نجاح لمشروع دولة ما لم تكن له قاعدة اقتصادية مريحة. غير أن هذاالتوجه كان يلغي الطابع الديني للمسألة اليهودية، وهو طابع حددته التعاليم التوراتية بوضوح من ناحية تأكيدها على أرض الميعاد: "السنة القادمة في أورشليم" لم تكن تعني "السنة القادمة في الأرجنتين" حتما. لو قدر للتيار العلماني في الحركة الصهيونية أن يواصل السير في تلك الطريق لكان الأمر قد قضي تماما ولعادت الفكرة الصهيونية فكرة نخبوية عاجزة عن أن تجسم على أرض الواقع. كانت تلك النخبة في حاجة إلى دعم بشري واسع، وككل مجتمع في مرحلة اضطهاد فقد كان الحقل الديني، بوصفه أحد أهم حقول الهوية تاريخيا، قادرا على مد النخبة بما تحتاجه: جمهور واسع من المتعطشين لتحقيق الأهداف الصهيونية يدفعه في ذلك إيمان توراتي لا يرقى إليه شك بعدالة الطموحات القومية اليهودية.
عندما نقول أن المشروع الصهيوني هو مشروع قومي بالأساس فإننا نعني أنه كان يقدم الحل لقضية قومية أصبح تجاوزها مستعصيا بالطرق القديمة. لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية الخدمات التي قدمتها اللاسامية للمشروع الصهيوني، بل إن هرتزل الذي كان أكثر الشخصيات الصهيونية وضوحا إزاء هذه القضية، اعتبر أن اللاسامية ليست مشكلة بل جزءا من الحل القومي، إذ أنها تعطي للمشروع الصهيوني قوته الدافعة عن طريق تحطيم آمال اليهود في الإندماج في المجتمعات الأوروبية، بغض النظر عن جدوى قوانين التحرير وتطبيقاتها حتى في البلدان التي لم تكن الحكومات فيها تغطي عمليات الإضطهاد (أوروبا الغربية).
من ناحية تاريخية أيضا لا يمكن نكران التأثر الذي أحدثته الفكرة القومية الأوروبية على الحركة الصهيونية بحيث بدت الصهيونية منسجمة في عصرها رغم حضور الطابع الديني فيها. وفي السياق ذاته فإن الحركة الإستعمارية الأوروبية التي عرفت أوجها في أواخر القرن التاسع عشر قد جعلت من تأسيس دولة على أرض الغير أمرا مقبولا به أخلاقيا من منطلق المهمة التمدينية التي قرر الغرب أن يضطلع بها في القارات المتخلفة، هذا أمر شديد الحضور في الخطاب الذي ألقاه تيودور هرتزل أمام القيصر الألماني في فلسطين (2 نوفمبر 1898). كانت الصهيونية منسجمة مع عصرها ، "عصرية تنمو من صميم أحوال اليوم الحاضر " كما قال في نفس الخطاب، ولا تشكل أي نشاز مع الفكر السائد في أوروبا ومع الطموحات القومية اليهودية.
هناك من جانب الصهيونية قدرة فائقة على التلاؤم مع عصرها وتوجيه كل العوامل لخدمة أهدافها النهائية، من هذاالمنطلق فإن استخدام التحالفات مع القوى الكبرى ليس العنصر الوحيد الذي خدم تحولها من فكرة إلى كيان سياسي، ذلك أن أهم التحولات قد جاءت نتاج حركة داخلية في الفكر اليهودي وضعت نصب عينيها تأسيس مشروع دولة، بغض النظر عن عدالة هذا التأسيس من عدمه. التاريخ إرادة الأقوى دائما، ومحصلة صراع إرادات. من المنطلق ذاته فإن الإيديولوجيا ليست مقدسة لذاتها بل هي عنصر من جملة عناصر يقع توظيفها في تحقيق إرادة الشعوب والأمم.
عندما جاء اليهود من شرق أوروبا كانوا قد حملوا معهم الأفكار الإشتراكية، مثلما حمل يهود أوروبا معهم الفكر الليبرالي الإقتصادي وتقديس الربح والمبادرة الفردية. بالموازاة مع التكامل الذي حصل بين العلمانيين والمتدينين، حصل تكامل آخر كان من نتائجه بناء مجتمع يهودي صهيوني قادر على البقاء، إلى حد ما، باستعمال موارده الذاتية.
كانت المستوطنات التي وقع تأسيسها على أراضي عربية (فرطت فيها الإقطاعية المحلية للمستطنين اليهود) قد بدأت البحث عن سبل بقائها بالتوجه نحو اقتصاد الربح، وهو أمر طبيعي باعتبار أن الممولين قد جاؤوا من أوساط الإستثمار والأعمال. لكن سرعان ما توقف الممولون أمام سؤال حارق: هل الهدف هو تحقيق الربح، أم وضع أسس مجتمع صهيوني مكتف بذاته وقادر على الإستمرار؟ هنا حصلت انعطافة كبرى أسهم فيها الإشتراكيون الصهيونيون عن طريق تصور مستوطنات خارجة عن الدورة النقدية، معولة فحسب على اليد العاملة اليهودية، وقائمة على العمل الجماعي التعاضدي. لم يتساءل الأولون إن كان ذلك مناقضا لمبدأ المبادرة الحرة، كما لم يتساءل الآخرون إن كان الأمر يسرع أو يؤخر قيام المجتمع العمالي على أرض الميعاد، ذلك أن الإيديولوجيا ليست مقدسة إلا في حدود قدرتها على تقديم إجابات لتحديات الواقع.
هناك جهد كبير يتوجب القيام به من أجل فهم طبيعة المشروع الصهيوني بفلسطين، ومن المعيب أن الأوساط المهتمة بقضية هذه الأرض وهذا الشعب تظل تنظر للمسألة من زاوية العداء الغريزي الذي لا يقدم بنا خطوة واحدة للأمام. كما أن هناك دروسا يفترض أن نتعلمها من الآخرين، وخاصة من أعدائنا الذين نجحوا. لا يتعامل مع مسائل كتلك التي يطرحها الصراع العربي الصهيوني من منطلق الكراهية أو المحبة فهذا حقل آخر قد يقع الإحتياج إليه في بعض الحالات، ولكنه قد يتحول إلى عبء على محاولة الفهم. طيلة عقود ستة، واجه العرب والمسلمون إسرائيل ومشروعها بالعواطف، لكن أقلية محدودة تعاملت مع الموضوع تعاملا عقلانيا وفهمت أن أول سبيل القدرة على مواجهة ذلك المشروع الذي لا يمكن اعتباره، في أدنى الحالات، سوى اعتداء على الإنسان وقيم العدالة، يمر بمحاولة تفكيك عناصره والتعامل العقلاني معه لاستباق التطورات التي قد تطرأ عليه، وبالتالي علينا.
طيلة عقود ستة هي تاريخ الصراع بين اسرائيل وجيرانها العرب، تركز أكبر جانب من الصراع الحقيقي بين القوميين واليساريين، وبين الشيوعيين والبعثيين، وبين أولئك أو بعضهم وبين الإسلاميين، متطرفهم ومعتدلهم. طيلة عقود ستة كانت فلسطين وقضيتها بضاعة رخيصة في سوق الإيديولوجيات الرثة، وغطاء يشرع لقيام الأنظمة وسقوطها وعنصرا قارا في التجاذبات بين الحكومات ومعارضيها. ما يثير الانتباه هو أن فلسطين التي تسكن قضيتها الوجدان العربي منذ عقود عديدة، وقبل اعلان قيام الكيان الصهيوني على أرضها، والتي يقول الجميع، من مختلف الحساسيات وفي كل الفضاءات، أنها قضيتهم الأولى التي يهون من أجلها كل شيء، لم تقدم الذريعة الكافية لتحقيق مثل هذا التوحد. يضيء ذلك الأهمية الحقيقية التي تحتلها هذه المأساة من وجداننا إذ أن المرء لا يضحي إلا من أجل ما يعتقد أنه يستحق تضحيته، وحتما فإن الإيديولوجيا عزيزة علينا جدا فقد ورثناها كابرا عن كابر ولا نرضى عنها بديلا، فنحن أمة ايديولوجيا، نعتقد أننا نسقط إذا سقطت. لا يرضى علمانيونا أن يقودهم متدينون، ولا يقبل متدينونا أن يتزعمهم علمانيون، فهناك حدود لكل شيء !

مقال صادر
بموقع الأوان

http://www.alawan.org/%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D8%AC%D8%AF%D8%AF%D8%A7.html

مزالق الاستشراق قراءة في كتاب الإستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، مقالة في الإسلام "المبكّر"، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا" عدنان المنصر، موقع الأوا


قراءة في كتاب
الإستشراق الأنجلوسكسوني الجديد،
مقالة في الإسلام "المبكّر"، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا"

عدنان المنصر، موقع الأوان،

كتاب الأستاذة آمنة الجبلاوي الموسوم بـ"الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، مقالة في الإسلام "المبكّر"، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا"، هو في الأصل بحث جامعي ناقشته المؤلفة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحضارة العربية الإسلامية بالجامعة التونسية. يقع الكتاب في 232 صفحة من الحجم المتوسط (1) وقد ضمّ بالإضافة إلى المتن بعض الملاحق التي تساعد القارئ على الولوج إلى بعض المفاهيم المتناولة في المؤلف وكذلك عددا من المراسلات التي تمّت بين الأستاذة الجبلاوي ومايكل كوك، أحد المستشرقيْن الذين اشتغلت المؤلفة على كتاباتهما حول الإسلام المبكر.

في حوار مطول مع مجلة حقائق التونسية يعود إلى جويلية 1995 عدد المؤرخ هشام جعيط مكامن الخور في المنهج الاستشراقي الجديد الذي تمثله باتريسيا كرون بدرجة أولى، وخلص إلى التخوف من تأثيرها على أجيال الباحثين الشبان وهو تأثير يستند بالأساس إلى الإعجاب بطابع الاستفزاز الذي تعتمده عن طريق التشكيك في كل شيء يخص الإسلام والقرن الأول من تاريخه، أكثر من استناده إلى أي تناول علمي حقيقي. غير أن هشام جعيط وإن اعتبر أن إسقاط أبحاث كرون في الماء ليس بالأمر الصعب فإنه اعتبر الجهد البسيط المطلوب لذلك مضيعة كبيرة للوقت لا تضاهي القيمة الحقيقية لكرون وغيرها من ممثلي التيار الذي تنتمي إليه. في هذا السياق يبدو عمل آمنة الجبلاوي استجابة لحاجة معرفية في أوساط التاريخ والحضارة الإسلاميين، وهو حتما ليس مضيعة للوقت كما قال هشام جعيط، فالباحثة تتصدى بهذا الجهد لمهمة شديدة الخطورة تستحق أن يبذل كل جهد من أجل إنجازها. في مثل هذه الأعمال من الأفضل أن يتم الأمر بالطرق العلمية وبإتباع منهج بحث سليم، وهو ما تقوم به آمنة الجبلاوي.

قسمت المؤلفة عملها إلى بابين تناولت في الأول "مشاغل الباحثين" بما يعني المواضيع الأساسية التي اشتغل عليها كلّ من كوك وكرون، وهي أساسا أطروحتهما حول تشكّل الإسلام، أو ما يسمّيانه "بالهاجرية"، و"مسألة السياسة المبكّرة أو طبيعة النفوذ الدينيّ في القرن الأوّل للهجرة"، وقضية الاقتصاد المكّي وعلاقته بنشوء الإسلام. أمّا الباب الثاني فقد خصّصته المؤلّفة لتتبّع منهج الباحثين من جهة طبيعة نظرتهما لمصادر دراسة تاريخ الإسلام المبكّر وموقفهما من المصادر العربية، مع نقد مكثّف من طرف المؤلّفة لهذا المنحى تولّت خلاله فضح الهنات المنهجية وتبيان محدودية الاستفادة، موضوعيا، من المصادر التي اعتبر المستشرقان أنّها كافية لوحدها لدراسة إسلام القرن الأوّل.

يمثل كل من مايكل كوك Michael Cook وباتريسا كرون Patricia Crone اتجاها متمايزا عن الاستشراق التقليدي بالفعل، فقد اشتغلا، إمّا فرديا أو بصفة مشتركة، على مسائل وإشكالات مركزية في نشأة الإسلام بنظرة مختلفة عن الاتجاه التقليدي الذي يمثله لامنس Lamensأو وات Watأو لويس Lewisوغيرهم. يقوم إنتاج المستشرقين الأكاديمي على عنصر أساسي وهو إعادة التفكير في كثير من الإشكاليات بالاستغناء عن المصادر العربية، على أساس أنها لا تنقل صورة واقعية عن إسلام الجذور، بل وجهة نظر أطراف معيّنة أخضعت المصادر لانتظاراتها السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، وأنّ الحلّ الجذريّ يكمن في التعويل على مصادر "محايدة" أو "خارجية" كما يقول الباحثان مثل المؤرّخ البيزنطي بروكوبيوس وبعض البرديات والموادّ الأثرية والقصائد والأخبار اليونانية واللاتينية والعبرية والسريانية والقبطية والآرامية.

تتوقّف آمنة الجبلاوي عند هذه النقطة الأساسية في منهج المستشرقين كرون وكوك، لتؤكّد استحالة اعتبار هذه المصادر بريئة تماما أو على الأقلّ أكثر تجرّدا من المصادر الإسلامية، فهي "نابعة من شهادات من هم في موقع المنخرط في الصراعات الدينية والعسكرية والسياسية مع الحضارة الإسلامية، مما ينقص من براءة وموثوقية هذه النصوص ويدعونا إلى التريّث قبل الإسراع في التعامل معها بثقة لامحدودة" (ص150). يتناغم ذلك مع نقد الكثير من المؤرخين لمنهج المستشرقين المذكورين، حيث تقوم المسألة على منطق واضح لخّصه دانييل نورمانD.Nordman بالسؤال البسيط التالي : هل يمكن لدارس المسيحية أن يستغني بتاتا عن المصادر المسيحية على أساس أنها غير محايدة ويعتمد فحسب على المصادر "الخارجية" الأخرى؟

في الأصل، لا ينبغي أن يتعلّق الأمر هنا سوى بالمنهج العلمي، ولأنه ليس بإمكان المؤرخ أن يخترع منهجا جديدا في كلّ مرّة، فإن الانتقائية المنهجية تبدو أخطر أنواع الانتقائية العلمية على الإطلاق، إذ أنها تسقط الباحث في وحل الخصومات الإيديولوجية المتخمة بسوء الفهم المتعمد، وتنزل بالحوار العلمي إلى حضيض الجدل الديني والاستعلاء الثقافي. لا يمكن لمؤرخ يحترم اختصاصه ومنهجه أن يصف المسلمين، عندما يكونون موضوع دراسة علمية بأنهم "وكر لصوص" أو أن يقول إنّ زعيمهم، محمّدا، قد "رفع لديهم روح القتال والجشع القبلي إلى مرتبة الفضائل الدينية العليا"، إلى غير ذلك من الانزلاقات غير المبرّرة في عمل يدعي العلمية والتجرد. لا غرابة إذا أن يذهب فيكتور سحاب إلى القول بأن الأمر لا يتجاوز "تنفيس كرون عن مشاعرها حيال الإسلام ويظهر قوّة تأثير عواطفها الشخصية في إفساد تحليلها التاريخي إفسادا تامّا ينزع عنه أية قيمة مرجعية" (ص 172).

عندما يدعو الباحثان إلى اعتماد الأركيولوجيا في فهم تاريخ الإسلام الأول يفوت كليهما التأكيد على هزال المادة الأركيولوجية التي يعتمدانها، حيث يكاد الأمر يقتصر على بعض قطع العملة القديمة وبعض الحروف على عدد قليل من المعالم. لا تبدو التجريبية هنا ذات فائدة كبيرة، كما لم يصرّح مؤرّخون قبلهما بوجوب التطابق الكامل بين المواد الأدبية والأركيولوجية كشرط لتأكيد صحّة حادثة أو أثر. من الغريب أنّ المستشرقين يضربان صفحا كلّيا على المصادر العربية بدعوى تأخّرها عن ظهور الإسلام (الحديث خاصة وكذلك كتب الإخباريين) أو عدم إمكان اعتماد القرآن مصدرا لتاريخ الدعوة، في حين أن المنهج التجريبي يفترض، هنا، إخضاع هذه المصادر للنقد والتمحيص وليس الإلقاء بها كليا وبصورة باتة. يتعارض ذلك مع منهج المستشرقين السابقين الذين تميز عدد منهم بحسن الإطلاع على المصادر العربية وإتقان لغة العرب، وبغض النظر عما توصلوا إليه من نتائج فإنه لا يمكن اتهامهم بالجهل بالمصادر العربية. حتما ليس كل جديد ضمانا للجودة، بل إنه في هذا المجال بالذات، وباعتماد هذا المنهج الأعرج، يصبح سقوطا للعلم وللمنهج التجريبي الذي يدعى احترامه.

توجّه آمنة الجبلاوي نقدا شديدا لمنهج كوك وكرون وتؤكّد التنافر الكبير بين ما يقع ادّعاؤه من علمية وبين حقيقة الاختيارات المتبعة من قبلهما. وأوّل مزالق المستشرقين في هذا الخصوص هو "محاولة تطويع المادة التاريخية بحيث تتناسب والنتائج التي يريدانها"، على نمط سرير بروكوست الشهير. هل قلة الثقة في سلامة المادة المصدرية العربية هي ما يدفع المستشرقين حقا لعدم إيلائها العناية اللازمة؟ ذلك ما يصرح به كلاهما على الأقل لكنهما لا يحترمان مبدأ القرب الزمني دائما، فيستعملان مثلا مادة مسيحية تعود إلى القرن العاشر، بل لا يعدمان أحيانا العودة إلى المصادر العربية (التي وقع إقصاؤها بصفة مطلقة) إذا ما صادف أن وافقت افتراضاتهما. من الخطأ اعتبار المصادر "الخارجية" محايدة دائما، ففي هذا المثال بالذات أنتجت المصادر المسيحية في ظرفية من الصراع مع العالم الإسلامي، مما يدعو المؤرخ إلى مزيد الحذر منها باعتبار الأعداء مشغولين دائما بتشويه صورة بعضهم البعض. لا يمكن لمؤرخ يعتد بمنهجه أن ينكر هذا الميل الطبيعي للمصادر للانسياق في الصراعات، وأن يتجاهل ذلك في مجهوده لبناء تعامل نقدي مع المادة التي يشتغل عليها. بالموازاة مع ذلك تهوي بحوث المستشرقين المذكورين أحيانا عديدة في الإسقاط، تلك الخطيئة المنهجية الكبرى التي لا يجب على مؤرخ أن يقع في حبائلها، فلا يضيرهما القفز من قرن إلى آخر، ومن فضاء إلى آخر، والمساواة بين مصدر يتعلق بحضارة قديمة وبين مقال صحفي صادر بالسودان في عهد جعفر نميري…إلخ. (ص 183-186).

تذكر المؤلفة اعتراضات المستشرقين على أعمال باتريسيا كرون ومايكل كوك، وهي اعتراضات عديدة تطال المنهج كما النتائج التي توصّل إليها الباحثان، مما يجعل من كتاباتهما أعمالا تفتقر إلى مصداقية علمية كبيرة. المشكل أن كرون وكوك ينتقدان اعتماد المستشرقين الكلاسيكيين على المصادر العربية رغم النقد الذي كانوا قد وجهوه لهذه المصادر، بل إنهما في سعيهما المتسارع لتحطيم ما أتى به السابقون لا يهتمان بإنجاز بناء جديد، حيث لا تبدو المعرفة بالتاريخ الإسلامي لديهما نتاج عملية تراكمية بل تهديما متواصلا، وبعض بناء أحيانا ولكن على فراغ.

في مؤلفهما الأساسي المشترك، هاجاريزم Hagarism (أنظر تفكيك المؤلفة لهذا المفهوم في القسم الثاني من عملها خاصة) يمضي المستشرقان إلى اعتبار الإسلام نتاجا للجمع بين قيم يهودية وقوة بدوية همجية. في هذا الكتاب تتراكم نتائج كل الأخطاء المنهجية التي ارتكبها المؤلفان من إسقاط وتجاهل للمصادر العربية وتعويل في غير محله على أركيولوجيا فقيرة ونصوص "خارجية" بعيدة عن الزمن التأسيسي للإسلام زمنيا وجغرافيا. على العكس من المنهج العلمي المعتمد في الدراسات التاريخية الجادة، يعمد الباحثان إلى طرح جملة من الخلاصات حول تاريخ الإسلام والقرن الأول ثم يقومان بكل المحاولات الممكنة وغير الممكنة لإثباتها، ليستخلصا في النهاية أن الإسلام لا يعدو أن يكون "ثقافة شبه لقيطة لأنها أخذت من كل حضارة شيئا ما" (ص 47). تعتقد المؤلفة أن الأمر نتيجة طبيعية لخواء المنهج وانتقائيته، وتعبير واضح عن سيطرة الأفكار الخاطئة المسبقة على عمل الباحثين. في خضم الكتابة "العلمية" تلك، لا يتورع كل من كوك وكرون عن إلصاق التقييمات السلبية والذاتية بالمسلمين وبالثقافة العربية التي نشأ الإسلام في فضائها، فيرميان كل التعبيرات الثقافية العربية بالسطحية وانعدام المضمون. لا يجد المؤلفان في التراث الإسلامي الوجداني أدنى درجة من الرومانسية، ماعدا زغاريد النساء (هكذا)، لذلك فإن الإسلام لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة اليهودية أو المسيحية اللتين كانتا قابلتين للتطور (ص 56). كما يؤكد المستشرقان عجز الإسلام عن استيعاب التراث اليوناني بانتقاء الأمثلة والمرور السريع من الانطباع إلى التأكيد، كل ذلك مع حرية نظرية كبيرة يقدمان فيها أمثلة متباعدة في الزمان والمكان في تجاهل تام لوجوه الالتقاء بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى. يبدو الإسلام إذا تراكما لجملة من التأثيرات وسعيا عبثيا للتمايز عن اليهودية وبعض مذاهبها بالذات، ديانة "خشنة" محكومة بمحددات تطور ثقافية جينية تجعله عاجزا، بوصفه التعبير الأمثل عن الهمجية، عن أن يقدم شيئا ذا بال للثقافة الإنسانية.

تتناول الباحثة بالنقد والتحليل أيضا دراسة باتريسيا كرون حول الاقتصاد المكي وعلاقته بظهور الإسلام والذي حاولت فيه نقض النظرية الاقتصادية التي تقوم على اعتبار الإسلام نتاجا لوضعية اقتصادية مرتبطة بثراء النشاط التجاري المكي وكذلك بأزماته، وهي النظرية التي قامت عليها تحليلات وات، وخاصة لامنس. لا يبدو أن كرون معنية بتنسيب الأحكام السابقة أو بتعويض المعطى الاقتصادي بمعطى آخر أكثر صمودا أمام النقد، وإنما بنقض مكة واقتصادها من الأساس، حيث تعتبر اعتماد الدراسات الاستشراقية السابقة على المصادر العربية نقيصة تسمح بتجاوزها تماما، لتصل في النهاية إلى أن التجارة المكية أكذوبة كبرى، وأن مكة لم تكن مفترق طرق التجارة، وأن البضائع المتبادلة بين المكّيين وغيرهم لا تبرر الحديث عن نشاط تجاري حثيث، بل إنّ مكة التي يتحدث عنها المسلمون، وكذلك المستشرقون، ليست هي مكة المعروفة اليوم، وإنما قد تكون القدس الحالية، فكل ما وصلنا عن مكة لا يعدو أن يكون في نظرها سوى نتاج للخلط مع أماكن أخرى، وتضخيم متعمّد مصدره الشوفينية العربية. في خضم ذلك تحطم كرون، في تجاهل تام لدراسات بالغة الجدية حول المسألتين، فكرة الحرم وكذلك معنى الإيلاف، وقد ذهبت الدراسات السابقة إلى اعتبارهما من أهمّ عوامل الأمن الميسّر للنشاط التجاري في مكة ولريادة دورها الاقتصادي في الجزيرة العربية. تتعجّب آمنة الجبلاوي من انطلاق كرون هنا، وفي كل المواضع الأخرى، من "أطروحات ثابتة ونتائج محدّدة" وتحاملها على هذه الفترة باتباع سلوك انطباعي وتبني "عدائية محيرة" تجاه موضوع بحثها (ص 118-119).

يبدو من العسير، في هذا المجال المحدود، تتبع كل النقاط التي تثيرها المؤلفة في سياق تفكيكها للخطاب الاستشراقي كما يبدو من خلال كتابات كوك وكرون، غير أن ما نرمي التأكيد عليه هو بالأساس الخواء المنهجي الذي وسم أعمال المستشرقين المذكورين والذي جعلت منه آمنة الجبلاوي نقطة الارتكاز الرئيسية في دراستها. الكتاب متخم بالأمثلة عن المزالق المنهجية لهذا التيار الاستشراقي الجديد، وهو من هذه الناحية يمكن اعتباره رصدا علميا لظاهرة الخلط والإسقاط التي تسم أبحاث بعض المتصدين لدراسة القرن الأول من تاريخ الإسلام. من الهام التأكيد هنا على الإضافة الثابتة التي قدمها الاستشراق الأوروبي في فهم جوانب من تاريخ الإسلام كظاهرة تاريخية وتعبير ثقافي وسياسي عن هوية في طور التشكل في القرن الأول، وبغض النظر عن كون الخلاصات التي انتهت إليها الدراسات الاستشراقية الجدية قد صدمت في أحيان عديدة معتقدات المسلمين في تاريخ طهوري نقي ومستقر، فإنها قدمت منهجا علميا يعتد بمعظمه في الأوساط الأكاديمية. غير أن القضية تكمن، في أحد جوانبها، في ميل الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، في النموذج الذي يقدمه كل من كوك وكرون علي الأقل، إلى نقض الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والأطروحات التي تضمنتها بضربة مكنسة وحيدة، لمجرد اعتمادها كجزء من مصادر البحث، على الآثار الكتابية العربية. هل يعوض ذلك الإقصاء تجريح النصوص ووضعها تحت مجهر النقد العلمي بالنسبة لمؤرخ يفترض أن يكون له نوع من البرود الأدنى تجاه موضوعات بحثه؟

تشير المؤلفة إلى تشابه بين التمشي الذي يتبعه الاستشراق الجديد، ممثلا هنا بكوك وكرون، وبين ذلك الذي ينتهجه الخطاب السلفي حول الإسلام الأوّل، فالخطاب السلفي يعتبر نفسه الحامي الوحيد للحضارة الإسلامية من زيف "التحريف" المنطلق من "نوايا خبيثة". بالموازاة مع ذلك يعتبر الخطاب الاستشراقي الجديد "وصيّا" على الحقيقة التاريخية ومحتكرا لها (ص 164). في الحالة الأولى يمثّل الإيمان الدافع الأساسيّ لسلوك يتعارض في أحيان عديدة مع الموضوعية التاريخية، أما في الحالة الثانية فإنّ ادّعاء العلمية الأخرق يغطي على فراغ المنهج وعدم استناده إلى مقاييس تناول أكاديمي رصين. وبالفعل فإنّ التمجيد من منطلق إيماني، مثل التحطيم من منطلق استعلائي، لا ينتجان إلا حالة متشابهة من التنكر للموضوعية التاريخية العلمية.

إنّ المعارضة الكلية والتامّة لنتائج البحث الاستشراقي في تاريخ الإسلام يبدو نتاج سلوك وثوقيّ غير علمي يستقي شرعيته من الرغبة في الاحتفاظ بصورة معيّنة عن تاريخ الإسلام، بغضّ النظر عن واقعيتها بالمقارنة مع ما يفترض أن يكون حقائق علمية تثبتها البحوث. غير أنّ اعتبار كلّ العمل الاستشراقي إضافة يعتدّ بها في فهم تاريخنا لمجرّد أنها تزعزع معتقداتنا لا ينبع هو الآخر من سلوك أقل مرضية وخواء. في السياق ذاته فإن تمجيد الماضي، وهنا القرن الأول، لاعتبارات إيديولوجية مرتبطة بتوازنات معينة حكمت توزيع السلطة بين الفرقاء التاريخيين وتفاعل الديني مع السياسي على أرضية قبلية، ليس أقل مجلبة للاتهام بانعدام العلمية والموضوعية من تحطيم التاريخ الإسلامي كله بمسح القرن التأسيسي من التاريخ والإلقاء به في مرتبة الخرافة المفتعلة، لاعتبارات تفضح نفسها بالإسقاط والتحامل والموقف الثقافي الاستعلائي. تقول آمنة الجبلاوي في خاتمة دراستها أن كلا من كوك وكرون، بكثرة انتقائهما الأمثلة من حاضر الإسلام والقفز عبر القرون دون منطق علمي إنما كانا "يكتبان تاريخ القرن السابع بهواجس القرن العشرين ويجيبان عن أسئلة الماضي بما يوافق حاجات الحاضر" (ص 196)، وهي خلاصة تؤكّد من خلالها المؤلفة ما ذهب إليه إدوارد سعيد من ارتباط جزء من البحث الاستشراقي بحاجيات إستراتيجية معيّنة لدى قوى مثل الولايات المتحدة. "هل هناك من يقين في ما يؤمن به المسلمون اليوم؟" (ص 147) لا يبدو في هذا السؤال الذي يطرحه المستشرقان أيّ استفزاز من الناحية الموضوعية، ولكنه يفضح منهجا ويعرّي الاعتبارات الثقافية والإستراتيجية والسياسية التي يبدو أنها تتحكم في جانب معتبر من إنتاجهما الأكاديمي حول تاريخ القرن الأول. هذا القرن "سرق من تاريخنا" وحل محله "الفراغ" كما تقول آمنة الجبلاوي، غدا كأنه لم يكن، وكأنه "كخرافة عديمة الجدوى" (ص 188).

هذا الكتاب هام لأنه تفكيكيّ لا يتناول الخطاب الاستشراقي من منطلق العداء أو الإعجاب، بل يخضعه إلى المنهج العلمي الصارم، لذلك فهو من الكتب التي يجب أن تقرأ بعناية كبيرة. ورغم أن درجة التكثيف فيه كبيرة، وهذا متوقّع باعتبار طابعه الأكاديمي، فإنّه متاح أمام المنشغل بالإشكالات التي تثار حول تاريخ الإسلام والصراعات التي تندلع من حين إلى آخر بمناسبة أو دون مناسبة كلما تعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، بل وبالثقافة العربية الإسلامية في بيئتها الثقافية والجيوستراتيجية الراهنة. هذا الكتاب ينبغي أن يقرأ، لأنه كان ينبغي أن يكتب، وقد كتب.

هامش:
1- وذلك في طبعته الأولى الصادرة عن دار المعرفة للنشر بتونس (2006)، وفي 248 صفحة في طبعته الثانية الصادرة عن دار الجمل (2008)، ونشير هنا إلى أننا سنعتمد في ذكر الإحالات على الطبعة الأولى

المصدر
موقع الأوان، 9 جوان 2010

http://www.alawan.org/%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82.html

A tous ceux qui ne retrouvent leur courage que devant un cadavre : un peu de respect s’il vous plait !!

Mzali est décédé hier à l’âge de 84 ans dans un hôpital de Paris. L’homme souffrait depuis quelques temps de complications cardiaques. Ecarté du pouvoir il y a presque un quart de siècle, et ayant vécu en exil presque vingt années, c’est maintenant qu’il est vraiment mort. Demain il sera six pieds sous terre, ou un peu moins, là n’est pas la question. Ce qu’on découvre des réactions sur le réseau FB n’est pas sa disparition, mais ces « courageux », ces « gens de principes » qui ont enfin une occasion de se montrer militants, amoureux du peuple que Mzali aurait massacré par sa politique abominable. L’homme ne mérite pas qu’on prie pour sa miséricorde, apparemment ! Ceci me rappelle un certain chef d’opposition, vivant actuellement en exil à Londres, qui croyait que c’est de son propre vouloir que dépendrait le « sort métaphysique » de Bourguiba, refusant un petit « Allah yar7mou » qui l’aurait agrandi aux yeux de ses concitoyens. Décidément, tout le monde n’a pas le sens de la relativité !

Mzali fut un homme politique, un dinosaure d’une époque bien révolue. Quelle que fut sa politique, ses fautes, et ses dérapages, on ne peut le juger sans une certaine distance avec son époque, les historiens et certains des politiques le font bien, mais avant cela, il faut que le temps ait fait son travail. Certains le savent, d’autres moins, et c’est bien dommage. En attendant, traiter un homme politique comme on traite un vulgaire criminel, et attendre sa mort ou son départ des affaires pour crier son « courage », ne révèlent pas une grande âme. On aurait aimé voir les mêmes personnes vociférer les mêmes insultes à l’égard de certains vivants dont les déboires seraient bien plus évidents, mais ce serait trop leur demander.

J’appartiens à une génération qui est redevable à l’Etat de l’indépendance de tout ce qu’elle est devenue. Il ne s’agit ici d’aucun complexe, mais d’une reconnaissance, car maintenant je suis bien content d’être né à cette époque là. A cet Etat je suis redevable de mon instruction, d’avoir échappé à toutes les maladies qui sévissent toujours dans certains pays qui ont obtenu leur indépendance à la même époque que la Tunisie. A cet Etat je suis redevable de la maison de jeunes, ou "du peuple", ou j’ai appris les jeux d’échecs, et aux stades ou j’ai bien joué enfant. Mzali était en effet passé par tous ces départements !

Enfant du peuple ayant vécu la privation, Mzali fut fidèle à son pays, en s’intéressant à sa jeunesse, en s’engageant dans sa vie littéraire, en écrivant, en enseignant, et même en commettant ses fautes politiques les plus connues. Ceux qui font de lui une cible de vengeance politique bien tardive doivent certainement ignorer la nature et la structure du pouvoir sous Bourguiba.

J’ai connu cet homme en tant que sujet de recherche, j’ai travaillé sur ses écrits et sur sa politique, et je l’ai rencontré deux fois chez lui pour discuter de ses mémoires. J’ai aussi vécu les évènements de janvier 1984 (où « révolte du pain » comme on aime l’appeler) où j’ai appris surtout à le haïr. Mon petit village a essuyé des pertes humaines lors de la vague de répression qui a suivi une manifestation, presque la seule dans son histoire, et un camarade de classe avait succombé à des balles tirées à bout portant par les forces de l’ordre assiégées. Mzali ne fut pas un ange, certes, et avait lui aussi ses propres calculs ; qui n’en aurait pas parmi cette race ! Il a pourtant le mérite d’avoir été authentique, et d’avoir fait partie du petit nombre de bâtisseurs de la République qui avaient la suite dans les idées, et une conception assez claire du rôle de l’Etat national.

Quand je vois les Français revisiter la mémoire de Jacques Mesrine, le grand bandit et criminel français, et lui consacrer des dizaines d’écrits, d’émissions, et de films cinématographiques et documentaires, une tristesse me saisit : notre mémoire restera-t-elle à jamais sélective ? Sommes nous condamnés à porter toujours des jugements personnels sur ce qui est politiques, et des jugements politiques sur ce qui est personnel ?

Désolante est cette manie de vouloir prouver son courage devant un cadavre, déplorable est cette rapidité de porter des jugement arrêtés et standards sur un sujet qu’on devrait traiter avec un peu de retenue, d’habitude, quand il s’agit d’une personne disparue. Sauf que Mzali n’est pas disparu, ou du moins entièrement, comme bien d’autres avant lui, et certains de ceux qui suivront comme lui le même chemin.
Paix à leurs âmes donc, et à tous les « courageux », toute ma compassion.