mardi 20 janvier 2009

نيران صديقة




غزة غراد ... والدونكيشوتيون الجدد



" نيران صديقة "



عدنان المنصر




مقال صادر بجريدة الموقف التونسية بتاريخ 23 جانفي 2009

بدأ غبار المعركة ينقشع بعد عدوان لم تشهد البشرية مثالا له في الوحشية والهمجية، وبدأ عرب الإعتدال في حساب المنافع التي نشأت أو كان يمكن أن تنشأ من انكسار شامل للمقاومة التي واجهت، وحيدة، هذا العدوان. هرع شركاء العدوان إلى شرم الشيخ تاركين جانبا كل المشاغل التي "أعاقت" اطلاعهم على فظائع المحرقة الجديدة و إدانتهم لها. أصبخ المشهد، رغم عهره الواضح، تقليديا: حرب ثم مؤتمر لتشريع العدوان وإعطائه مكاسب سياسية، ثم "معونات إنسانية" ثم ملاحظة أن المقاومة لا تزال موجودة فحصار ثم حرب جديدة.

لم تكن غزة المسرح الوحيد لصراع لا يبدو أن العدوان الأخير قد شكل حلقته النهائية، وهو أمر يعود لعاملين أساسيين: حركة التعبئة السياسية والعاطفية التي أدى إليها العدوان على المستوى العالمي عموما وعلى مستوى الشعوب العربية والإسلامية خصوصا باعتباره تمظهرا لصراع جاوز عمره القرن، وطبيعة المواجهة التي جعلت حماس، بما هي سياسيا وإيديولوجيا، في مقدمة القوى المقاومة لمشروع وأد القضية الفلسطينية. هل العاملان وجهان لمسألة واحدة؟ يميل الكثير إلى القول بذلك، وفي حين يرى قسم منهم القضية بوصفها تأكيدا لدينية و قومية الصراع ضد إسرائيل ويسعى لاستثمار ذلك بكل السبل الممكنة في معارك أقل أهمية، يرى قسم آخر أن المسألة لا تعدو أن تكون "هيجانا عاطفيا" سرعان ما سينقشع غباره مع نهاية المواجهة الحالية وبالتالي مبررا للمحافظة على نوع من المسافة "العقلانية" والهدوء المتعالي عما يحدث.

لا نعتقد أن الصراع في فلسطين ديني بالأساس، وإن كان العامل الديني شديد الحضور فيه, كما أننا لا نعتقد أنه قومي بالأساس، وإن كان العامل القومي، هو الآخر، حاضرا بقوة في ثناياه، غير أننا لا نعتقد أيضا أن المسألة يمكن حصرها في حالة "هيجان عاطفي" لا تستحق منا سوى نظرة باردة متعالية. يمكن، إذا ما نظرنا على المدى البعيد، أن نرى بالعين المجردة، أنه فيما عدا صلب الصراع بوصفه صراعا بين الإنسانية والهمجية، بين العدل والظلم، بين القاهرين والمقهورين، بين أصحاب الأرض ومغتصبيها، فإن كل شيء آخر خضع لقانون النسبية التاريخية. ليست حماس ولا غيرها من الفصائل المقاومة سوى أحد الأشكال التي يتخذها نضال شعب يرفض أن يموت ضد أعتى وأكثر القوى دموية ووحشية في تاريخ البشرية الحديث. لا لزوم لتأكيد هذا الأمر بأمثلة إذ أنه من أكثر الأشياء وضوحا حتى بالنسبة لضعاف البصر والذاكرة. في كل مرحلة من مراحل النضال من أجل التحرر، تظهر حركات تحظى بشعبية هائلة لدى جمهور المقهورين تؤدي وظيفتها "الوجودية" فتنجح أو تمضي كمن سبقها. هذا أمر لا مراء فيه، ورغم ذلك فإن كلا المعسكرين يمانع في النظر إليه على هذا الشكل ويعتقد أنه الوضع النهائي لصراع لا يزال مفتوحا.

هل يحدد تنسيبنا للأمر، أو يفترض منه أن يحدد، درجة الإلتزام الذي ينبغي أن يحرك كل فرد منا تجاه الصراع الدائر؟ قطعا لا وإن بدا الأمر كذلك لدى بعض المغرقين في العقلانية الباردة من أيتام الحداثة المجهضة. ينظر هؤلاء إلى المسألة باستمرار وكأنها لا تهمهم، فينهالون نقدا وانتقادا على المقاومة والمتعاطفين معها، لا يحتفظون من الصراع كله سوى بالحد الأدنى المضمون: إبداء التعاطف مع الضحايا الأبرياء للمحرقة. فعلا، هم غرباء عن الصراع، وككل مغيبي الوعي، لا يفيقون إلا بعد فوات الأوان. إن ما يقلق هؤلاء، أو بعضهم، هو حالة التعاطف الجارف الذي حققته المقاومة، اعتقادا منهم أن حماس بصفتها الدينية والإيديولوجية هي من سيستثمر ذلك. لا يهمهم الصراع إلا من هذا الوجه، فيلقون بالرضيع مع ماء الغسيل دون أدنى أسف. قطعا، ليس ذلك من العقلانية في شيء. يسمى هذا السلوك اصطلاحا بالنيران الصديقة، تلك النيران التي لا تأتي من الأعداء وإنما من الصف الذي يفترض أنه يطلق النار حصرا على من هم في الطرف المقابل. وهذه النيران، رغم أنها لا تحدد غالبا مآل المعركة، فإنها كفيلة بإيقاع خسائر غير متوقعة في "الجبهة الداخلية".

فأن يختار أحد سدنة الحداثة في بلادنا يوم الجمعة 16 جانفي 2009 الذي كان أحد الأيام الثلاثة الأكثر تدميرا في قطاع غزة لممارسة هوايته المحببة في "النقد البناء" للمقاومة وثقافتها أمر مثير للتعجب على أدنى تقدير. فكر الرجل وقدر، ثم عبس وبسر، ثم قال بلهجة مطلق الأحكام الواثق من نفسه الذي تعود دائما بأن يقابل كل ما يقوله بالأفواه المفتوحة إعجابا، أن "حماس ليست حركة تحرر وطني". والسبب الذي بني على أساسه هذا التشخيص: أن "موقفها من حرية المرأة سلبي". أي إبداع هذا؟

ماهي حركة التحرر الوطني؟ ماهي الشروط التي يجب أن تتوفر في حركة مقاومة للإحتلال وللصهيونية حتى يتكرم عليها صاحبنا بالنعت المذكور؟ لا نعتقد أن المسألة تتعلق بالمرأة وحريتها مطلقا، فهذه المسألة لم تكن أبدا حاضرة كأولوية في حركات التحرر مشرقا ومغربا. هناك درجة دنيا من الواقعية تعوز هواة الإستمناء الثقافي، وهي تتلخص في أن الشعوب عندما تقاوم محتلا غاصبا وهمجيا ونازيا، تترك كل شيء جانبا إلى أن يقع تحقيق الهدف الأساسي من حركتها، وهو التحرر. يسمى ذلك "تكتيلا للجهود" و"ترتيبا للأولويات". عوضا عن ذلك كله يمضي صاحبنا ومقلدوه قدما في محاربة طواحين الهواء، في غيبوبة كاملة عن الواقع المحيط بهم. يمكن أن نتفهم الدفاع عن الحريات وبالأخص عن حرية المرأة وحتى عن المساواة في الإرث عندما يتعلق الأمر بنضال سياسي في إطار وطني. لا أحد يشكك، منطقيا، في جواز ذلك. أما عندما يكون الإنسان مهددا في وجوده ذاته، في أرضه وهويته وإنسانيته، فهو من الأمور التي يمكن أن تنتظر قليلا. ما عدا ذلك يسمى هذا السلوك إسقاطا لمشاكل وطنية النشأة على قضية لم يحقق حاملوها الحد الأدنى المطلوب للتمتع برفاهية هذا النوع من القضايا.

يناضل كثير من الدونكيشوتيين الجدد باستمرار، على النمط المذكور آنفا، من أجل قضايا يعتبرونها "أساسية" لمجرد أنهم يهتمون بها. يمكن أن نتفهم نقاء سريرتهم النضالية لو أرفقوا القول بالفعل وكانوا في مقدمة حركة النضال المدني من أجل الحريات، بما في ذلك حريات المرأة. ما يزعج فعلا هو أن المسألة أصبحت مجرد "رأسمال نضالي" وابتعدت شيئا فشيئا عن الواقعية المنتجة. كم من هؤلاء انتقل إلى الأرياف والأحياء الشعبية (التي لا نظنهم يعرفون أين تقع) لتوعية النساء بحقوقهن؟ كم منهم يحترم زوجته بالفعل ويرضى بأن تقاسمه أخته الإرث من والديه مناصفة؟ لا نعتقد أنهم كثر مهما ملأوا الدنيا صراخا.

كان بالإمكان، لو أرادوا، أن يمجدوا في نصوصهم التي لم يصدروها صمود المرأة الغزاوية الفلسطينية الصابرة التي ترسل بأبنائها الواحد تلو الآخر للموت في سبيل حريتها وحريتهم وبقاء الجنس البشري والمحافظة على الكرامة الإنسانية من المهانة، فتلك أيضا مرأة. كان بإمكانهم أيضا أن يقولوا، في المسيرات التي لم يشاركوا فيها، لأهل فلسطين، ونصفهم نساء، أن كل الإنسانية معهم في دفاعهم عن الحرية ضد الإستبداد والهمجية. كان بإمكانهم أيضا لو تبرعوا بدينار لأهل غزة الصابرين أن يدعموا صمود عائلة لليلة أخرى تحت القصف. ولكن عوضا عن ذلك كله فإن ما فعلوه كان إثارة التساؤلات والإستفهامات وطرح المشكلات في غير وقتها وظرفها. كم كنا نحتاج إليهم ولإبداعهم في وجه الدعاية الغربية المعادية لحق الإنسان في الحياة الحرة والكرامة المحفوظة، كم كنا نحتاج لعلاقاتهم فيما وراء المتوسط والأطلسي لنقل صورة مختلفة عن تلك التي تملأ الشاشات والصحف الغربية والتي تتجاهل مجهود الإبادة الإسرائيلي وتصب غضبها كله على مطلقي تلك "الشماريخ" وتعاقب شعبا كاملا بالحصار والقصف. كم كنا سنسعد لو رأوا في التعاطف الجارف مع الأهل في فلسطين نهوضا جديدا يعيد الحق لأصحاب الحق ولو بعد حين عوضا عن تسخيف وتتفيه كل الأشياء الحسنة التي تبدعها الجماهير المكلومة والعاجزة.

لنتساءل جدلا: إذا لم تكن حماس حركة تحرر، فماذا تكون؟ حركة دينية متطرفة مسلحة؟ سنمر سريعا على قضية أنها السلطة الشرعية في قطاع غزة وفي الضفة بعد فوزها في انتخابات حرة ونزيهة شهدت فتح وإسرائيل وواشنطن بنزاهتها، فهذا بالفعل مثير للأعصاب. سنمر أيضا سريعا على التطابق الذي يبدو كليا، في هذه النقطة بالذات، مع وجهات نظر نسميها ولا نصفها بالمنافقة سياسيا. مالذي يمنع شعبا من استخدام كل ما يراه صالحا لمقاومة عدوه وعدو الإنسانية؟ لا يرى هؤلاء أي عيب في الدور الذي لعبه الكاثوليك الفرنسيون في مقاومة النازية إبان الحرب العالمية الثانية، وقد لا يرون أي ضرر أيضا في الدور الخلاق للكنيسة الإفريقية في مواجهة نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، ولكنهم يرفضون بإصرار غير مبرر أن يكون للإسلام أي وظيفة في مكافحة الصهيونية والصلف الإسرائيلي. يعتبرون ذلك ضد التاريخ، وضد المنطق، وضد الحداثة. يخيل إليهم، سفها، أنهم المؤتمنون على ذلك كله، ولكنهم يغفلون (عن قصد؟) أنهم إنما يروجون لسيادة إسلام من النوع الذي يتطابق مع تصورهم ومع المضمون الذي يشحنون به عقول مريديهم. يصعب عليهم أن يروا في الإسلام غير مصدر للهزء والإستنقاص، وينسون أنهم في مسعاهم ذاك إنما يفهمون، هم أيضا، الواقع من خلال النص وليس النص من خلال الواقع كما يحلو لهم أن يروجوا. نرثي لهم فعلا فهم يرون كل شيء يسقط على رؤوسهم ويكذب "نظرتهم الثاقبة" وحداثتهم "اللاتاريخية" ويوقعهم في الإسقاط تلو الآخر. عوضا عن مراجعة أنفسهم بالشجاعة التي يطلبونها من غيرهم، يستمر هؤلاء في محاربة طواحين لا تنتج غير الرياح، في النظر إلى الوجود كله من خلال زجاج نوافذهم الضيقة المضببة، فيظلمون الإنسان والتاريخ والعقل والحداثة.

ليذهب هؤلاء إلى فلسطين وإلى غزة تحديدا، ولتكن لهم، هم أيضا، الجرأة على مراجعة أفكارهم. سيرون أن هناك شعبا صنع من الحجارة سلاحا، ومن "الشماريخ" سلاحا استراتيجيا ومن الصمود قاعدة ينمو عليها التاريخ من جديد ومن الإسلام دينا يساعد على الحفاظ على الجنس البشري . سيرون أن التاريخ ما يفعل وليس ما يكتب أو يقرأ، وأن الجغرافيا أمر يستحق ولا يوهب، وأن المنطق هناك أن تتمسك بوجودك، وأن كل الباقي، مجددا، مجرد تفاصيل.