vendredi 27 février 2009

عرق المقهورين

عرق المقهورين
عدنان المنصر
نشر بصحيفة الموقف التونسية بتاريخ 27 فيفري 2009

عن المغاربية للطباعة والإشهار صدر مؤخرا كتاب للباحث الأزهر الماجري، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة منوبة، بعنوان "عرق البرنوس"، وهو ترجمة لكتاب بول فينيي دوكتون Paul Vigné d’Octon (1859-1943)الصادر في بداية القرن الماضي (1911) والذي حاول فيه أنذاك توثيق البعض من مظاهر القهر الإستعماري في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-1940) والذي حمل عنوان La Sueur du burnous : les crimes coloniaux de la IIIe République. أحدث الكتاب في حينه ضجة كبيرة في الأوساط الإستعمارية نظرا للجرأة التي تميز بها في فضح التجاوزات الإستعمارية من خلال النموذج التونسي وخروجه عن "ضوابط" الكتابة الفرنسية حول الشأن الإستعماري.
لهذه الترجمة قصة ذلك أن معرب النص وقع صدفة عن نسخة من الكتاب المذكور في مكتبة شركة الفسفاط، عندما أجبر على الإنتقال للعمل في المتلوي في إطار نقلة عقاب بسبب نشاطه النقابي في قطاع التعليم الثانوي. غير أن الكتاب كان معروفا لدى المختصين في حقل التاريخ المعاصر وخاصة من أساتذتنا حيث نجده مثبتا في قائمات المصادر المستخدمة لإنجاز أطروحاتهم. من المفيد أن نشير هنا إلى أن كتاب دوكتون الذي عومل بكثير من الإزدراء من طرف الأوساط الإستعمارية لم يكن مصيره أفضل بكثير لدى الاحثين التونسيين عموما حيث يوضع عادة في صنف الكتابات السياسية التي لا يمكن الوثوق بها. بالرغم من ذلك فإن صاحب الكتاب، النائب في البرلمان الفرنسي ذي الميولات الإشتراكية والفوضوية، قد أنجز كتابه هذا في إطار بعثة تقصي حقائق قادته إلى شمال إفريقيا بصفة متقطعة بين 1907 و 1909. وقد سمحت له مهمته تلك بالإستماع إلى الكثير من الشهود ومعظمهم من التونسيين عن عمليات سوء التصرف والرشوة والإستبداد والإستغلال التي كانت تثقل كاهل الفئات الريفية الفقيرة. يعود للأستاذ الأزهر الماجري الفضل في بعث هذه الوثيقة من جديد وإتاحته كنص مصدري أمام الباحثين والطلبة ومجموع المهتمين بالحقبة الإستعمارية في بلادنا. ولكن مهمة الأستاذ الماجري لم تقف عند حدود التعريب الذي كان جيدا من وجهة نظرنا، بل في القيام بجهد بحثي ترجمت عنه عملية التحقيق التي توخى القيام بها أحيانا وكذلك وضع فهارس ثرية تساعد على مطالعة الكتاب والولوج إليه بيسر أكبر.
هذا الكتاب هو أحد الأجزاء الثلاثة المكونة للنص النهائي لتقرير دوكتون، حيث خصص المؤلف الجزء الثاني والثالث للجزائر والمغرب.يمكن تقسيم الكتاب إلى محاور اهتمام متعددة تلتقي جميعها في توضيح أبعاد العملية الاستعمارية وتأثيراتها على حياة التونسيين. فقد اهتم المؤلف بتحليل أوجه الفساد الإداري في إدارة الحماية والإدارة التونسية، مبينا أوجه الإرتباط يين النظام الإستعماري وبين ظاهرة الفساد. كما تعرض إلى قصية الإستيلاء على الأراضي التونسية من طرف كبار المعمرين والشركات الرأسمالية وبتسهيل من رجال السياسة والإدارة. كما تناول دوكتون قطاع المناجم والسكك الحديدية من خلال مثال شركة فسفاط قفصة ومعاناة الخماسة، إضافة لمواضيع سياسية وقانونية مثل قضية العدلية التونسية ووضع الصحافة وتقييم نقدي لحركة الشاب التونسي.
يلاحظ المطلع على الكتاب تركيز المؤلف على أوضاع الجنوب التونسي، وقد برر ذلك بقوله أن هذه المنطقة هي الأكثر تعرضا للعسف والاضطهاد بسبب بعدها عن العاصمة حيث تتركز السلط وأجهزة المراقبة وحيث يمنع التطور النسبي للرأي العام من وقوع الكثير من التجاوزات أو يخفف
منها في الحد الأدنى. والواقع أن هذه المنطقة كانت باستمرار مسرحا لأبشع أنواع المظالم ضد التونسين، ولا يتوقف الأمر على القبائل المترحلة التي كانت ترى مراعي قطعانها تتبخر بيد الشركات الإستعمارية، ولا على سكان الواحات الرازحين تحت سطوة سلطات مرتشية وفاسدة. فقد أدى الشروع في استغلال الفسفاط وتركيز السكة الحديدية إلى تركيز بروليتاريا متعددة الأصول كانت عرضة لظروف عمل قاسية ولاستغلال متصاعد. يمكن القول أن منطقة الجنوب كانت تشكل خلاصة وضعية النهب الإستعماري والتفقير المسلط على التونسيين. هناك درجة كبيرة من القهر تبدو من خلال وصف الكاتب لحياة هؤلاء السكان، وهو يفضح بالمناسبة جميع أشكال التحالفات التي لا يستمر نظام الفساد من دونها. يطلق المؤلف على المنطقة المنجمية تسمية "الأرخبيل السجني"، في تشبيه واضح بالنظام الإحتشادي، ويسهب في وصف مآسي العمال-المعتقلين الذين تبتلعهم كل يوم فوهات الموت. "أيها الداخلون إلى معتقل قفصة أتركوا آمالكم خارج الباب"، ذلك ما استخلصه المؤلف من تجربته حول بشاعة الإستغلال الإستعماري لليد العاملة المتنوعة ومن انتشار الفساد الذي كان يعتبر مكملا لمنظومة القهر. يبقى العامل باستمرار عرضة لابتزاز الشركة وأعوانها، بدءا من التوظيف الذي لا يمكن أن يتم دون دفع الرشى، وانتهاء بعمليات الإقتطاع الظالمة لأجزاء من الأجر لأتفه الأسباب. تبدو منطقة الجنوب بهذا المعنى عبارة عن منجم شاسع في الهواء الطلق، لا تستغل فيه ثروات الطبيعة فحسب، بل أيضا السكان المحليون أو المستوطنون ذوو الأصول الطرابلسية والجزائرية والمغربية. يلخص الأمر كنه العملية الإستعمارية بوصفها عملية سيطرة واستغلال شاملين يغطيهما الفساد وأنظمة العلاقات المشبوهة والمحمية من السلطة العليا.
تبدو السلطة في هذا الفضاء، مهما اختلفت درجاتها وأشكالها، تونسية أو فرنسية، سلطة تنظم النهب والتفقير والفساد الذي يشترك في جني محاصيله أيضا نواب البرلمان وأعضاء الحكومة في باريس، وهم الذين يسميهم المؤلف "باللصوص الرسميين". لقد أنجزت كامل البنية التحتية للإستغلال الإقتصادي الإستعماري على كاهل دافعي الضرائب التونسيين الذين رأوا أموالهم تتحول نقمة عليهم. ويحيط بهذا النظام سور من القوة الباطشة بكل محتج أو غاضب قد تسول له نفسه التساؤل عن عدالة النظام السائد. لا يفيد هنا أن نعيد التذكير بأن هذا الوضع كان مغطى ببناء كامل من التبريرات التمدينية التي لم تستطع في الحقيقة أن تمنع تطور الحماية الفرنسية إلى الوضع الحقيقي الوحيد الممكن في النمط الإستعماري: استغلال بشع لكل المقدرات ولكل السكان، سيطرة قاسية على كل مفاصل الإدارة، تحالف مع فئات من الأعيان الكواسر الذين لا غنى لكل نظام استعماري عليهم من أجل تحقيق الهيمنة القصوى على السكان.
يسهب دوكتون في تحليل النظام السجني بالبلاد التونسية، وقد جاء وصفه لحالة عدد من السجون مستندا لزيارات قام بها للبعض منها، مستفيدا دون شك من صفته البرلمانية، مستخلصا في النهاية أن وضعية مآوي الخنازير في أرياف فرنسا أفضل حالا بكثير من هذه الفضاءات التي يتكدس داخلها السجناء وقوفا لضيق المساحة: "إنها عبارة عن خراب ومواقع قاذورات تفتقر للحد الأدنى لشروط الحياة الطبيعية مثل التهوئة والنور". طبيعي أن يهلك عدد من المساجين في هذه المعتقلات لأن القايد أو نائبه نسيا أو تناسيا تقديمهما للمحاكمة، كما أنه من الطبيعي أن تتحول تلك المعتقلات إلى بؤر لجميع الأمراض المعدية وخاصة التيفوس.
هل فعل هؤلاء ما يستدعي مضاعفة العقاب بهذه الطريقة؟ يذكر دوكتون أن معظم من التقاهم من معتقلين كانوا كذلك بسبب عدم دفعهم للضرائب، وهي جريمة لا تستحق كل تلك الدرجة من التشفي في عرف الدول المتحضرة والمتخلفة على حد سواء، وكذلك بسبب التجاسر على بعض الأعوان الإداريين التونسيين. لقد كان الهدف هو تحطيم كل إرادة لدى التونسيين، وتحويلهم إلى سوائم تشقى وتعرق ثم تموت. لقد نجح نظام الحماية بوضوح في جلب ولاء عدد من التونسيين إلى صفه، منيطا بهم القيام بكل الجهد الذي يضمن بقاء السيطرة الإستعمارية على الأرض وعلى السكان، والأمثلة عن هؤلاء التونسيين من كواسر المدن والأرياف كثيرة في الكتاب. كان واضحا أن ذلك التحالف هو ما مكن النظام الإستعماري من البقاء فقد كان تحالف مصالح وقع تشييده على كواهل المقهورين ومن أجل استنزاف كل مقدراتهم. تبين مسألة الإستيلاء العقاري شدة قوة هذا التحالف حيث تتحول أخصب أراضي القبائل إلى أراض استعمارية وحيث يفوز ممثلوا السلطة من التونسيين بأجود القطع باستعمال نفوذهم وكل الحيل الممكنة يحميهم في ذلك نفوذهم واحتكارهم لاستعمال القوة والقدرة على السجن وتغاضي الإدارة العليا.
لم يكن للتونسيين من يدافع عنهم في وجه نظام السيطرة القاسي ذاك. عندما أنجز دوكتون تحقيقه كانت قد بدأت في البروز حركة النخبة المثقفة التونسية التي أطلق عليها اسم حركة الشباب التونسي. من المثير ملاحظة النقد الشديد الذي يوجهه الكاتب لرموز هذه الحركة واتهامه لهم بإدارة ظهورهم لمعاناة إخوانهم التونسيين والإكتفاء عوضا عن ذلك ببعض الخطابات والمقالات التي لا تغير من وضعهم القاسي شيئا. يفضح دوكتون مجاملات الشبان التونسيين للإدارة ورموز النسق الإستعماري وتجاهلهم لبؤس التونسيين في المدن والأرساف والمناجم واستبطانهم الإيديولوجيا الإستعمارية: "تمثل هذه الفئات الفقيرة الأغلبية الساحقة في المجتمع أما أنتم والشرائح المدينية التي تمثلونها وتدافعون عن مصالحها فلستم إلا قلة. لا شك أن تأطير هذه الجموع المفقرة وتنظيم غضبها من طرف مناضلين أكثر مصداقية والتزاما سيخلق بالضرورة قوة تحرر ضاربة. هذا هو واجبكم ودوركم الحقيقي أيها الشباب التونسي. يجب أن تكونوا المعبرين الحقيقيين على هذا الألم الريفي الصامت، وهذا الغضب المشروع، وتوظيفه للضغط على المستعمر حتى يكون أقل وحشية وأكثر انسانية. ولئن لم تغير الطرق السلمية شيئا من واقع الأمر عندها يكون من حقكم اللجوء إلى الثورة وهي السلاح الأخير الذي تستعمله كل الشعوب المضطهدة لمقاومة جلاديها"(ص 253-254).
من المفيد للأجيال الشابة اليوم أن تطالع هذا الكتاب حتى تعرف حجم المعاناة التي عاشها آباؤنا وأجدادنا طيلة حوالي القرن من الزمن، بل منذ ما قبل الحماية الفرنسية. ورغم ما يمكن أن يوجه للكتاب من انتقادات فإنه يبقى مصدرا جديرا بأن يطلع عليه. إن ما نجح مؤلف التقرير في توضيحه هي حالة التحالف التام بين المستفيدين من قهر التونسيين واستغلالهم وزيف الإدعاءات بتمدين المقهورين وتطويرهم
.