lundi 3 mars 2008

كول وأخواتها


كول وأخواتها

مقال صادر بجريدة الموقف التونسية، العدد 442 بتاريخ 7 مارس 2008


عدنان المنصر




نسق سريع للأحداث، مرور سريالي من التهديد إلى التنفيذ، من القتل المحسوب إلى المجزرة الواسعة، اختلاط رهيب للمواقف... هل هذا ما نبدو عليه اليوم؟ التوصيف ليس كاملا ولا يمكن أن يكون كذلك، نكتفي بتجميع أجزاء المتاهة دون أن نتبين بجلاء الطريق الواصل بين الدخول والخروج: بداهة لا شيء يربط بين وثيقة مراقبة الإعلام التي نظر فيها مجلس وزراء الداخلية العرب، الذي يبدو أنه سيحقق يوما ما الوحدة العربية، وبين إرسال المدمرة كول إلى شواطئ الشام. ولا شيء مبدئيا قد يجعل من استماتة البعض في سد منافذ غزة مرتبطا بالمحرقة التي بدأت هناك، كما لا شيء قد يجمع بين تمرد الحوثيين في صعدة وتنكيس عباس راياته في الضفة.

مع ذلك فإن الصورة بدأت تتضح لكل ذي عينين، منذ أن حلت كول بين ظهرانينا، شرق المتوسط. قال أحد الفنانين الساخرين الأمريكيين يوما وهو متكئ على مدفع إحدى البوارج الأمريكية، أنه إذا كانت واشنطن تقول أنها مهمة سلام، فكيف تكون مهمات الحرب؟ عودة سريعة إلى الوراء الذي لم يزل منذ ذلك الزمن أماما: السفن التي تأتي لزيارتنا من حين لآخر، تقصفنا، ترعبنا، نمضي، وينتهي كل شيء، مؤقتا. غير أن بايات ودايات وسلاطين ذلك الزمان لم يكونوا يعلمون أنها آتية، بل كانوا يسعون للتصدي ما أمكنهم ذلك وإن لم تسعفهم قدراتهم على قلب الموازين عموما. الآن، الوضع مختلف: يعلمون بما سيحصل قبل أن يحصل، يأخذون الوقت الكافي لتنبيه رعاياهم، يتمون استعدادات ما قبل الترحيل، يعتقدون أنهم بذلك يضاهون شكلا الدول الكبرى في الحرص على حياة مواطنيها، يعتقدون أنهم فعلا أنداد لها إذ أنها وضعت في علمهم بعض ما ستأتيه. وعندما يحصل العدوان، يصمتون دهرا ثم يبدأون في النطق كفرا، لتحميل الضحية وزر ما جنته عليها ظروف الزمان والمكان، يمارسون نصف رجولتهم بأقصى طاقتهم، يهيؤن أنفسهم لكسر أرجل الجياع إن طرقوا أبوابهم، وتحطيم رؤوس الرعية إن تململت وهاجت. عفوا لقد نكس بعضهم الأعلام، وكأنها أعلام أصلا، وأوقفوا المفاوضات، وكأنهم كانت يوما مفاوضات ، وفتح آخرون منافذ لاستقبال الجرحى الذين لن يحتاجوا لكسر أرجلهم ولا أيديهم.

في غضون ذلك تكون الجوقة قد انطلقت في النشيد، تمجد الواقعية وتدين الرعونة، تطنب في التأكيد على مصالحنا الإستراتيجية، تذكر بأن لا أحد يزايد عليها فيما جمعته من رأسمال ثوري، تسخر من شماريخ غزة وكأنها فعلت بصواريخها المدفونة ما هو أفضل، تحذر من الإرهاب والقاعدة والفوضى التي ستحرق الجميع، تتذكر السيادة والإتفاقات المبرمة ومقتضيات الشهامة... وعندما ينطلق العدوان، تبدأ في حساب المنافع وعينها على شارعها المتنطع، تتوقع هزيمة الضحية ولا شيء غير ذلك، لأن هذه الضحية هي جلادها الذي يقتلها في اليوم ألف مرة، يعري عجزها وثلث رجولتها. أما إذا ما لاحت بارقة انتصار غير مرغوب فيه واندحار للعدوان العاتي، فيعزون أنفسهم، يرتبكون، يشعرون أنهم المنهزمون: لا شك أن شيئا ما وقع أفشل الخطة. ليس متوقعا أن تفشل تلك الخطة، لأنها نجحت معهم في الزمن الماضي، قبل تخفيضات الرجولة.

يأتي دورهم مجددا، ينظرون حولهم فيرون جماهير يسكرها النصر، يغتاظون، سيعاقبونها. لن تسمع شيئا مما يحصل مستقبلا، لن ترى دماء ولا صرخات، لن يهيجها بعد اليوم محترفوا المقاومة، لن تشعر أنها معنية بما يحصل هناك قريبا منها في قلبها وروحها. ينظرون من شرفات قصورهم، أطباق لاقطة وقنوات لقيطة، لينته كل ذلك الآن. وفي أسفل الدنيا يتململ أحدهم، يفرك عينيه، يتثاءب كما يحسن أن يفعل، يمضغ نبتته المفضلة، ليفعل شيئا. لن يشك أحد في الأمر لو صدر عنه، فالجميع يعترف له بالثورية والحرص على الوحدة، والتنطع. ليبدأ إذا استنساخ الجوقات، لتغلق الأفواه الآبقة، العابرة للحدود المعتدية على الكرامات. العين على واحدة أو اثنتين، ليذهب الجميع إلى الجحيم إذا ما سهل ذلك الوصول إليهما. لأجل عينيه تكرم مليون عين، سيجتمعون ويقررون ويوافقون ويبدأون التنفيذ، فما يعتريه يعتريهم، هو الوكيل وهم أصحاب القضية.

أصحاب المعالي والفخامة والسيادة لا يفرحون إذا فرحت الرعية، يحسون صوابا أنهم مستهدفون، يتهيأ لهم أن أحدا ما في مكان ما يحسب لهم حسابا. لا يسرهم النصر مهما كان نسبيا لأنه يفضحهم، يجعل الأعناق تدور نحوهم تشعرهم أنهم أولوا الأمر، وما هم من الأمر في شيء. البعض أخطأ الطريق، هاجمهم، أشعرهم بتهديد قضى على ربع الرجولة المتبقي، منحهم الفرصة التي تبيض ذهبا، فاحترقنا جميعا. شيخ الحكمة هناك غاضب من الذين يقضون منتجعه، ملك الإتزان يكتشف أخيرا أنها المحرقة، ما زال يرى. ظلمة غزة لا تزعجهم، من دخل الضوء أصلا؟ شموعها تدمي عواطفهم، ما زالوا يملكون البعض منها. نفطهم يمطر الأمة حمما، هل نالنا منه غير ذلك أبدا؟

تصمت حمائمنا قليلا وكأن على رؤوسها الطير، فالحمامة الأم أصبحت قائدة المحرقة هناك. يحسون بالحرج أخيرا، فالبوصلة عادت للعمل والإتجاه لم يضع تماما في زحمة الشبهات، يتعرون، يدخلون باطن الأرض، يتقوقعون في برج فكرهم "الإنساني". ولكن دورهم محفوظ أبدا. مثل طيور الشؤم تماما سيفيقون عند ما تحل الكارثة، سيقولون لنا "ألم ننبهكم، ولكنكم قوم لا تعقلون؟" عندما تحل القارعة سيفرخون، سنباهي بهم الأمم كثرة وشأنا، فهم أبناء الهزيمة الشرعيون، سنعتذر منهم حينئذ: عذرا سادتنا، في المرة القادمة سننتصر، وستستأصلون. ذلك الشاب المعمم يزعجهم، لا يرون فيه ما يعرفون، ليس بمثل تقدميتهم، لا يحسن فرنسيتهم، ولا ركاكة منطقهم، وفوق ذلك فالدهماء تحبه وتجعله في سويداء قلبها. ينظرون في دفاترهم، يقلبون أوراقهم، لا يجدون فيها غير القوة منتصرا دائما، القوة في مقابل الحق سيف بتار، هذا إذا كان بالفعل حقا. لا حق في الصراع ولا باطل، لا إرادة ولا إيمان ولا شيء مما لا يملكون. يذبحون بأيديهم صفر الرجولة الأخير، نستمع إليهم ونراهم فنزيد إيمانا بأننا لا نسير في الإتجاه الخاطئ.

ولكن هل نحن بأفضل من هؤلاء وأولئك؟ ربما، إذا ما أحسنا الفهم، واستطعنا مجاراة النسق واحتفظنا بالإتجاه الصحيح. العدو هناك في التلة، وإن كان بعضه هنا وهناك، معششا في أجسادنا وفي جثث البعض منا. يقاوم مضاداتنا ولكنه يبدأ في التهاوي، لأنه يواجه للمرة الأولى إرادتنا في التعافي. يقاوم الجسد، نسقط ثم نقوم، لنسقط من جديد ولكن لا نمحي. تنتابنا الحمى ولكنها دليل الصمود، يجند الطغيان غربانه وبوارجه وحاملات طائراته. يغيضه مخزون الصمود في هذه الأمة، من أين يأتون بهذه القوة؟ من ظلمكم. ستينية الكيان قد تمر، ولكن من سيبقى أخيرا هم نحن. قد يرونه بعيدا، ولكننا نراه قريبا.

1