vendredi 7 septembre 2007

قرف العولمة


قرف العولمة


عدنان المنصر

مقال صادر بصحيفة الموقف التونسية بتاريخ 7 سبتمبر 2007، العدد 417

من الممتع حقا اكتشاف الأبعاد التي تأخذها العولمة كل يوم. لم تعد المسألة مقتصرة على الاقتصاد ولا على التبادل التجاري ولا على التصدي للاحتباس الحراري، فقد بدأ مفهومها في التوسع بطريقة مربكة وسريعة ليشمل تقريبا كل ميادين حياتنا اليوم. وفي موازاة ذلك أصبح من الصعب الاتفاق على تعريف واحد وجامع لها، حيث تكاد التعريفات الموضوعة تتعرض لنتائجها وانعكاساتها أكثر من انطباقها على هذه الظاهرة كمسار متحرك. يبدو ذلك نتيجة منطقية لزئبقية الظاهرة التي غدت ترمز اليوم إلى ضياعنا التاريخي. أين ذهبت الدول، وإلى أين رحلت القوميات، وماذا حل بالأمم والأوطان؟ إلى أية حدود ستصل درجة التحلل في الهياكل التي نظمت حياة البشر منذ عشرات القرون؟ ليس بالإمكان توقع درجة السوء التي ستوصلنا إليها العولمة وعمق البئر التي تردينا فيها.

لم تعد الثقافات والخصوصيات الحضارية للأمم وكذلك الإيديولوجيات الضحايا الوحيدة لغول العولمة، بل إن الدول، التي استغرق إنشاؤها وعملية بنائها قرونا عديدة من حياة البشرية، قد أضيفت هي الأخرى لقائمة الضحايا. هل يشعر أي منا بجدية بحماية الدولة له من الأخطار العابرة للحدود أو بقدرتها على وقاية مجتمعها من جشع الشبكات التي غدت تسيطر على أبسط مظاهر حياتنا اليوم وأكثرها روتينا. وأكثر من ذلك، هل لازالت الدول دولا، بمعنى هل مازال بإمكانها التباهي بمقولات مثل السيادة والاستقلال.لم تعد تلك أولويات بالنسبة لها، بل إنها فقدت حتى القدرة على تحديد ما يسمى بالأولويات أصلا، وعوضا عن ذلك أصبح مطلوبا منها بإلحاح كل يوم أن تتخلى عن المزيد، وأن تزيد في الارتباط بالشبكات العابرة للحدود، بل أن تلغي منطق الحدود نفسه.

أين الحدود اليوم في الاقتصاد، حيث نفقد مواطن الشغل كل يوم بسبب عجزنا المتراكم عن تحمل المنافسة القاسية التي تسلطها علينا بضائع الدول الأخرى. كان بالإمكان في السابق توجيه الاقتصاد إلى توفير البضائع للسوق الداخلية وكاد ذلك ينجح أحيانا في بناء نموذج للتنمية. لم يعد بإمكان الدول أن تتبجح بالتحكم في السوق الداخلية لأنه لم تعد هناك سوق داخلية، أصبحت هناك سوق واحدة، معولمة، لا أحد يملك التأثير المنفرد فيها صعودا أو هبوطا. أين الحدود في حروب اليوم ؟ مازالت هناك حتما بعض النزاعات الباقية من الزمن الماضي حيث يتنازع مساكين من هنا وهناك السيطرة على بعض الصحاري والأودية، ولكن حروب اليوم من نوع جديد: حروب لا ترى فيها خصمك وتدار من وراء شاشات كبيرة في قواعد بعيدة، حروب لا بطولة فيها ولا رجولة، حيث لا ترى الضحية سفاحها، ولا تسمع فيها أنات ولا صرخات. وأكثر من ذلك، أين الحرب في حروب اليوم، حيث العدو مجهول، وحيث لا خطوط ولا جبهات. حروب لا مكان فيها لأية أخلاقيات، ولا احترام فيها لأعراض أو حرمات.

هل غدا التفريق بين الخير والشر، تلك القيمة التي تربينا عليها ونربي عليها أبناءنا، أمرا مستحيلا ولا تاريخيا؟ من بإمكانه اليوم القول أن إسرائيل مصدر الشر في العالم دون أن يخشى قيام بعض "الموغلين في الموضوعية" من بني جلدته، المقهورين مثله، باتهامه بالتسويق للظلامية والإرهاب ؟ ومن باستطاعته اليوم أن يثبت أن شمعون بيريز من أكبر المجرمين في تاريخ البشرية وأن لا علاقة له مطلقا بأي نوع من أنواع الطيور غير الجارحة، دون أن ينبري له أحد "التقدميين جدا" ليقول له أن منطق السلام اليوم يفرض علينا أن نسامح وننسى ونضحي من أجل هدف نبيل وأسمى من "الصراعات المتخلفة" و"الشوفينية العمياء": بناء بحيرة سلام تتعايش فيها، دون أية مشاكل، الدلافين وأسماك القرش.

إلى أي مدى يمكن أن يصل بنا الإحباط، وإلى أي حد ستواصل القيم وما تربينا عليه من بديهيات انقلابها وتحللها؟ هل بإمكان عاقل أن يتوقع من اجتماع فرع منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان أن يتناول، من كل المصائب والتعديات المسلطة على هذه الحقوق في كل أصقاع الأرض، مشكلة زواج المثليين والتصويت بشبه إجماع على أن ذلك من حقوق الإنسان (ينبغي أن نتوقع تنظيم الفرع لمظاهرات جماهيرية لفرض احترام هذا الحق باعتباره أولوية نضالية، وسيقع لوم الجميع واتهامهم بالرجعية حتما إن لم يشاركوا فيها بحماسهم المعهود). وهل بمقدور أحد منا بعد حرب الصيف الماضي في لبنان أن يتوقع قيام منظمة أخرى لحقوق الإنسان بترتيب عقد مؤتمر في بيروت بالذات، لتناول "جرائم" قصف المقاومة اللبنانية للمدن الإسرائيلية، أو أن يتصور أن إسرائيل تسلم أسرى عربا لدولهم حتى يقضوا باقي عقوبتهم فيها وتلك الدول تقبل بذلك وتنفذه بحذافيره والأرض لا تكاد تسعها فرحا وحبورا.

أي واقع يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من القرف والعدمية؟ على ماذا سنربي أبناءنا اليوم، على قيم اليوم المتحللة أم على قيم الأمس التي يبدو أن تاريخ صلاحيتها قد انقضى؟ هل نربيهم على الافتخار بالانتماء لأوطانهم وهم يرون كل يوم أن الوطنية قد أضحت تهمة أو مدعاة للسخرية؟ وهل ننشئهم على الثقة في الدول التي من المفروض أنها ترعاهم وتحميهم وهم يرونها رأي العين تتآمر عليهم وتصادر حاضرهم ومستقبلهم؟ هل نواصل إقناعهم بالمجهود والعمل كقيمة وهم يكتشفون في كل يوم تغلب الغش وسيادة التحيل وانتصار الفساد؟

ولكن العولمة قد تخفي بعض الإيجابيات، وأولها أنه لم يعد من جدوى لتعويل المقهورين على أحد لتخليصهم مما هم فيه من استبداد وأن مسؤولية ذلك تقع على عاتقهم وحدهم. لقد أضحوا في العراء تماما، لا يملكون سوى ما توحي به إليهم غريزة البقاء التي لم يقض عليها بعد. كل شيء في العولمة يدفع لمقاومتها وأول تلك الأشياء أنها أعطت للديكتاتوريات فرصة جديدة للحياة وأجلت انتقالها إلى الرفيق الأعلى. قوة عظيمة تلك التي يمكن أن تنشأ من وعي الشعوب ببؤس العولمة وبأن زوالها يتوقف على مدى الاستعداد لاستئناف مسيرة التضحيات من أجل تحقيق إنسانية الإنسان. قد تكون العولمة نتاج بناء تم من الأعلى، على شاكلة غطاء الإسمنت، ولكن تفتيتها يبدأ حتما من الأسفل. لذلك ينبغي أن نواصل حماية ما تربينا عليه من قيم وأن ننقل تلك القيم إلى أبنائنا. فما قيمة حياة البشرية إذا ما انعدمت القيم وضاعت بوصلة التمييز بين الخير والشر؟ سنواصل جميعنا تسمية الشر شرا، والعدوان عدوانا، والاستبداد استبدادا، والفساد فسادا، وسنمضي في تربية أبنائنا على ذلك. العولمة انعدام للقيم، وتطبيع مع القبح، وتمجيد للفساد. لنسألهم بتحد: من بإمكانه من أنصار هذه الموجة أن يتبنى "القيم الجديدة" ويدعي في الوقت نفسه أنه لا زال محتفظا بإنسانيته؟ لن يجيبوا.