mercredi 14 avril 2010

..............سلاما


سوسة في 4 أفريل 2010
السيد رئيس تحرير مجلة حقائق



تحية طيبة
أما بعد فيشرفني أن أحيل لسيادتكم، عملا بمبدأ حق الرد، نصا أرد فيه على مقال صدر بالعدد الأخير من مجلتكم (حقائق عدد 110، من 29 مارس إلى 11 أفريل 2010) تناول مشاركتي في أحد المؤتمرات العلمية، فالرجاء التفضل بنشره لإضاءة الرأي العام حول هذه المسألة. وتقبلوا فائق عبارات التقدير.

عدنان المنصر



ردا على مقال "الأستاذ المنصر في ملتقي حضره أكاديميون إسرائيلبون: خطوة معزولة....ولكنها ليست الأولى"

..............سلاما

استرعى انتباهي وانتباه الكثيرين المقال الصادر بالعدد من مجلة حقائق والذي تناول مشاركتي في مؤتمر علمي ببرلين في جوان 2007، وقد ذهب فيه مؤلفه إلى اتهامي بالتطبيع الأكاديمي مع إسرائيل وإخفاء هذه المشاركة، وهو ما أرد عليه في النقاط التالية:
- تعمد صاحب المقال المقارنة في الجملة الأولى بيني بوصفي مؤرخا تونسيا وين مؤرخ إسرائيلي مناهض للصهيونية داسا في خلال هذه المقارنة ما معناه أن التونسي صهيوني وأن الإسرائيلي متعاطف مع الفلسطينيين. أربأ بمجلة حقائق ومن يكتبون فيها أن يصدر عنهم هذا الدس، فهو ينطلق من سوء نية واضحة وثلب شخصي يمكن أن يكون منطلقا لتتبعات عدلية ضد صاحب المقال سأبين في النقاط التالية عدم استناده لأية دلائل.
- واصل صاحب المقال في الفقرة الثانية استعمال الدس فأشار إلى أنني "محسوب على أحد التيارات السياسية الدينية" دون أن يقدم على ذلك دليلا واضحا. كنا نعتقد أن هذا الأسلوب في الدس الأمني الرخيص قد ولى إلى غير رجعة، ولو قدر لمن يهمهم الأمر أن يعتمدوا على هذا النوع من الخدمات الأمنية لكان الأمر شديد السوء، ولكنهم أكثر ذكاء ويعرفون من نكون.
- في النقطة الثالثة أشار صاحب المقال أنني أشرت في مدونتي الإلكترونية إلى مشاركتي في مؤتمر بأكس أون بروفانس حول اتفاقية الشراكة التونسية المتوسطية في سبتمبر 2006 ولم أشر إلى مشاركتي في مؤتمر برلين حول نفس الموضوع في جوان 2007. لو كان صاحب المقال حريصا على الحقيقة وعلى إنارة الرأي العام لتفطن إلى أن المدونة غير محينة منذ مدة ولوجد أنني نشرت على صفحتي في الفايسبوك فهرس الكتاب الصادر عن ندوة برلين والذي نشر منذ شهرين فحسب، وتوجد أسماء كل المشاركين في هذا الفهرس. عندما يكون البحث عن الحقيقة هو الهدف الفعلي للصحفي فإنه لا يعدم وسيلة لإظهارها ويتجنب الإنتقاء الموجه. كان بوسع مؤلف المقال المذكور أن يستجلي الأمر ولكنه خير عوضا عن ذلك قد اختار الإنطلاق من فرضية ومحاولة إثباتها بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة، فعدنان المنصر معروف للرأي العام وعنوانه الإلكتروني منشور وله مع بعض صحفيي "حقائق" والمتعاونين معها علاقات شخصية، كما أن عنوان الكلية التي يدرس بها معلوم وكذلك رقم هاتفه لمن أراد. ونظرا لأن صاحب المقال يخلط بين أمور كثيرة فإننا نتفضل عليه بأن نوضح له كيف ينعقد مؤتمر علمي وما هي حدود المعلومات التي يملكها المشاركون فيه، انطلاقا من أعمال مؤتمر برلين المذكور.
- انعقد مؤتمر برلين في إطار برنامج بحث واسع موله الإتحاد الأوروبي حول المتوسط لمحاولة تقييم مسار برشلونة واتفاقيات الشراكة، وقد انخرطت فيه شبكة من الجامعات المتوسطية نجد من بينها جامعة تونس. كنت الوحيد الذي وجهت له دعوة المشاركة من تونس بالنظر إلى مقترح البحث الذي قدمته، حيث انتميت إلى فريق بحث اشتغل على موضوع "المتوسط كمشروع تبنيه الحكومات والمجتمعات المدنية". هذا الفريق انقسم إلى قسمين: قسم خاص المتوسط الغربي عقد مؤتمره التحضيري بأكس أون بروفانس وهو الذي انتميت إليه، وقسم خاص بالمتوسط الشرقي. في برلين وقع الجمع بين الورشتين، وحينها اكتشف وجود الإسرائيليين. في اليوم الأول الذي انعقد بالسفارة المصرية ببرلين قدمت بعض المداخلات الموجهة لما يسمى بصناع السياسات، وقد حضره ممثلون عن كل السفارات والبعثات الديبلوماسية المهتمة بالشأن المتوسطي، وكان من بينهم الملحق الإقتصادي للسفارة التونسية ببرلين لأن للأمر علاقة بالمسائل الإقتصادية وقضايا الهجرة إلى أوروبا. ألقى مارك هيلر مداخلته في ذلك اليوم المفتوح ووقف الأوروبيون على عداء الكيان الصهيوني للمشروع المتوسطي، ذلك أن المحاضر الإسرائيلي بين أنه لا يمكن لإسرائيل أن تنتمي لمشروع يمثل أعداؤها الموجودون في ضفته الجنوبية عنصرا مركزيا في بنائه. قدمت مداخلتي في اليوم الثاني بمقر جامعة برلين الحرة، حول تقييم الشراكة المتوسطية من منظور تونسي، وهو نفس اليوم الذي قدمت فيه أنجليكا تيم مداخلة حول أحد المشروعات البيئية. وبافتراض أنني أملك معلومات مخابراتية تتيح لي الحصول على قصة حياة المشاركين وانتماءاتهم السياسية، وهو أمر غير متاح لسوء الحظ، فما كنت لأترك مقعدي شاغرا، ولا أن أترك بقية المشاركين بمن فيهم الإسرائيليين، يناقشون في غياب أي تونسي مسائل تهم التونسيين أيضا، ذلك أنني أعتبر أن في الهروب من هذه المناسبات جبنا لا يجدر بأية اعتبارات مهما كانت أن تغطي عليه.
- عندما يشارك جامعي في مؤتمر علمي فإنه لا صفة رسمية له. الجامعي لا يمثل إلا نفسه وفكره ومنهجه ونتائج أبحاثه. وهذا رد على ما كتبه صاحب المقال عندما رأي في مشاركتي تطبيعا باسم الجامعة التونسية. يفترض بحسب هذا المنطق أن ينسحب التونسيون من جميع المؤتمرات العلمية عندما يكون من بين المشاركين إسرائيليون، وأن لا يشاركوا إذا إلا في مؤتمرات الشعوذة والديماغوجيا العقيمة. فلينسحب الأطباء والمهندسون وغيرهم من العلماء من جميع المؤتمرات إذا حتى يرضوا بعض أصحاب الخطاب القومجي الرافضين فتح أعينهم على حقيقة عالمهم اليوم، حيث يمثل كل تخل عن مهمة علمية تخليا لا يقل عارا عن الهروب من ساحة معركة.
- لست في وارد التذكير بمواقفي القومية والوطنية، فهذا الأمر لا ينكره إلا جاحد، وكتاباتي على أعمدة الصحف وفي الملتقيات العلمية والمؤلفات الجماعية، وكذلك مشاركاتي في وسائل الإعلام المختلفة، تنطلق من فكرة أساسية، وهي أن الثقافة إلتزام مجتمعي وأخلاقي، وبحث عما يجمع بين الناس مهما اختلفوا، وقناعة بأن ما يجمع التونسيين أكثر بكثير مما يفرقهم، بالإستناد إلى التجربة التاريخية ذاتها. ولعل ذلك ما يقلق البعض بالفعل فانخرطوا في مسار من التشويه لا تخفى الأدلة عليه، توضح الأمر التهم المتناقضة في نفس المقال. كل شيء مطلوب من خلال هذا "التحقيق"، إلا الحقيقة.
- ماهو مفهوم التطبيع؟ كان يجدر بصاحب المقال أن يشير إلى ذلك ولو عرضا، ولكنه لم يفعل لأنه انطلاقا من مضمون ما كتبه فإن كل شيء يغدو تطبيعا: كان عليه أن يدعو الدولة التونسية إلى الإنسحاب من الأمم المتحدة، ومن منظمة الصحة العالمية، ومن المنظمة العالمية للزراعة وغيرها... فإسرائيل عضو فيها جميعا. ذلك يتطلب حتما قدرا من الشجاعة أكبر بكثير من مهاجمة الجامعيين الذين لا يجدون الوقت الكافي للإجابة عن ترهات كنا نظن الزمن قد عفا عليها. التطبيع هو أن تفعل ما من شأنه أن يجعل وجود إسرائيل وجودا طبيعيا، ويقتضي ذلك في المجال الجامعي أن تنسق معهم عقد مؤتمرات، أو تعقد معهم اتفاقيات، أو تستدعيهم لإلقاء محاضرات... ينبغي أن تكون أنت من ينظم أولا، وأن يكون هدفك هو التطبيع، وأن يفهم هذا الهدف من خلال ما تكتب وتنشر، بحيث يبدو تواصلا لمسار فكري معين. هل وجد مؤلف المقال الذي أغرته الإستنتاجات المتسرعة والمنطلقة من سوء فهم (إذا ما افترضنا أن وراءها نية حسنة) كل ذلك؟ أما نحن، فلو كانت تلك قناعتنا لما خشينا التصريح بها، مثلما صرحنا بمواقف لم ترض الكثيرين في مجالات أخرى، وقد تكون أزعجت.
- الغريب أن صاحب المقال الذي بهرنا بحسه القومي، وبكثرة التهم ضدنا،لم يقدم لنا تصوره للكيفية التي يواصل بها الأكاديميون القيام بواجباتهم دون أن يسقطوا في حبائل التهم التي تفضل بإلصاقها بهم. الجامعيون بحاجة ماسة إلى نصائح أمثال صاحب المقال فليتفضل بمساعدتهم على تلمس طريقهم، كم يحتاجون إلى هذه المساعدة !
- أما نحن، فإننا سنواصل عملنا، وسنذهب حيث وجدنا أن حضورنا لازم، وحيث وجدنا أن بإمكاننا أن نفيد. ذلك أن تكلفة تكويننا التي اقتطعت من قوت التونسيين وعرقهم لا تسمح لنا بملازمة الأركان القصية وبالتخلي عن المهام التي نعتقد أنها في صلب دورنا، وأهمها على الإطلاق رفع الجهل، والتقريب بين التونسيين، ودفع الأجيال الشابة في طريق الفهم العقلاني والنقدي لماضيهم وحاضرهم، إعدادا لمستقبلهم الذي لن يكون إلا مشرقا، فنحن من ذلك واثقون تمام الثقة. الجامعيون فخر هذه البلاد، ومنارة أجيالها الشابة. والإساءة إليهم بالإجتزاء والإنتقائية لا ترفع صاحبها مطلقا ولا تحقق له من الشهرة إلا سرابها المر. الجامعيون الذين نفتخر بالإنتماء إليهم لا يمكن النيل منهم بمثل هذه الأساليب، وإذا ما "أخطأ" البعض في حقهم فإنهم يوضحون، ثم يمشون هونا، ويقولون سلاما. فسلاما.

مجلة حقائق، 12 أفريل 2010

عدنان المنصر


أستاذ محاضر بجامعة سوسة

يقظة الذاكرة


في الحاجة إلى الرموز

يقظة الذاكرة


عدنان المنصر
أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سوسة
مقال صادر بجريدة الموقف بتاريخ 12 مارس 2010


أحدث شريط "اغتيال حشاد" الذي بثته قناة الجزيرة بعض الضجة في معظم الأوساط المهتمة بالسياسة والتاريخ
والذاكرة، وهي ضجة يمكن تفهم أسبابها بالنظر إلى أهمية القضية من ناحية وكذلك لعلاقتها بملفات عديدة لم تحسم لعل أهمها قضية التورط الرسمي الفرنسي في التخطيط والتنفيذ. ما يثير الإهتمام هو أن أكثر المتفاجئين بهذه الضجة هم المؤرخون أنفسهم الذين تفطنوا إلى أن ما يعرفونه حول المسألة ليس أمرا شائعا وأن هناك حاجة متعاظمة إليهم يتجاوز أفقها قاعات التدريس والمجلات العلمية والمناقشات الأكاديمية.
ليس ماهو أهم في قضايا الذاكرة من مسألة الرمز التاريخي، وهذا الرمز وإن تجسد في غالب الأحيان في شخصية أو حادثة فإن الأمر، في المطلق، يمكن أن يشمل أيضا بعض مواقع الذاكرة الأخرى كمعلم تاريخي على سبيل المثال. إن قيمة الرمز تتمثل الخصوص في خلقه نوعا من الرابطة المعنوية لدى مجموعة ما ومساهمته في تأسيس وصياغة وترسيخ هوية تاريخية معينة. تأخذ عملية تأسيس الرمز في الذاكرة بعدا جديدا في حضور عوامل مخصوصة، مثل التحدي الأجنبي وانخراط الشخصية المعنية في الصراع ضد الظلم وارتقائه إلى مصاف البطولة في الوعي الجمعي. ليس البطل هو ذلك الذي ينتصر بالضرورة ماديا في معركة مادية، بل ذلك الذي يقارع الباطل ويواجه الظلم بغض النظر عن تفاوت الإمكانيات الموضوعية، ذلك أن المعركة ضد الباطل ليست معركة مادية بالضرورة، كما أن الانتصار فيها لا يقاس حتما بما ينجز على ساحة معركة أو فضاء مواجهة. فصراع الحق ضد الباطل إنما هو بالأساس صراع مبادئ وتقارع إرادات.
إن عملية بناء الرمز-البطل في الذاكرة عملية متكررة في الغالب لا تختلف نماذجها إلا في التفاصيل الصغيرة الناتجة عن خصوصية الظرف. المبدأ القار في عملية البناء تلك أن الرمز يصبح فكرة توحد حولها إرادة مجموعة معينة، فيصبح الرمز بذلك تجسيدا لتوق جماعي للتحرر، بغض النظر عن إنجاز التحرر أو درجة تحقيقه. ذلك أن الانتصار الحقيقي في المعارك ضد الباطل يتحقق عندما تترسخ فكرة التحرر لدى مجموعة أفرغها الإستبداد والظلم من كل قوة وطاقة. إنها عملية إعادة بناء للإنسان بوصفه كائنا حرا بالقوة. يعج التاريخ بالأمثلة عن مثل هذه المسارات: من الحسين بن علي الكربلائي، إلى جان دارك الفرنسية، إلى غاندي الهندي، إلى نلسون مانديلا الإفريقي، إلى أحمد ياسين الغزاوي تتعدد النماذج عن نفس المسار الخلاق، مسار الإنسان الصاعد من رحم إرادة مقدسة، إرادة أن يكون حرا بغض النظر عن تفاوت مقاييس القوة والجدل حول جدوى الصمود أمام غطرسة المستبدين، أفرادا كانوا أو مجموعات. إن انتصار هؤلاء في معركة البطولة قد تم حتى قبل المواجهة المادية، تم عندما ترسخت حولهم رمزية الإرادة في الإنعتاق من حكم القوة المدججة بالظلم والسلاح والاقتصاد. لو تساءل غاندي عن جدوى مواجهة الاستعمار الأنقليزي أو ياسين عن جدوى مقارعة القوة الصهيونية، لماتت البشرية منذ زمن طويل. كم في ذلك من عبرة، لمن يريد أن يعتبر.
يضيف أهمية لقيمة البطل عدم امتلاكه لقوة خارقة، فأن يكون البطل نابعا من عمق المجموعة التي ينتمي إليها، من فقرها وقهرها وأحلامها في الحياة، أمر أساسي لأنه يعطي النموذج والقدوة لمن حوله. لم يأت غاندي سوى من طائفة المنبوذين المقهورة، لم يأت نلسون مانديلا سوى من أحياء السود الفقيرة، لم تكن جان دارك إلا فلاحة، ولم يكن أحمد ياسين، ذلك الفاقد لحركة الأعضاء، سوى رجل فقير من عائلة معدمة لاجئة إلى غزة. كذلك حشاد. فقد جاء الرجل من وسط الصيادين الفقراء المكافح والأصيل. ليس أقوى من رمزية صياد يقارع البحر كل يوم ليفتك منه رزقه، من قرأ همينغواي أو سمع عنه يدرك قيمة هذا الرمز. كان بإمكان حشاد وقد حصل على الشهادة الابتدائية (وكانت ذات قيمة في تلك الظرفية) أن يترشح لوظيفة رسمية أو شبه رسمية مثلما فعل الكثيرون ممن لم يفكروا سوى في ذواتهم، لكنه خير على ذلك النضال الاجتماعي والالتزام بالدفاع عن المسحوقين ممن يطحنهم رأس المال في اليوم ألف مرة ويقتلهم الاستبداد في نفس اليوم ألف مرة أخرى. لم تكن للرجل مؤهلات خاصة تسمح له بالتميز ضرورة، سوى عصاميته وإرادته النافذة لخدمة فكرة ومبدأ. أكثر من غيره كان الرجل قد نجح في إيجاد الحلقة المفقودة بين النضال السياسي والكفاح الاجتماعي. كم كانت ثورية فكرة أن لا معنى للكفاح العمالي من أجل الحقوق المادية دون إنسان حر. أصبح حشاد يرمز في الذاكرة الجمعية إلى ما يوحد التونسيين ويجمع شملهم، ولعل مقتله الغادر قد زاد في الهالة التي أصبح يحظى بها لدى أجيال التونسيين والأحرار في العالم. لا يمكن للقهر أن لا يخطئ أخطاء قاتلة، فالأمر متضمن في منطق القهر ذاته.
لا يهمنا موضوع البحث عن قتلة حشاد سوى من زاوية أنه استعادة الذاكرة لفضائها الطبيعي في الوعي الجمعي، فالقتلة معروفون والمسؤوليات واضحة، منذ زمن ليس بالقصير. ما يهمنا هو الطريقة التي تفاعل بها الناس مع عودة هذا المعلم إلى التداول. ففي حين فهم معظمهم أن القضية أبعد من تحقيق جنائي أو اعتراف بمسؤولية سياسية، تهاوى قسم آخر في محاولة استثمار رخيصة للقضية وتصاعدت أصواتهم المبحوحة لكثرة صراخهم في الساحات الفارغة، مطالبين بالجزئي ومتناسين المسألة الأساسية: ما نحتاجه هو ترسيخ ثقافة الرمز، وثقافة البطولة، وهوية الإنسان بوصفه ذلك الكائن المكافح من أجل إنسانية لا تكتمل سوى بقيمة الحرية. تطرح قضية حشاد مسألة أعمق من الشكل القانوني للصراع أو من جزئيات تنفيذ العملية الغادرة: تضع المسألة أمامنا وضعية صراع على الذاكرة وتؤسس لمسار تحريرها. لا يتم ذلك في نظرنا إلا بإخراج حشاد من قبره ووضعه رمزا تحت تصرف الذاكرة. منذ نصف قرن يستأثر الرسمي بالذاكرة، يصوغها كما يريد ويبغي، يبقي البطل أسيرا لبناية جميلة ولكنها باردة، معلما شبه رسمي بجوار معالم الإدارة الأخرى. هل يدرك الناس أن الضجة التي يفتعلها بعض مهنيي النضال الاجتماعي حول متابعة قضية الاغتيال ليست سوى مفتعلة وأنها لا تعدو سوى أن تكون خطوة أخرى على نفس درب الاستثمار السياسي لمناسبات قادمة؟ ليس من معلم أكثر من التجربة، كما يقولون !
في المقابل، يبدأ مسار آخر سيتسنى ملاحظة عمقه بعد جيل أو جيلين، مسألة استعادة المجموعة لذاكرتها وهوية تاريخها الأصيل. بديهي أنه على المؤرخ اليوم أن ينخرط في هذا المسار وأن يخرج عن جفاف دوره الأكاديمي، وأن يذهب للبحث عن جمهوره المتعطش لاستعادة روحه وتنقية رئة الذاكرة من شوائب النسيان والنكران. ليس أكثر قداسة من هذه المهمة، فالناس في حاجة إلى رموز وأساطير. أجدى بالأساطير أن تكون مؤسسة لفكرة، وليس من فكرة أرقى وأسمى من فكرة الإنسان.