ما فقدناه بتصفية اليوسفية
عدنان المنصر
تقديم كتاب:
"اليوسفيون وتحرر المغرب العربي"، تأليف عميرة علية الصغير، المغاربية للطباعة والإشهار، تونس 2007، 300 صفحة.
صدر صحيفة الموقف التونسية العدد 418 بتاريخ 14 سبتمبر 2007.
صدر للباحث عميرة علية الصغير كتاب جديد خصصه لتتبع تاريخ الحركة اليوسفية بتونس ومساهماتها في مسيرة تحرر المغرب العربي. ولمن لا يعرف الكاتب فهو مؤرخ جامعي وأستاذ محاضر بالمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية بتونس وقد صدرت له دراسات عديدة حول مسائل متعددة من التاريخ المعاصر لتونس وبصفة خاصة حول موضوع المقاومة المسلحة والحركة اليوسفية.
بعض فصول هذا الكتاب منشورة كما أشار إلى ذلك المؤلف في مجلات تاريخية وندوات علمية نظمت خارج تونس، ولعل نشرها اليوم يتيح لجمهور أوسع من المتتبعين مطالعة أبحاث شديدة الالتصاق بإشكالات تهمنا كتونسيين بشكل مباشر. خصص المؤلف الفصل الأول من كتابه لدراسة الظاهرة اليوسفية، وهو فصل لم ينشر سابقا. وقد جعل المؤرخ من هذا الفصل الذي استحوذ على ثلث الكتاب تقريبا، مدخلا لبقية فصول الكتاب التي جاءت متراوحة بين دراسة بعض المسارات الفردية لمناضلين في التيار اليوسفي وبين دراسات أخرى يمكن القول أن الرابط بينها هو الرغبة في دراسة ما أسماه عميرة علية الصغير بالتواصل النضالي بين شعوب المغرب العربي. في الفصل الأول، يبدو لنا حرص المؤرخ على إتباع منهجية صارمة مكنته في نظرنا من تقديم دراسة هي من أفضل فصول الكتاب. لم يسقط المؤرخ في التعاطف مع اليوسفية بل تناول هذه المسألة بحرفية عالية. فالقارئ وإن لاحظ أحيانا "تقريعا" للشق البورقيبي فإن ذلك لم ينتقل إلى تبرئة للجانب اليوسفي في الصراع الذي قسم البلاد نصفين وألقى بخيرة أبنائها في أتون الحرب الأهلية. يبدو المؤرخ مهتما بمسألة أخرى مختلفة تماما، حيث نراه يحاول إثبات أن اليوسفية كانت حركة معارضة وطنية، وأن عوامل عديدة دفعت الأمور في الاتجاه الدموي المعروف الذي أخذته بعد ذلك. هل حقق بورقيبة استفادة ما من هذه المعارضة في مفاوضاته مع الفرنسيين؟ لا يشك المؤلف في ذلك بتاتا بل يرى أن كثيرا من الفضل في حصول البلاد على استقلالها التام في ظرف وجيز كان بفضل التهديد الذي شكلته اليوسفية على المسار السابق حيث بدا بورقيبة في حاجة شديدة لمكاسب سياسية ملموسة تنقذ شعبيته في نظر مواطنيه، وهو ما اضطرت فرنسا إلى القبول به في نهاية الأمر. ماقيمة التأكيد على أن اليوسفية كانت حركة معارضة وطنية؟ الأمر في منتهى الأهمية من زاوية نظر تاريخية لأن ذلك يعني القطع مع ما حاولت الإيديولوجيا الرسمية باستمرار أن تنشره عن اليوسفية بوصفها "فتنة"، و"عصابات مجرمين"…إلخ. كما أن الأمر هام أيضا من منطلق وطني جامع يرى أن ما تحقق من مكاسب في نهاية العهد الاستعماري كان إنجازا مشتركا بين جميع أبناء الوطن، لا أحد يملك حق الاستئثار به لنفسه وإقصاء الآخرين منه.
ماذا فقدت المسيرة الوطنية وتجربة الدولة من القمع الذي طال هذا الفصيل الوطني حتى قضى عليه؟ الكثير. فقد قضي بذلك على أكبر فصيل معارض للحكومة وللخيارات البورقيبية و لم يبق على الساحة أية زعامات أو أحزاب يمكن أن تفرض صيغة ديمقراطية ما قائمة على وجود حزبين كبيرين يتنافسان على الحكم. ولكن هل يجوز لنا أن نتساءل عن الإمكانية الحقيقية لنشأة حياة ديمقراطية بوجود زعامتين كبورقيبة وبن يوسف؟ هل كان بن يوسف أكثر ديمقراطية من بورقية؟ هل كان يقدم ضمانات أفضل من تلك التي قدمها بورقيبة للتونسيين من أجل بناء الدولة العادلة والديمقراطية المنشودة؟ لا أحد بإمكانه الجزم بهذا الخصوص ولكن هناك شيئا أكيدا: لقد فقد التونسيون القدرة على الاختيار منذ ذلك الوقت وأصبحوا تحت التصرف المطلق لطريقة واحدة في الحكم تصورها وصاغها ونفذها بورقيبة، في تجاهل كامل للمؤسسات ودون أي اعتبار لما يسمى بالإرادة الشعبية.
أما الإشكالية الثانية الأساسية في الكتاب فتتناول مسألة الكفاح المغاربي من أجل التحرر ودور اليوسفيين فيه. لا أحد يمكن أن ينكر أن اليوسفيين كانوا أكثر إيمانا والتزاما برؤية تجعل من كفاح التونسيين من أجل التحرر جزءا من كفاح أكبر في إطار المغرب العربي، وأن وحدة ذلك الكفاح إحدى ضمانات نجاحه الأكيدة. قدم اليوسفيون شهداء كثيرين على هذا الدرب، وامتزجت دماء الكثيرين منهم بدماء إخوانهم الجزائريين، في إطار هياكل مستحدثة كجيش تحرير المغرب العربي الذي أنشئ في القاهرة بحرص مباشر من جمال عد الناصر وأوكل أمر الإشراف عليه إلى القائد الميداني الشهير الطاهر لسود. والمؤلف لا يقف عند هذا الحد في استقرائه لطبيعة العمل المغاربي المشترك من أجل التحرر، بل يعود إلى دراسة الذهنية التونسية على سبيل المثال من خلال بحثين حول تفاعل التونسيين مع أحداث المغرب الأقصى وبحث آخر حول جيش التحرير الوطني الجزائري بتونس، ليخلص إلى تأكيد فكرة بدت له شديدة الوضوح، وهي أن الحس المغاربي حس أصيل لدى أجيال الوطنيين التونسيين وأنه بالرغم من ذهاب البعض أحيانا إلى اتهام اليوسفية بأنها استوردت الهم المغاربي من مصر الناصرية، فإن اليوسفيين لم يستحدثوا هذا الحس وإنما تفاعلوا معه باعتباره نتاجا طبيعيا لمسيرة تاريخية طويلة. لم يغبط المؤرخ البورقيبية حقها بهذا الخصوص عندما أكد على ما قامت به مؤسسات الدولة الوليدة من مساندة حثيثة للمقاومين الجزائريين المستقرين بتونس، (وإن كان ذلك من باب مكره أخاك لا بطل)، غير أنه أكد على طبيعة الظرف وخصوصية الحسابات التي حتمت على حكومة الاستقلال القيام بذلك.
هل أدت هزيمة اليوسفيين إلى نهاية التيار المؤمن بالوحدة المغاربية في تونس؟ قد يكون ذلك أول ما يتبادر إلى الذهن غير أن ما يمكن التأكد منه أكثر هو أن البلاد فقدت إمكانية أخرى للتعامل مع هذه المسألة غير تلك التي أرسى أسسها الزعيم بورقية وطبقها بعد أن استحوذ على سلطة القرار السياسي بالبلاد. من هنا فإن انتصار بورقيبة في خاتمة الصراع كان فاتحة لتنفيذ سياسة قطرية بحتة جعلت من البناء المغاربي أمرا ثانويا وإن لم تخل الأدبيات الرسمية من تأكيد العكس. انتصرت القطرية إذا على الاتجاه الوحدوي الذي عبر عنه التيار اليوسفي، وقد لقي بورقيبة مساندة متحمسة من الفرنسيين من أجل إلحاق الهزيمة بخصمه، وهو ما تم في النهاية. من هنا نشأت فكرة أخرى كان وراءها اليوسفيون، وهي أن بورقيبة كان "عميلا للإمبريالية المتضايقة من المد القومي". يمكن تفهم ذلك في الإطار المخصوص للصراع، ولكن أن يتواصل الإيمان بذلك في بعض الأوساط إلى حد اليوم، فأمر يدعو للرثاء حقا. قد يرد آخرون: ولكن قطرية بورقيبة حمت البلاد من الوقوع فريسة الفشل المدوي لذلك المد القومي، وسمحت بالشروع في بناء دولة حديثة على أسس أكثر عقلانية مما وقع في بلدان أخرى "أقل تبعية للإمبريالية"، وأسست لنظام سياسي مستقر إلى حد ما.
تلك بعض من الأفكار التي توحي بها مطالعة كتاب الأستاذ عميرة علية الصغير الذي جاء تتويجا لجهد توثيقي كبير ومحاولة لتقديم قراءة لظاهرة سياسية لا تزال تحتفظ إلى اليوم بكثير من الإثارة. لم يسقط المؤلف في هذه الإثارة بالتأكيد بل حاول القيام بعمل المؤرخ القائم على احترام المسافة بينه وبين الموضوع، ونحسب أن نجح إلى حد كبير في تقديم مرجع أساسي لمن رام دراسة هذه الظاهرة.
3 commentaires:
شكرا على تقديمك لهذا العمل الذي يكون مهما كان لبنة جديدة في عملية نفض الغبار على التاريخ الوطني المعاصر، و هذا في حد ذاته تقدم كبير لما عاشته البلاد و ما زالت تعيشه من تعتيم لفترات مهمة من التاريخ الوطني.
غير أنه يبدو لي من المهم القيام بعملية مباعدة تاريخية لهذا التطور الذي حصل داخل الحركة الوطنية- أي الحزب الحر الدستوري التونسي- و هو إما تطور مفاجئ و غير متوقع و هذا يعني أنه هناك قضايا أساسية لم يقع حسمها داخل أجهزة الحزب – الديوان السياسي و المجلس الملي- و هذا خطير بالنسبة لحزب أخذ على عاتقه مواجهة الاستعمار الفرنسي و تغافل عن إثارة القضايا التي تسببت في الانشقاق ، إما لعدم توفر الجدل داخل الحزب لأسباب عديدة، أو لعدم توفر النقاش الديمقراطي و استئثار شق دون آخر بالقرارات المصيرية.
فالتوجه البورقيبي للتفاوض و المراحل و سياسة خذ و طالب ليست حديثة بل تعود إلى أوائل الأربعينات من خلال نختلف المقترحات التي تقدم بها للدولة الفرنسية حول اقتسام الحكم. و لربما تعتبر حكومة شنيق التي شارك فيها الحزب بشخص صالح بن يوسف من الأدلة القاطعة على هذا التمشي.
فالملاحظ المتروي يبقى مذهولا من موقف صالح بن يوسف غداة الاتفاقيات التي أدت للاستقلال الداخلي و التي اعتبرها خطوة إلى الوراء في حين كان الأمين العام للحزب و المفروض أن يكون مطلعا على تفاصيل الخط الاستراتيجي للحزب و لعل مشاركته في حكومة شنيق موافقة عملية لا ضمنية على هذه الإستراتيجية.
إن الخلاصة التي تبدو اليوم من هذا الخلاف، هي خلاصة نعيشها إلى الآن و هي انعدام الممارسات الديمقراطية داخل الحزب. فالخلاف كان بالإمكان أن يبقى داخل الهياكل الحزبية ليفرز على حق تواجد التيارات المختلفة و حق الأقلية في التواجد في كنف الممارسة الديمقراطية، كما كان بالإمكان إرجاء الخلافات للمؤتمر ليحسم فيها دون أن تلجأ الأقلية للانسلاخ من الحزب و تكوين حزب آخر. و حتى في هذه الحالة كان بإلامكان تجاوز الانقسام و القبول به و الدخول في صراع سياسي لا يؤدي إلى إستراتيجية تدمير الخصم و هذه الإستراتيجية يتحملها الخصمان بكل تبعاتها، إذ لم يكن في نية هذا-بورقيبة- أو ذاك-بن يوسف- القبول بالتعايش السياسي السلمي و كلاهما اختار الحل العنيف الذي يؤدي لمسح الخصم من الخارطة السياسية و حتى القتل.
هناك مسألة ثالثة هي ما يعرف به الكاتب بجماعة اليوسفيين من هم باستثناء بن يوسف و علي الزليطني و الطاهر عميرة لو بالامكان إنارتنا أكثر في هذا الباب.
و لو تفضلت بإعطاء قائمة في أعضاء الديوان السياسي الذين بقوا مع بورقيبة و الذين التحقوا ببن يوسف لتكون الصورة أكثر و وضوحا، فأنا شخصيا يزعجني حشر الطاهر لسود ضمن اليوسفيين و على حد السواء المحجوب بن علي ضمن البورقيبيين فهؤلاء في نظري أقرب للمرتزقة منهم للقادة السياسيين الذين لهم تأثير سياسي على مجريات الأحداث. و عفوا على الإطالة.
شكرا جزيلا على تعليقكم وعلى تساؤلاتكم القيمة التي تدل على اهتمام بهذا الموضوع الخطير النسبة إلى تاريخنا المعاصر.
نعم، يمكن تلخيص عناصر الأزمة في عدم قدرة الحزب الدستوري على مواجهة التناقضات والإختلافات داخل صفوفه بممارسة من النوع الديمقراطي. لذلك فقد انفجرت هذه التناقضات بطريقة دموية عندما شعرت الأطراف الفاعلة بأن وقت القطاف قد حان، وهو مسار لا تختص به تونس فحسب بل شهدته أقطار أخرى عديدة في مرحلة ما التحول إلى الإستقلال.من ناحية أخرى، هناك صعوبة في تعريف اليوسفية إذا ما نظرنا لى طبيعة العناصر والجماعات التي انضوت تحت لوائها، وعادة ما يقع حل الإشكال بالقول أن اليوسفيين هم الذين رأوا في الإستقلال الداخلي خطوة إلى الوراء، وهذا في نظري لا يفسر شيئا، لأن كثيرا من الجماعات انتمت إلى التيار اليوسفي إما عن اقتناع بالتبريرات التي قدمها صالح بن يوسف وإما خوفا. خوفا على مصالح معينة من أن يعصف بها العهد الجديد (بعض العناصر البلدية والمحيطة بالقصر، أو خوفا من توجهات سياسية وثقافية كان بورقية لا يخفيها مثلما هو حال الزيتونيين، أو رغبة في المزايدة حتى تنسى ممارساتها السابقة (بعض العملاء السابقين)،
الإصطفاف لم يكن دائما لاعتبارات ايديولوجية كما يبدو، والمسألة بالغة التعقيد، أحيانا كانت الإعتبارات العشائرية أو الشخصية تلعب دورها في ذلك. بعض الرموز غيرت اصطفافها نتيجة بعض الوعود، مثلما كان شأن الاهي الأدغم والرشيد إدريس، أما في خصوص الطاهر الأسود فأعتقد أن هناك خلطا مع الساسي الأسود، الأول لا يمكن نعته بالإنتهازي مطلقا أو بالمرتزق، والثاني يشبه كثيرا في مسيرته المحجوب بن علي.
كتاب علي المعاوي خواطر ومذكرات يقدم تفاصيل كثيرة حول هذا الصراع ويقدم أسماء كثيرة، بإمكانكم العودة إليه إذا ما شئتم تعميق النظر في المسألة وإذا شئتم أيضا أضعكم في اتصال مع مؤلف الكتاب الأستاذ عميرة.
رأي
بصفتي تقني قد لا أجيد اللغة العربية ولكن هذا لا يمنعني من التعبير في ساحة هذا الموقع للواب الذي أهتم به لما أرى فيه من الجدية والشجاعة والطرافة والتوق...
إني أتساءل وفي ميدان التاريخ المعاصر ببلادنا عما هو نصيب البحث العلمي العالمي لآني قلما سمعت أو أبصرت في هذا المجال عنوانا يدرس مسالة أوربية أو أمريكية أو افريقية أو آسياوية .... فقد لا أكون مطلعا على البحوث الجارية في الميدان الجامعي ولكن المكتبات العمومية المتواجدة في الشارع والمروجة عادة لبعض من هذا الإنتاج تفتقر إلى اقل من ذلك. وعلى كل فاني اعتبر أن سؤالي لا يخلو تماما من الأهمية .
لا اخفي أني أتصور أن الباحث التونسي في شتى المجالات يتحرك في ميدان ضيق وفي نطاق مواضيع محلية وهذا يؤدي إلى الانغلاق ... كما أن هذه المحليات أو الخصوصيات لا تمكن البحث ولا الباحث من الإخصاب حتى يتسنى له أن يدخل العالمية ولو من نافذة صغيرة.
ادريس
Enregistrer un commentaire