mercredi 24 juin 2009

في "مقام الحيرة "، الجزء الثاني




في "مقام الحيرة "

-2-

عدنان المنصر

صدر بجريدة الموقف بتاريخ 15 ماي 2009


تطرقنا في الأسبوع الماضي إلى كتاب "حيرة مسلمة" لصاحبته الباحثة ألفة يوسف من زاوية تناولها للعلاقة الزوجية ومسألة تعدد الزوجات وزواج المتعة، ونواصل في هذا الجزء الثاني التعرض لهذه المسألة بطريقة نسعى من خلالها إلى محاورة المؤلفة ومناقشتها في بعض المنطلقات وفي تمشيها المنهجي.

إن هموم الحاضر موجودة بقوة في تناول المؤلفة لمسألة العلاقة الشرعية، حيث نراها تتفاعل مع مشاكل الفئات غير القادرة على الزواج عن طريق البحث في إمكانيات أخرى لتصريف الطاقة الجنسية، من ذلك كما أسلفنا زواج المتعة، وهو نفس التمشي الذي ذهب إليه الطالبي على سبيل المثال عندما اعتبر "نكاح السر" أو الزواج العرفي حلا محتملا لتلك القضية. ومعنى ذلك أن المسألة تبقى إجتماعية، وأنه يراعى في الحل أن يكون متطابقا قدر الإمكان مع الشرع. كذلك الأمر بالنسبة لتعدد الزوجات، فهي قضية إجتماعية تعاملت معها الأديان، المسيحية كما الإسلام، بما يتلائم أولا مع منحاها الإصلاحي ومع درجة تطور المجتمعات. هناك خلط كبير يقع فيه كثير من الناس بالقول أن الإسلام يشجع على تعدد الزوجات، الإسلام يحل ذلك ولا يفرضه أو يشجع عليه. ومن منطلق تاريخي فقد كان "الإكتفاء" بأربعة زوجات تطورا مقارنة بما قبل الإسلام حيث لم تكن الممارسة الإجتماعية تعترف بأي تحديد. وبغض النظر عن الشروط التي وضعها القرآن للسماح بالتعدد، فإن التطور الثقافي للمجتمعات ينقل المسألة حتما من الحيز الديني إلى الحيز الإجتماعي والثقافي، وهو ما نرى أنه من المقاصد الواضحة للشريعة. إن المشكل في نظرنا ينبع من سعي الحداثة لتعويض الدين عندما تسعى، في نسختها الأكثر شيوعا بيننا، لتعويض الحكم المقاصدي النسبي إلى حكم نهائي بات لا يحتمل المراجعة. حتما إن "دين الحداثة" أقل تسامحا من "دين الله".

إن مشاكل الواقع الراهن تدفع أحيانا بالبشر للبحث عن حلول لا تختلف شكلا عن ممارسة تعدد الزوجات، وهو ما نجد له صدى في سماح القوانين الغربية بالمعاشرة الحرة رغم ما قد ينشأ عنها من ضرر لمؤسسة الأسرة ومن عدم استقرار اجتماعي للمتعاشرين وأبنائهم. ولعل المؤلفة محقة عندما اعتبرت أن العراقيل أمام الزواج تجعل من الشباب مكبوتا إلى سن متقدمة نسبية، غير أنها ربما أغفلت أن تذكر أن هذه العراقيل هي في الحقيقة من ضمانات عدم شيوع تعدد الزوجات ولو سمح به قانونا، بل إن المؤرخين ربما أكدوا أن هذه الظاهرة كانت محدودة الإنتشار في بلادنا حتى قبل صدور مجلة الأحوال الشخصية. ونعتقد أن تلك القوانين رغم ما أنتجته من تعارض بين الممارسة القانونية والسماح الشرعي قد أحدثت ديناميكية إجتماعية إنعكست استقرارا أكثر في الأسرة، وأن واضعيها انطلقوا من نية للتوفيق بين مقاصد الشريعة وحتمية الإصلاح الإجتماعي. غير أن ما نعيبه على الحداثة والحداثيين سعيهم إلى تعويض المقدس الإلهي (الشرع) بمقدس آخر (القوانين) أقل استعدادا للنسبية والتلاؤم مع ما قد ينشؤه تطور المجتمعات من إشكالات.كما نعيب علي بعضهم في سياق متصل أن ينظروا إلى الزواج كعقد بيع لبضاعة جنسية في حين ترسخ بعض إقتراحاتهم هذا المبدأ وتنسف مبدأ الأسرة والمجتمع المتوازن نسفا.

قد تنتابنا الحيرة في تفسير بعض النصوص ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نحدد ما نريده بوضوح. في هذه النقطة بالذات، وقياسا على تمشي المؤلفة، فإن الحيرة تبدو، يا لغرابة الوضع، من نتاج الحداثة وليس من نتاج الإسلام. ألم تضيق الحداثة بسعيها لتعويض الدين مجال المناورة أمام من جاءت لتعبر عن توقهم إلى التلاؤم الأمثل مع العصر؟ وإذا كانت أحكام الشرع الإسلامي تحتمل التأويل إلى حد التناقض الناتج عن درجة السعي لملاءمة المبدأ مع الظرف، فإن "شرع الحداثة" لا يحتمل أي تأويل. من نفس المنطلق، من يعتبر تصريف الطاقة الجنسية أمرا معيبا، الإسلام (بسماحه بها في إطار الزواج المتعدد عندما تتوفر شروط كم يصعب ضمانها)، أم الحداثة (بنقلها الموضوع بأكمله إلى حقل الممنوع قانونا)؟ ومن يعتبر الممارسة الجنسية أمرا مسكوتا عنه بمنطوق الأحكام والقوانين (يكفي هنا أن نقارن بين حجم تناول المدونة الفقهية لمسائل الجنس مع أي مدونة أوروبية مهما ضربت عروقها في التاريخ)؟

تقترح ألفة يوسف على قرائها سؤالا أثار كثيرا من اللغط: "لماذا رفض الرسول أن يتزوج علي على فاطمة؟" وتورد القصة وفحواها أن "بني هشام بن المغيرة" استأذنوا الرسول في أن يزوجوا ابنتهم عليا، وهو ما صرح الرسول برفضه ثلاثا وهو على المنبر، على أساس أن فاطمة "بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها". تستنتج المؤلفة اعتراف الرسول بالأذى الناتج عن تعدد الزوجات بالنسبة للزوجة الأولى، ولا نخالفها البتة الرأي، غير أننا لا نوافقها فيما ذهبت إليه من وجود تعارض بين حديث الرسول ومنطوق النص القرآني. كان بإمكانها أن تقول أن الأمر يتعلق بابنة أبي جهل، فذلك يغير الكثير من الأشياء. هناك الكثير من المعطيات الظرفية التي تفسر رفض الرسول تلك الزيجة، من ذلك خريطة التصاهر وتأثيرها في توزيع النفوذ في فترة حساسة من تطور الإسلام. من الغريب أن المؤلفة لا تولي لكل تلك الظرفية أدنى اهتمام وهي التي تتمسك بالنسبية كأشد ما يكون التمسك. غير أن الأغرب هو قولها أن الأمر يحتمل تأويلين: أولهما أن القرآن لم يبح ولم يمنع، وبالتالي فإن التعدد منسوخ "عبر الزمان" باعتبار أن التعدد سيئة من سيئات الجاهلية. وثانيهما أن الرسول إنما تصرف "كأب حرم ما أباحه الله"، مستدركة أنها "لا تقف هذا الموقف الذي قد يمس من شمول الرسالة وقداستها" (ص 135). وبما أن المؤلفة قد استبعدت الإحتمال الثاني(وهو ما يتناقض مع ما ذهبت إليه قبلا عندما أكدت أنه "مما لا شك فيه أن الرسول كان يسلك أحيانا سلوكا بشريا لا يستوجب بالضرورة اتباعه باعتباره سلوكا يخضع لأذواق شخصية وأطر تاريخية"، ص 117) فقد بقي لنا الإحتمال الأول وهو أن إباحة التعدد "منسوخ عبر الزمان" وأن النص القرآني في نهاية الأمر "لم يبح ولم يمنع". ما معنى وضعية "لم يبح ولم يمنع" هذه؟ كم يتطلب الأمر من شجاعة للقول أن الإباحة لا تفرض الأمر، وأن الأذى الحاصل من التعدد أمر واضح بفعل الشروط الصعبة التي يضعها النص نفسه، ولكن المؤلفة تبدو كمن قررت ترك ما لا يريبها إلى ما يريبها.

في الإطار ذاته تتناول ألفة يوسف بعض المسائل الطريفة وتجهد نفسها في التفكير فيها لتقر في النهاية بأن الأمر عبثي، من ذلك مسألة تعدد الأزواج للمرأة الواحدة حيث تنطلق من تقرير أنه "لا نجد في القرآن آية صريحة تحرم زواج المرأة بأكثر من رجل" (ص126) وهذا صحيح، غير أن القول بأن المفسرين إنما استندوا إلى الآيتين 23 و 24 من سورة النساء لتحريم ذلك أمر فيه الكثير من السطحية. ينبغي العودة هنا إلى قضية الأنساب باعتبارها مبدأ مركزيا لم يأت به القرآن وإنما وجده فدعمه، وهو المبدأ الذي يدمره تعدد الأزواج للمرأة الواحدة، إلا إذا كان المراد أن يدعى الأبناء لأمهاتهم وليس لآبائهم، وهو أمر لم تذهب إليه المؤلفة. من الغريب أن المؤلفة لا تتوقف عند قضية الأنساب هذه رغم مركزيتها ليس في الفقه فحسب بل في ثقافة الإسلام كلها. تنتهي المؤلفة بعد 5 صفحات إلى الإقرار بعبثية الاحتمال الذي انطلقت منه، وهي عبثية نكتشفها في مواقع أخرى مما يجعل الحيرة، في بعض الأحيان، "مختلقة".

فعندما تتحدث الكاتبة عن اللواط والسحاق نجدها تعتبر أن ليس هناك نص صريح في القرآن يحرمهما، وقد فهم بعض الناس خطأ أن ألفة يوسف إنما تدعو إلى "الشذوذ الجنسي"، وهو أمر يدل على سوء فهم واضح للكتاب. تناقش المؤلفة مدى تطابق التفاسير مع منطوق النص القرآني في خصوص قضية قوم لوط، وتشكك في إمكانية أن يكون العقاب قد حل عليهم بسبب اللواط وحده، باعتبار أن "المنكر" الذي كانوا يأتونه في ناديهم لا يقتصر تعريفه على اللواط فقط. وعلى اللواط تقيس الكاتبة السحاق لتصل في النهاية إلى أن الفقهاء ربما حملوا في قراءاتهم للنص ما لا يحتمله ضرورة أو أنهم، مرة أخرى، "ضيقوا معنى النص". غير أن هدف المؤلفة كما فهمناه يتجاوز هذه النقطة ليصبح إدانة لاعتبار اللواط فعلا محرما لمجرد أنه يجعل الرجل في وضعية المرأة، وهو ما يرسخ حسب رأيها الطبيعة البطركية للمجتمع الإسلامي. في القرآن أيضا لا نجد أشياء كثيرة، مثال العلاقة الجنسية بين إنسان وحيوان، كما لا نجد نهيا عن أكل القذرات،هل يعني ذلك أنه سكوت قابل للتأويل؟

من الغريب، مرة أخرى، أن الكاتبة التي أطالت البحث في هذه المسائل قد نظرت إلى النص في غياب الطبيعة والمألوف والعرف، ذلك أن الجنس أصلا هو تكامل بين الأنثى والذكر بما يحقق هدف الإعمار في إطار من الألفة والمودة والرحمة، أما القول بأن الآية "زين للناس حب الشهوات من النساء..." تحتمل أن المقصود بها الرجال تجاه النساء والنساء تجاه النساء فهو لا يعدو أن يكون تأويلا مناقضا لروح الطبيعة والفطرة و"المعروف"، تلك الروح السابقة والمحددة والمتحكمة في الشرع الإسلامي، وهو ما سلمت به المؤلفة لاحقا عندما قالت "أن تأويل القرآن لا يمكن أن يخرج عن المعروف" (ص 226) . حتما، إن "القرآن ليس مسؤولا عن استيهامات قارئيه وشهواتهم العميقة" (ص 221)، ولكنه أيضا يحتوي على نوع من المنطق الداخلي الذي ينبغي أخذه بعين الإعتبار عند التصدي لفهمه.

من الصعب أن نتناول كل النقاط التي أتت عليها ألفة بوسف في كتابها، إلا إذا تطلب الأمر حلقات تمتد على أسابيع عديدة، وهو أمر يبدو غير متاح. حسبمنا أننا نقدر المجهود المعرفي الذي قامت به المؤلفة، والمؤلفون يعرفون أن أكبر تكريم لهم هو مناقشتهم في مضمون كتبهم. ذلك أن كتاب ألفة يوسف بوصفه دعوة إلى السؤال إنما هو دعوة إلى النقاش، وذاك في حد ذاته كاف ليعطى ما يستحق من اهتمام. إن حيرة ألفة يوسف هي حيرة الحداثة، أو قل حيرة أحد وجوه الحداثة، تجاه عودة الدين إلى الساحة. هناك تخوف على مكتسبات الحداثة في هذا الكتاب، وتوق إلى حث مسار التحديث الذي لا ينبغي أن يتوقف، في المجال التونسي، عند مجلة الأحوال الشخصية التي غدت قاصرة، في نظر الكاتبة، عن الإستجابة للتطلعات المشروعة لتحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. إنها تبدو كمن يحث الخطى لضمان أسبقية إضافية على "الخصم". غير أنها في سعيها ذاك كثيرة التعثر، ذلك أن حيرتها تمنعها من رؤية طريقها بوضوح: ألا يتطلب الأمر، بالموازاة مع تحيين فهمنا للشرع وأحكامه، أن نقوم بتحيين) ( update فهمنا وممارستنا للحداثة، أم أن وأد المقدس يستتبع حتما تفريخ مقدس آخر أقل استعدادا للتسامح وصالح، هذه المرة، "لكل زمان ومكان"؟.


Aucun commentaire: