jeudi 3 mai 2007

تصور البورقيبية لمسألة الأمة وقضية الهوية

تصور البورقيبية لمسألة الأمة وقضية الهوية
عدنان المنصر

مداخلة في ندوة بورقيبة والإسلام التي نظمها منتدى الجاحظ بالإشتراك مع دار الجنوب للنشر يوم السبت 29 جانفي 2005 في فضاء التياترو بتونس.

رابط الندوة:
http://www.eljahedh.org/Documents/borgibr1%20%20%20_s%20%20_.htm

لم أدرس تصور بورقيبة فقط بل البورقيبية باعتبارها لم تكن نتاج بورقيبة فقط بل ساهمت فيها النخبة التي أحاطت به في الحكم سواء كانت مثقفة أو نخبة حاكمة فعندما نقول نخبة وطنية مثقفة نقصد النخبة التي تبنت البورقيبية وطورتها وأعطتها الكثير من الزخم للفكر البورقيبي.
وقد استغرقت قضية العلاقة بين الدولة والأمة جانبا كبيرا من الجهد التنظيري لهذه النخبة غداة الاستقلال بالخصوص وإن بدأ التفكير حول هذه المسائل خاصة منذ ظهور أول الفضاءات الفكرية من سنة 1954 تقريبا عبر مجلة الندوة التي تلتها مجلة الفكر وهذه النخبة بقيادة بورقيبة ستنيط بالدولة ليس مهمة إنشاء مؤسسات الدولة فقط أو عقلنة التصرف الإداري وإنما خاصة إنشاء نموذج جديد من الأمة عن طريق مجهود سياسي وثقافي وتعليمي وقانوني متناسق يسند ويبرر الواقع السياسي الجديد المتسم بسيادة الدولة القطرية، ويشكل سدا منيعا في وجه الخيارات العروبية أو الإسلامية التي كان يعتبرها بورقيبة أكبر تهديد لنموذج الدولة الحديثة.
من هنا يأتي الدور الكبير الذي أسند للمدرسة وللنظام التربوي في صيرورة إنشاء أجيال جديدة تؤمن بهذه العقيدة الوطنية الجديدة وبالفعل فدستور سنة 1959 ضبط هذه الخطوط العامة لهذه الأمة التونسية فجعل حدودها سياسية وليست ثقافية.
ويمكن القول عموما إن تصور بورقيبة للأمة ينطلق من نظرية الدولة لديه ويمكن تلخيص المبادئ العامة
لهذا التصور في ثلاث نقاط رئيسية:
النقطة الأولى:
إيديولوجيا الدولة الوطنية تعتبر الدولة أداة التغيير الرئيسية إن لم تكن الوحيدة في المجتمع وشيئا فشيئا سيتطور الأمر إلى قلب العلاقة النظرية القديمة التي تعتبر الدولة نتاجا للمجتمع الذي يصبح بدوره نتاجا لها.
النقطة الثانية :
مجهود الدولة الوطنية كان يرمي إلى خلق" أمة متجانسة وموّحدة " فكان منطقيا أن تكون النتيجة القضاء على كل هيكل تقليدي وسيط بين الدولة والفرد أو بصيغة أخرى القضاء على كل عصبية منافية للعصبية الجديدة التي أرادت الدولة إنشاءها وهي العصبية للدولة أو العصبية للدولة الأم ، فضرورات البناء الوطني كما تتصورها النخبة الوطنية كان يتضمن تحييد كل الهياكل المستقلة ذلك أن الأمة يجب أن تبنى في نظر بورقيبة من الأفراد لأن الفرد الذي لا يكون مواليا لأية مؤسسة أو عصبية من السهل على الدولة أن تقحمه في مشروعها الحضاري الجديد وهو إنشاء الأمة.
النقطة الثالثة:
لا يتصور بورقيبة إنشاء الدولة إلا على أساس قومي أي وطني. فالأمة هي التي يجب أن تسند قيام الدولة، ولكن في نظره هذه الأمة غير موجودة و من هنا يأتي الدور الطلائعي للحزب كهيكل يضم نخبة الشعب عن طريق مزج عناصره المشتتة في وحدة منسجمة. فبورقيبة كان يعتبر دائما الحزب طليعة الأمة أي أمة مصغرة تتجاوز مهمتها المراحل الآنية لتبلغ هدفا أرقى وهو خلق أمة حقيقية منسجمة وموحّدة تقضي على التنافر بين الأفراد.
هذه هي النقاط الرئيسية التي ينطلق منها تصور بورقيبة للدولة والأمة وللهوية كتابع لتصوره للأمة.
إن قومية بورقيبة وطنية وقطرية بالأساس، وهي أيضا على ارتباط بمفهوم وهو مفهوم الأمة ونجد أنه في بعض الخطب لا يستنكف من الحديث عن أمة إسلامية أو أمة عربية خاصة في الخطب التي كانت تلقى بمناسبة المولد النبوي الشريف بالقيروان، لكن في أغلب الحالات الأمة التي كان يتحدث عنها بورقيبة هي الأمة التونسية، ويجد لذلك تبريرا وهو أن النخبة التونسية وضعت لنفسها بعد خروج المستعمر مهمة ذات أولوية وهي بناء الدولة الذي يتم بالموازاة مع بناء الأمة.
الأمة هنا لا تشكل معطى في الواقع وإنما هي حالة كامنة وفي أفضل الحالات مشروع في طور التحقيق فالمقياس الأساسي للأمة في نظر بورقيبة هو الدولة، ولا يمكن أن تتحقق بدونها وهو هنا يتبنى بشكل كامل تقريبا مفهوم الدولة القومية كما ظهر في أوروبا وخاصة في فرنسا يدفعه في ذلك تكوينه السياسي والفلسفي الليبرالي وعلى قناعة أساسية مفادها أن انحطاط الأمة العربية والإسلامية يعود أساسا إلى عدم استنادها إلى دولة حديثة ومركزية وفقا للنموذج الأوروبي ، وهذه الفكرة ستؤهله لتبني مواقفه المعروفة من الوحدة العربية وهو ما سيؤدي إلى ترسيخ معنى مختلف وأحيانا مناقض للوحدة القومية بمفهومها غير القطري أي الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية ..
فبورقيبة حين يتحدث عن القومية فهو يعني القومية التونسية أو الأمة التونسية وفي هذا السياق بالذات يبدو أن بورقيبة كان شديد الحرص على تدعيم الصفة القطرية للقومية التونسية أو الأمة التونسية مما كان يعني أيضا إعادة صياغة الهوية التونسية في قالب سياسي وقانوني قطري يحررها من احتكار البعد العربي والإسلامي كبعدين مؤسسين لها، وقد بدأ هذا المسار منذ الشروع في إعداد الدستور التونسي الصادر سنة 1959 فالأمة بالمعنى الوارد في هذا الدستور هي الأمة التي عبرت عن وجودها كشعب مناضل من أجل التحرر والاستقلال وهي الأمة التي تتشكل بعد الحصول على السيادة التامة بفعل الدولة التي تحدد أحكام الدستور كيانها وصورتها .
ويشير دستور سنة 1959 إلى الأمة العربية بتعبير الأسرة العربية ويحتفظ بتعبير الأمة للأمة التونسية وهذا الدستور لا يكتفي بتغيير معنى الأمة فقط وإنما حتى لفظ قومية يتغير معناه ، فتصبح القومية التونسية معوّضة للقومية العربية فنجد أن جميع مؤسسات الدولة الوطنية تستعمل لفظ قومية كمرادف للفظ وطنية مثل " الشركة القومية للسكك الحديدية التونسية " وغيرها.
والحقيقة أن بورقيبة قد اكتفى في هذا المجال بوضع المبادئ للثقافة الجديدة المراد ترسيخها لدى الأجيال الشابة والتي يعتبر أنها الضامنة لاستمرار مشروع الدولة الوطنية في المستقبل في حين قامت أطراف أخرى بصياغة هذه الثقافة الجديدة وإعطاء إيديولوجيا الدولة الوطنية بعدا أعمق. إذ كانت هذه النخبة- التي نشأت في الصادقية وعايشت أهم مفاصل مسيرة التحرر الوطني واطلعت بحكم دراساتها العليا على ما كان يعتمل داخل الثقافة الأوروبية عموما والفرنسية منها بالخصوص غداة الحرب العالمية الثانية - كانت صاحبة مشروع جنيني عبرت عنه منذ الأعداد الأولى من مجلة الندوة وخاصة مجلة الفكر وهو مشروع التونسة أو " صيرورة تأصيل الكيان الوطني " وعني بالتونسة التأكيد على محتوى العقيدة الجمعية الجديدة المراد ترسيخها لدى التونسيين وهو ما سيسمى في المرحلة الموالية بالشخصية التونسية قبل أن تتحول إلى الهوية التونسية ثم إلى الأمة التونسية.
من أهم من طور هذه النظرة للأمة وللقومية التونسية نجد رمزين هامين هما محمد مزالي والبشير بن سلامة خاصة في مجلة فكر.
فالسيد محمد مزالي لاحظ من خلال استقرائه لتاريخ الشعب التونسي أن هناك خصائص كبرى تجمع بين أفراد هذا الشعب وتجعله يكوّن أمّة بالمعنى الكامل وهذه الخصائص لخصها ما أسماه بالقاعدة الروحية ذات المنبع الشرقي وجدلية العلاقة بحضارات شعوب البحر المتوسط والتي تجسمت عبر القرون تارة عبر الاحتكاك السلمي وطورا في التصادم الحربي إذن هناك صبغة متوسطية للهوية التونسية من هنا استنتج أن تونس والشاهد له " ليست مجرد فرع من أصل بل إنها وطن متميز له كيانه المعروف وحيزه الجغرافي المضبوط وإن دينها الإسلام معتقدا وحضارة وتراثا وسلوكا ونمط حياة ونظرة إلى الوجود وإن لغتها العربية الركن الركين للشخصية الوطنية والعنصر المتين للذاتية القومية "
غير أن طبيعة السجال الإيديولوجي والسياسي الذي عرفته تونس بين دعاة التشريق ودعاة التغريب جعل مهمة منظري الذاتية التونسية صعبة نوعا ما فإذا كان من اليسير نسبيا على هؤلاء مجابهة دعاة التغريب فإن مواجهة الخصوم الآخرين لم يكن بذلك اليسر، من هنا فإن التمسك بالثقافة العربية وبالدين الإسلامي كمكونين أساسيين لتلك لشخصية التونسية كان يرمي إلى رد تهم الفئات القومية والأطراف التقليدية التي شكلت في هذه الفترة و خاصة قبل هزيمة جوان 1967 عهدها الذهبي وذلك بسعي الدولة الوطنية في تونس إلى الخروج عن دائرة الانتماء الحضاري العربي الإسلامي.
أما السيد البشير بن سلامة فيؤكد على نفس المبدأ في التعامل مع الانتماء العربي الإسلامي بما يسميه بالأمة التونسية فهو يرى أن تأكيده على ما أسماه الشخصية التونسية هو تأكيد لوجود أمة تونسية دون أن يعني ذلك مطلقا أي استنقاص من أهمية انتساب هذه الأمة إلى الأمة العربية فالعصر أضحى عصر وطنيات ، كما يقول ، والوطنية أصبحت العصبية الجديدة التي تقوم عليها الأمم . و انطلاقا من هنا سعى البشير بن سلامة إلى إثبات فرضية وجود الأمة التونسية باعتبار توفر الشروط الأساسية التي تتمثل في أربعة شروط.
* وجود إرادة جماعية للعيش عيشة مشتركة .
* القدرة على تكوين الهياكل اللازمة كأمة قائمة الذات .
* توفر نوع من الثقافة .
* قدرة الشعب على أن يحكم نفسه بنفسه.
وفي مؤلفه الهام "الشخصية التونسية خصائصها ومقوّماتها " - والذي لا يمكن دراسة هذه المسألة دون الرجوع إليه - يرى البشير بن سلامة أن توفر هذه الشروط لا يعفي من التعامل مع بعض الخصائص السلبية في الشخصية التونسية وخاصة الصراع الجدلي والمستمر بين ما أسماه روح المقاومة المستمرة وروح التعاون والمؤالفة فهو يرى أن الحضارات التي شهدتها البلاد لم تكن لتنشأ وتستمر لولا وجود روح التعاون والمؤالفة مما سهل على سكان البلاد التونسية هضم ثقافة الغزاة وجعلها جزءا من بنائهم الحضاري، غير أن روح التعاون والمؤالفة ستصطدم دائما بظاهرة أخرى وهي التخريب والتهديم وروح الفتنة والتناحر وتقويض البناء عندما يشيد وتظهر مزاياه ولا يمكن في نظره أيضا أن تشذ دولة الاستقلال في تونس عن هذه القاعدة الأزلية حيث ستجد نفسها وهي تسعى لترسيخ روح التعاون والمؤالفة وتكوين
" دولة قائمة الذات منيعة قادرة على إنشاء حضارة متميزة خلاقة آثارها باقية على مر الدهر " ستجد هذه الدولة نفسها في صراع مستمر ضد روح المقاومة والمناوءة التي لن تأخذ في العهد الجديد بعد الاستقلال لباس النعرات القبلية مثلما حدث في الماضي بل ستعود في شكل جديد " في صورة أخرى قاتلة مخرّبة " مثل الانقلاب العسكري أو التمرد أو المعارضة" المعارضة الهدامة" من هنا يتضح لنا بعد هام في نظرية الأمة التونسية في علاقاتها ببرامج الدولة الوطنية كما اتضحت لدى منظري هذا المفهوم الدولة الوطنية إنما تضع نفسها في مسار البناء والإنشاء و المدنيّة والحضارة في حين أن جميع الأخطار الداخلية التي تسعى لتقويض مجهودها لا يمكن أن تكون إلا من إحياءات روح التهديم والتخريب أي أن الدولة الوطنية والنخبة المشرفة على حظوظها في سعيهما لترسيخ روح التعاون والمؤالفة ستعتبر أن كل معارضة تهديد لذلك المسار من هنا فإن إزاحة هذه المعارضة المهددة للمشروع الحضاري للدولة الوطنية إنما هو إقصاء لغريزة المقاومة التي تصبح في هذا السياق تخريبا ووندلة.
وفي هذا السياق النظري بدأت بالبروز إيديولوجيا الأمة ثم بعد ذلك إيديولوجيا الوحدة القومية التي ستنقل الأمة شيئا فشيئا إلى أن تصبح إحدى مكونات الدولة الوطنية.
وهكذا مرت الايديولوجيا الوطنية من ايديولوجيا تريد إثبات وجود أمة تونسية إلى ايديولوجيا تسعى إلى تكتيك مشروع حول الدولة الوطنية ونخبتها الحاكمة فتحولت تلك الايديولوجيا بالتدريج من تعبير محتمل عن مشروع حضاري إلى ايديولوجيا نظام حكم.
من هنا اتخذ هذا المفهوم، خاصة مفهوم الوحدة القومية، صبغته الاصطلاحية ومغزاه الايديولوجي بوصفه أصبح جزءا من سياق التبرير سياسة طرف معين أمسك بمقاليد الدولة الناشئة وأعلن أنه المؤتمن على مشروعها التحديثي . وبالفعل فإن الدولة الوطنية عملت - في إطار مجهود دعائي قوي سخرت له كلما كان متاحا لها أدوات التأثير وقنوات الاتصال وخاصة الإعلام والمدرسة - عملت على احتكار التحدث باسم الأمة وادعاء تمثيلها والدفاع عن وحدتها المهددة باستمرار
.

1 commentaire:

maxulaprates a dit…

merci pour la qualité de l'article :)